ليلى مارديني – الناس نيوز ::
مع تصاعد الأزمات الاقتصادية وصعوبة الحياة في سوريا في السنوات الأخيرة، وسلسلة القرارات العشوائية التي ضيقت الخناق بشكل كبير ومتصاعد على الإنسان السوري، والتي تعزوها تصريحات المسؤولين في حكومة النظام لعقوبات قيصر، والتي باتت شماعة يعلقون عليها ضعف الإدارة في الأزمات، وغطاء للفساد الكبير المستشري في جميع قطاعات البلاد، أصبح من الصعوبة أن تجد إنساناً سورياً مبتسماً أو راضياً.
بجولة في الشوارع الدمشقية تجد أنماطاً مختلفة من شرائح المجتمع السوري الذي أرهقته الحرب بنسبته الأكبر وزادته فقراً وبؤساً، إلى جانب أثرياء الحرب محدثي النعمة، الذين أصبح وجودهم حقيقةً تشكّل استفزازاً كبيراً، وتفاقم الغضب المتصاعد في الشارع السوري.
ما الذي يجعلكم سعداء حالياً ؟؟ إجابات متنوعة لهذا السؤال حصلت عليها جريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية الإعمال خلال مراسلتها في العاصمة السورية دمشق .
ابتسامات السخرية من القرارات الحكومية هي الأغلبية
قرار رفع الدعم الذي صدر مطلع فبراير/شباط الجاري من حكومة الأسد كان حاسماً مع تصريحات للمسؤولين عن استعداد الحكومة لدراسة الاعتراضات والنظر فيها.. مؤكدين أن الأوضاع لا تسمح باستمرار الدعم للجميع وبأن القرار ضرورة اقتصادية، هذا القرار خلق العديد من ابتسامات السخرية ومشاعر الغضب بشكل خاص للعائلات المسنة التي تشكل نسبة كبيرة للبلاد.
العم أبو خالد لم تشفع له سنواته الثمانون من الوقوف طويلاً في طوابير انتظار الحصول على ربطتي خبز لعائلته، ليفاجئ بعد ساعتين من الانتظار بحصوله على ربطتين بسعر 1300 ل.س للربطة الواحدة بدل 200 ل.س ليأتيه الجواب بعد استفساره عن الأمر بأن الدعم قد رفع عن بطاقتك الذكية يا عم، ليبتسم بسخرية وأسى قائلاً “اي حقكم عمي ترفعوا الدعم عن رجال عمره 80 سنة بدال ما تأمنوا له الطبابة والدواء”، ليعرف لاحقاً أن سبب رفع الدعم تعود لمغادرته البلاد قبل 10 سنوات وهو الذي لا يملك حتى جواز سفر!
العم أبو خالد الذي يمتلك موبايل نوكيا قديم لا يعرف أبداً التعامل مع أجهزة الموبايل الذكية، ويعتمد على ابنته رشا لمعرفة أحوال بطاقته عبر تطبيق “وين”، يوضّح قائلاً: ” نفدنا من الموت في الحرب بأعجوبة، تعرّضت مرتين للإصابة بشظايا الهاون، ومازلتُ حياً أرزق، ولم أغادر البلاد، كيف اكشفت البطاقة الذكية أني سافرت؟ لن أغادرها إلا عندما يأخذ الله أمانته قريباً..” ويضيف متسائلاً: هل تم استخدام اسمي لاستصدار جواز سفر لأحدهم مثلاً؟ طيب عالأقل يأمنوا دوا الضغط والسكري يلي بضلوا مقطوعين بالصيدليات وأسعارن كل يوم بترتفع حتى نقدر نتحمل قرارتن الحكيمة”، مضيفاً “أنا ما ضل بعمري شي، الحسرة على ولادنا وأحفادنا كيف بدن يكملوا عيشة هالذل”.
