د – غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
لا شك أن ما عايشه الشعب السوري خلال العشرية الأخيرة لمأساة فريدة وتجربة خاصة في ممارسة القسوة والهمجية، وفي القدرة على تحملها أيضاً، يضاعف من خصوصيتها الزمن والظروف المحيطة من تطور معرفي وحضاري وتكنولوجي، كان ليقف منطقياً ضد آلة الموت المجاني والحرب الغريبة والفظيعة هذه، والتي يستسلم اللسان العربي، مثلاً، عاجزاً أمام اختراع تسمية مناسبة لها، ليجد في كلمة “أزمة” عزاءه، خصوصاً لمن يفضل البقاء على الحياد، كما أنها أعادت اختراع مفهوم “اللجوء”.
أنجزت الكثير من الوثائقيات حول أهوال ما عايشه السوريون، كما الكثير من المنجزات الإعلامية والصحفية حول حيثياتها، لم يقف الأدب على الحياد أيضاً وتمكنا من اكتشاف نصوص رائعة خلال العقد الأخير تمحورت حول الواقع السوري بين الوطن والمهجر، ولن تشكل تجربة “هدى بركات” استثناء مع رائعة “بريد الليل”، إضافة للكثير من الأقلام اليانعة التي برعمت موهبتها في عز المأساة، فجعلتها مادة لإبداعها كالشاب “يوسف الخضر” الذي أنجز نصاً روائياً غاية في الجمال عنونه بـ “هامستر”، كما تجربة شعرية مميزة عنونها بـ “قبر في الأرض قبر في السماء”، وكلا الكاتبين غاصا في تفاصيل الهجرة القسرية، وحاولا رسم يوميات سوريا زمن الحرب.
المتابع للشأن السوري سينتبه إلى شح المواد الفنية الدرامية أو السينمائية التي تناولت المأساة السورية، على الرغم من تسارع وتيرة الإنتاج الدرامي التلفزيوني عربياً وازدهاره خلال السنوات الأخيرة، والذي دعمه ظهور المنصات الرقمية المتخصصة، التي كسرت قالب المناسباتية عنه نسبياً.
وتعد الأعمال التي غاصت في تناول حيثيات وأسباب وحتى مآلات ما حدث في سوريا قليلة جداً، مقارنة بحجم الكارثة، وإن أبانت المحاولات الشحيحة صعوبة تقبل المشاهد العربي مثلاً لصور المعاناة في بلد لطالما صدر للفضاء العربي مسلسلات قوية حتى بإمكانيات قليلة، صنعت الفارق، كمسلسل “دنيا” في جزئه الثاني الذي عرض على الشاشات سنة 2015، وحاول تناول الواقع السوري خلال الحرب، أما السينما، والتي يعاني الفضاء العربي كاملاً من ضعف إنتاجي فيها، حتى مصر التي كانت إلى فترة قريبة تمثل الاستثناء الجميل في منطقة، إلا أن السنوات الأخيرة تشهد على جفاف متنامي في النصوص الجيدة القادرة على إقناع المشاهد والناقد، لكن الأفلام السينمائية التي تتناول المأساة السورية تكاد تنعدم.
تجربة مميزة خاضها فريق فيلم “سلام بالشكولا”، كندي الإنتاج والإخراج، سوري الهوية، الذي صدر منذ أشهر، بعد رحيل بطله “حاتم علي” الذي أدى دور رب عائلة “حداد” يضطر للهروب نحو كندا بعد تعرض مصنعه في دمشق للقصف، رفقة زوجته في أثر ابنه طالب الطب، قبل أن تلتحق به ابنته وحفيدته بعد أن يقضي صهره جراء اعتداء.
الفيلم هو تجسيد لقصة حقيقية لعائلة سورية، اضطرت لطلب اللجوء في كندا، وضعت جراحاتها جانباً، رافضة المساعدات، لتعيد تأسيس ما خسرته في البلد، وتكرس عادات سورية في صناعة الشوكولا لم يتعود عليها الكنديون.
يعرف المتجر الصغير نجاحاً باهراً، بل إن التجربة ستلحق رئيس وزراء البلاد “جاستين ترودو” الذي سيشيد بهذا النموذج.
تتقدم الأحداث ومعها تحليل سيرة لجوء، لتكشف عن هشاشة السوري في غربته، صعوبة تحقيق الأحلام، في أرض الأحلام الممكنة، خصوصاً بالنسبة لطالب الطب الذي سيضطر للتخلي عن طموحاته حتى يقف إلى جانب والده، بعد صراع داخلي ومع باقي أفراد العائلة، قبل أن تقف الموروثات في وجهه، ويعود إلى الحضن الذي لن يجرؤ يوماً عن قطع حبال الود معه، بل سيعيد إنتاجه. ويظهر جلياً من خلال صورة أب الطبيب، الرجل التقليدي، المتدين، الذي يرفض الانقطاع عما صنع حياته السابقة.
يصور حياة المهجر القسري بضعفها وطرافتها أيضاً، كالمشهد الذي يحكي رفض الوالد لأخذ قرض، لأنه يعتقد بحرمة “الربا”، ما يضطر أصدقاءه لتطوير حيل وارتجال حلول لإقراضه مالاً دون فوائد، سيعيده مباشرة بعد تحقيق عوائد لمبيعاته، قبل أن يتحول المتجر الصغير على ناصية شارع مسكنهم إلى مصنع كبير، يحكي قصة نجاح انطلقت من المأساة.
لا يخوض الفيلم كثيراً في قصص النساء، تؤدي دور الأم الممثلة السورية “يارا صبري” التي ستبرع في تقديمه، ترفض ابنتها تحمل مسؤولية والديها والنيابة عن أخيها متعللة بظروفها كأرملة وأم لطفلة بسن صغيرة، ومعها عدم استعدادها لخوض تجربة انفتاح وتغيير ممكنة.
الفيلم وإن بدا في مجمله، موجها لجمهور كندي، وحتى غربي حول ضرورة تقبل الآخر المختلف، ذي الثقافة المجهولة بالنسبة للكثير من المواطنين، والقادم من البعيد الذي اختزلته الشاشات والصور في مشاهد الدمار والتطرف، فهو صك إضافي لتلميع حكومة وسياسة بلد، يبدو ذلك واضحاً من التجربة الفظيعة التي سيضطر طالب الطب لخوضها على الحدود الكندية-الأمريكية، حين يحتجز على من طرف حرس الحدود رغم امتلاكه دعوة رسمية من حاكم بلدة لتقديم محاضرة، ويتعرض لشتى أنواع الإهانة والتشكيك، بسبب هويته.
لكن وعلى العموم تبدو تجربة “سلام بالشوكولا” تجربة مهمة في توظيف أداة فنية أخرى بغية نقل المأساة السورية، التي يبدو أنها ستؤسس لتيارات فنية لا تشبه في شيء ما سبقها، قد تكون التسمية الأنسب لها “فنون اللجوء” ومنها “سينما اللجوء”، التي تختلف جذرياً عن سينما المهجر والمهاجرين التقليدية، ولكنها لا تبدو مستعجلة في الكشف عن أوراقها، وستأخذ وقتها حتى تتطور وتبلور أدواتها.