د . منير شحود – الناس نيوز ::
الوحة الرئيسة للفنان السوري بسيم الريس .
في أحد منشوراتي على فيسبوك تعرضت إلى مرحلة الانتداب الفرنسي، مادحاً بعض الإنجازات المدنية الفرنسية، كبناء الطرق والمدارس، فجن جنون إحدى الحقوقيات، معتبرة أن ذلك يسيء إلى شهداء الثورات والأبطال والمجاهدين… الخ.
بالمناسبة، الإدارة المدنية الفرنسية كإرث حضاري شيء والسياسة الفرنسية الاستعمارية/ الانتدابية شيء آخر، حيث اتسمت الأخيرة بالفشل والتخبط وارتكاب الحماقات أحياناً، ولا يمكن مقارنتها بالسياسة الإنكليزية، فكانت الفرنسية تقليداً متأخراً لها، كما حدث لمعاهدة 1936 بين فرنسا وسوريا، كتقليد لمعاهدة 1930 بين بريطانيا والعراق.
ما سبق كان مقدمة للحديث عن ضرورة التجرُّد قدر الإمكان عند التعامل مع الأحداث التاريخية بسلبياتها وإيجابياتها، ويعدُّ ذلك واجباً أخلاقياً بالنسبة للمؤرخين والباحثين. ليس على المؤرخ أن يكون مثالياً بنسبة مئة في المئة، ويكفي أن يكون إقحام عواطفه الشخصية في حدود نسبة الشذوذ الطبيعية عن كل قاعدة، ولنقل بأنها تتراوح بين 5 و 10 بالمئة. لو طبقنا ذلك على تاريخنا السوري الحديث نجد العكس أحياناً، فكأن التاريخُ قد كُتب ليؤيد وجهة النظر هذه أو تلك لا ليوصِّف الواقع الموضوعي بعجره وبجره، فيقوم المؤرخ بإسباغ عواطفه مباشرة أو خلسةً على الحدث، ويحاول توظيفه ليخدم عقيدته أو جماعته… الخ.
تساعد مقاربة الواقع بتجرد في توفير الأساس الموضوعي لفهم الأحداث في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، ولتصبح معطيات الباحثين قابلة للتوظيف في المجرى التاريخي العام، لا أوراقاً تتراكم وتتعفّن على جوانب التاريخ كما يحدث لأوراق الخريف. من جهة ثانية، وحين يبني مؤرخ موضوعي معطياته على المصادر غير الموضوعية تنطبق عليه مقولة “ناقل الكفر ليس بكافر”، ولكن ما الفائدة إذا كان الأساس سيئاً بينما يظهر البناء على أحسن حال؟ في هذه الحالة، على المؤرخ المجتهد أن يفكك المعطيات التاريخية ويحللها لا أن ينقلها وحسب، فيدخل في سلسلة من “العنعنة” التاريخية التي تكفي لضياع الحقيقة أو جلّها. وهذا ما حدث في موضوع تناقل الأحاديث النبوية، حتى وصل الأمر إلى درجة اللامعقولية، مع أن التسلسل النقلي يبدو متماسكاً بذاته ولذاته ولكن خارج التاريخ أو في محاذاته.
لوحة الفنان السوري بطرس المعري .
الموضوعية في التاريخ هي انعكاس للموضوعية في الحياة ككل، فمن يقدس والده أو والدته سيجعل من زعمائه التاريخيين أيقونات لا يمسها الضلال، ومن يتعامل مع أهله بما هم عليه وبما يمتلكونه من سلبيات وإيجابيات سيتمكن من الكتابة عن النظر إلى الشخصيات التاريخية بدرجة أقرب إلى الموضوعية. الشرط اللازم هنا هو النضج، بالمعنى الشخصي والتاريخي. فمن الطبيعي أن تكون نظرة الطفل نحو والديه مثالية، ولكن من غير الطبيعي أن تبقى كذلك عند الشخص الراشد، وهذا ما ينطبق على النظرة إلى التاريخ أيضاً. وبوسع المرء أن يستعيض عن عواطفه نحو التاريخ باحترام معطياته، كما يحصل لراشدٍ في تعامله مع والديه، فيحل إكرامهم واحترامهم محل العواطف الساذجة، على صدقها!