-الاستحمام والغسيل هو سبب ابتسامتي
السيدة أمينة خمسينية تعمل في وزارة الصحة وتسكن في جرمانا بريف دمشق، جاءت إلى دوامها بابتسامة مشرقة، بعد تمكنها أخيراً من الاستحمام، وتمكنها من اللحاق بوجبة غسيل تقول: “أشعر بالنعاس طبعاً لأنني لم أتمكن من الاستحمام إلا في الساعة الرابعة صباحاً، كما أنني تمكنت من تنظيف منزلي وتشغيل الغسالة.. هذا إنجاز عظيم يستحق الضحك والاحتفال أيضاً”.
جرمانا ، الحي الذي يقع جنوبي غرب العاصمة دمشق ، والذي يعاني من صعوبة كبيرة في وصول المياه إلى بيوت قاطنيها، نظراً للانقطاع الطويل بالكهرباء التي تنقطع 6 ساعات وتأتي ساعة في النهار، وبعد تدخل من وجهاء جرمانا وشيوخ العقل من الطائفة الدرزية استطاعوا إقناع “الدولة” بضرورة الحفاظ على التغذية الكهربائية الليلية دون انقطاع، من الساعة الواحدة ليلاً حتى السادسة صباحاً، حتى يتسنى للسكان تعبئة المياه، وتجنباً من حدوث حراك شعبي بدأ يلوح للمطالبة بمقومات الحياة الرئيسة، أسوةً بمحافظة السويداء.
الكثافة السكانية في جرمانا كبيرة ، و وصل تعداد سكانها إلى أكثر من مليوني نسمة، خاصةً بعد استقرار الكثير من النازحين فيها نتيجة الأحداث في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت تضم أطيافاً متنوعة من سكان محافظة دير الزور وأهالي الغوطة الشرقية وريف حلب وريف دمشق وحمص، إضافة إلى المواطنين العراقيين الذين استقروا فيها قبل سنوات ولم يغادروها، فأصبح من الاستحالة تعبئة المياه في الخزانات دون الاعتماد على مضخات المياه، وبات العديد من السكان تحت رحمة باعة المياه الجوالين، حيث يتراوح سعر الصهريج سعة 5 براميل بين 20 – 25 ألف ليرة، علماً أن هذه المياه للاستخدامات المنزلية، وغير صالحة للشرب.
-جواز السفر هو سبب سعادتي .
“أخيراً حصلت على جواز السفر.. سأغادر هذه البلاد دون عودة..”، هذا ما قالته نسرين مع ابتسامة فرح كبيرة، وهي فتاة في الثامنة والعشرين من عمرها، تعمل في مجال التصميم الجرافيكي في إحدى الشركات براتب 250000 ليرة سورية، حسمت أمرها بضرورة السفر إلى دبي للحصول على فرصة عمل قائلة: “أعرف أن الحياة في دبي مرتفعة التكاليف، ورحلة البحث عن عمل لن تكون سهلة، لكني سألتحق بمجموعة من صديقاتي اللواتي سبقنني وشجعنني على ترك البلاد، في أسرع وقت، أجمل سنوات شبابي أحرقتها في بلد الحرب ولم يبق هنا شباب للزواج، فأغلبهم غير قادر على الالتزام ويكتفون بعلاقات عابرة للتسلية، والرواتب لا تكفي أجرة المواصلات، عدا صعوبة الحياة دون كهرباء وماء وغاز فماذا انتظر؟”.
نسرين وضحت أن كل صديقاتها المسافرات هن جامعيات بشهادات هندسة واقتصاد وحقوق، ومع ذلك يعملن في دبي كبائعات تسويق للمنتجات العالمية في المولات انتظاراً لفرص أفضل، مضيفةً أن العمل في دبي حتى لو كان في الكافيهات أو المولات هو أفضل بكثير من البقاء والعمل في سوريا.
وبينت أنها حصلت على جواز السفر خلال ثلاثة أشهر قائلة: “تقدّمت بطلب جواز السفر في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021، وحصلت عليه في الشهر الأول من السنة الجديدة، لم أكن أملك مليون ليرة لدفعها للسماسرة واستصداره بشكل مستعجل، لكنني حصلت عليه أخيراً.. بعتُ إسوارتيّ الوحيدتين الذهبيتين لأستطيع دفع ثمن الفيزا وبطاقة الطيران.. سأسافر ولن أعود.. لم يبقَ لي شيء هنا..”.
واجب وليست مساعدة .
“رسالة المازوت والغاز في يوم واحد، لا شك أن أمي تدعو لي بكل صلواتها وأن الله استجاب أخيراً..”.
هذا ما قاله سمير سريعاً قبل توجهه لاستلام جرة الغاز بعد أن انتظرها مدة ثلاثة أشهر، وكان ينسق مع صديقه لاستعارة بيدونين فارغين سعة كل منهما 25 لتر لاستلام مخصصات عائلته من المازوت، البالغة خمسين لتراً.
لم يغادر سمير البالغ من العمر 45 عاماً البلاد، أسوة بأخويه الشابين الذين استقروا في ألمانيا خلال موجة الهجرة غير الشرعية عام 2014.
وبيّن أن إخوته كانوا مجبرين على السفر خوفاً من سوقهم إلى الخدمة الإلزامية، وزجهم في الحرب، أما هو فبقي مع والديه العجوزين، وزوجته وطفلتيه، ويوضّح أنه يعتمد بشكل كبير على ما يرسله إخوته من حوالات مالية بشكل دوري قائلاً: “صحيح أني بقيت لأسند أهلي في كبرهم ومرضهم، ولكن إخوتي لا يقصّرون من ناحية إرسال المال، فهم يرسلون مبالغ جيدة تمكننا من تأمين احتياجات المنزل والأدوية لأهلي العجزة، ودفع أقساط المدارس لبناتي كنوع من المساعدة.. لكنني أعتبره في الواقع واجبهم.. فنحن من تحملّنا هول الحرب والفقر والذل ومن واجبهم مساعدتنا ، وهذه قضية مثار جدل ينقسم بها المجتمع بين مؤيد ومعارض “.
وسمير كغيره من أغلبية السوريين الذين بقوا في البلاد، يعتمد بشكل كبير على ما يرسله أقاربهم من حوالات مالية، إذ تشير دراسات إلى أن أكثر من 70% من العائلات السورية تعتمد على الحوالات المرسلة من الخارج، خاصةً بعد التضخم الكبير وهبوط سعر صرف الليرة السورية التي وصلت إلى 3600 ليرة مقابل الدولار الأمريكي في السوق السوداء. و2500 حسب مصرف سوريا المركزي.
الابتسامات الصامتة مازالت تستفزهم .
هذا ما قاله لؤي الذي يروي ” للناس نيوز ” تعرّضه للكثير من المشاحنات مع بعض رجال الأمن في الدوائر الحكومية، لمجرّد أنه يبتسم ويقول: “أعرف أن ابتسامتي تستفزهم، لكني لا أملك إلا أن ابتسم بسخرية عندما يخاطبنا أحد العناصر كأننا قطيع وبلهجة حادة، تخلو تماماً من الاحترام.. الغريب في الأمر أنهم يستعملون مبدأ موجة باردة موجة ساخنة، لأنك تصادف في الوقت نفسه موظفاً يعامل المواطنين باحترام لامتصاص غضبهم من الشتائم التي تلقوها من زميله.. مازالوا يشعرون بالخوف من صمتنا ومن ابتساماتنا الساخرة، فهم ماهرون بقراءة ما يدور في العقول”.
في دمشق.. للابتسامة ألف معنى.. تارةً تراها تعبّر عن فرح حقيقي لحصولك على حق بديهي من حقوقك في أدنى مقومات الحياة، كربطة خبز أو رسالة غاز أو مازوت، وتارةً تراها مليئة بالسخرية والقهر للعجز الكبير لأبناء البلاد المتعبة، أحياناً تلمحها بشكلها العذب العفوي على وجوه أطفال بلد الحرب الذي ينتظرهم مستقبل مجهول، لكن أجملها على الإطلاق عندما تحصل على ساعة إضافية من الكهرباء.. وعلى تأشيرة سفر بعيداً عن هذه البلاد.