من هنا قد يبدو النظر من بعيد إلى الحدث أقرب إلى الموضوعية، لأنه مجرد من العاطفة. ولكن، مهلاً، قد لا يكون ذلك مجرداً من شوائب أخرى، كالمصالح السياسية وغيرها، كما في حالة الاستشراق. ومع أن المصالح قد تكمن وراء تحليلات المستشرقين، إلا أن الاستشراق عمل على سد ثغرة “التعاطف التاريخي” التي تسم دراساتنا عامةً.
كيف يبدو تاريخ سوريا المعاصر من خلال كتب مؤرخينا المدرسية؟ يمكن القول بأنه لا ينطبق في أحيانٍ كثيرة على التاريخ المعاش، ما أدخلنا في حالة فصام معرفية بمختلف أشكالها. فالزعيم الوطني شخصية نمطية محنطة، أي وطني حتى العظم، مع أن الوطن السوري ذاته لم يكتمل، فقد يكون زعيم وطني بالنسبة لأحدهم هو مجرد قاطع طريق بالنسبة لآخر، ولا حل وسط!
هنا تتدخل المؤسسات الثقافية للسلطة بقوة لتكريس المفاهيم وأسطرة الشخصيات التاريخية، فكل بعد عن الواقع هو لمصلحتها، من أجل إلهاء الناس والقبض على مقدراتهم وإضافة جرعة من التقديس إلى مجتمع متخمٍ به، فينامون في “العسل التاريخي المغشوش”. يستمر الأمر كذلك إلى أن ينهار البناء السياسي وتحصل صدمة الوعي (وعي حقيقة الواقع لتغييره) أو اللاوعي (اجترار التاريخ مرة أخرى).
بكلام آخر، تعمل السلطة على “فلترة” التاريخ وإعادة نمذجة شخصياته للناس عبر المسلسلات التلفزيونية وغيرها. فالمسلسلات موجهة بشكل خاص للذين لم ينالوا نصيبهم الكافي من “حليب” السلطة (التعليم المؤدلج)، فتقدم لهم جرعات مكثفة من العواطف “الوطنية” التي لا تترك مساحة كافية للتفكير وإعمال العقل. إن المسلسلات من هذا النوع ربما تصلح كأفلام كرتونية لتعريف الأطفال بتاريخهم وهم يتناولون “بوشار” المساء وحسب.
إن التشويه الذي طال تاريخ سوريا مركب ومعقد، فكيف لبلد لم يعرف حدوداً جغرافية ثابتة أن يُكتب تاريخه بموضوعية؟ فحتى سوريا سايكس بيكو تقلصت جغرافيتها من 300 ألف كيلومتر مربع إلى 180 ألفاً خلال فترة الانتداب الفرنسي فقط. ثم لحق الجولان السليب بأخيه لواء الاسكندرون المسلوب قبله، ولا أمل واقعي في عودتهما في المدى المنظور.
ومع أن النظر إلى الواقع الحالي يجعل الأمل باستعادة سوريا في آخر حدود دولية معترف بها بحاجة إلى معجزة وطنية، من أجل لمّ شمل التشتت الجغرافي والشتات البشري، فإن الأمر ليس مستحيلاً إن فكرنا بطريقة جديدة لا مكان فيها للمشاعر الجياشة على حساب المنطق والمصلحة، بعد المآل الكارثي لسياساتنا السابقة، وعلى طريق بناء سوريتنا الجديدة التي تكون قد أخذت العبر من دروس التاريخ القاسية.