[jnews_post_author ]
يُروى (بغض النظر عن صحة الرواية/أهميتها في مضمونها) أن أمين الحافظ عندما كان “رئيس مجلس قيادة الثورة” أبدى انزعاجه من الاضطرابات والاحتجاجات التي كانت تنطلق من جامعة دمشق، فاستدعى رئيس الجامعة وسأله كيف يمكن لنّا كسلطة السيطرة على الجامعة، ليجيبه رئيس الجامعة مخاطباً إياه “سيدي” علينا القيام بالآتي: إدخال الحزب والأمن إلى الجامعة، وجعل صوت الطلاب (اتحاد الطلبة) أعلى من صوت الأساتذة. ويُقال أن أمين الحافظ -المعروف بتهوره وألفاظه المنفلتة من ضوابطها- استاء منه وقال ما مضمونه “قلت لك أريد أن أسيطر على الجامعة لا أن أخربها”. طبعاً ما رفضه أمين الحافظ أصبح واقعاً يفسر ما حدث.
انطلاقاً من ذلك يمكنني القول بأنه بقدر ما تكون الحياة السياسية تنافسية بقدر ما يكون مستوى التعليم متقدم، بل بقدر ما كان التعليم تنافسي- في فضاء من الحرية- بقدر ما كانت الحياة السياسية حيوية. يُقال: “إذا لم تكن السياسة هي كل شيء فهي في كل شيء”، ويُقال أيضاً: “لا يوجد تعليم محايد، إما أن يكون التعليم أداة قهر، أو أن يكون أداة للحرية”. ولذلك “أصلحوا التعليم ثم أصلحوا به الميادين الأخرى”، وفي مقدمة هذه الميادين الحياة السياسية.
إن ما حدث ويحدث في بلادنا يُحتم علينا وضع مسألة إعادة صياغة العلاقة بين السياسة والتعليم كأولوية قصوى لبناء سوريا الحديثة، التي فضائها الحرية وأساسها المواطنة.
يمكننا النظر للتعليم من عدة زوايا لمواجهة للتحديات التي تواجه المجتمع السوري لبناء دولته الحديث: التعليم كوسيلة لترسيخ الهوية، التعليم كوسيلة لتحقيق التنمية، التعليم كوسيلة مستمرة لرسم وصياغة العقد الاجتماعي، ينقل المجتمع من القمع إلى الحرية.
التعليم كان وما زال أحد أهم مجالات الصراع السياسي والاجتماعي، حيث كان قطاع التعليم في النصف الأول من القرن العشرين أحد المجالات الهامة التي ارتكزت عليها القوى الوطنية المناهضة للاستعمار ولتحقيق التحرر والاستقلال. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين شكل أحد أجهزة الدولة الوطنية، التي تسير بتزاوج بين الإيديولوجيا بالعنف، لتدجين أو نمذجة المواطن.
وبشكل مجرد، يمكننا النظر إلى التعليم كسلطة من حيث المآل أو الهدف السياسي من خلال ثلاثة مفاهيم:
- الأول: المدرسة/الجامعة “عميل للسلطة أو الدولة”، كما يقول جون ستيوات ميل. فهي مجرد وسيلة لصهر الناس وجعلهم متشابهين، يُصبون في قالب إيديولوجي صممته السلطة. وبذلك يصبح التعليم طغياناً على العقل كما ساد في الأنظمة الشمولية/الإيديولوجية.
- الثاني: التعليم الحكومي أداة لنشر الفضيلة، كما تقول سيمون بوليفار: “دعونا نعطي جمهوريتنا سلطة رابعة تفرض على الشباب وقلوب الرجال… دعونا نُقيم هذه السلطة العليا لمراقبة تعليم أبناءنا وتنقية الجمهورية من كل فاسد…”. وهذا البعد الأخلاقي رغم أهميته، إلا أنه لا يمكن أن يُؤخذ به بالشكل الطوباوي.
- الثالث: التعليم أداة للتوفيق بين النظام والحرية. وهي مهمة غير يسيرة، تحتاج للكثير من الاستثمار في الجهد وفي المال، ولكن غير مستحيلة. فالتعليم لا يعني تدريس الناس ما لا يعرفونه (خصوصاً في عصرنا الحالي عصر المعلومات)، إنه عمل صعب ومضن ومتواصل يجب القيام به باللين والمراقبة والتحذير والوصية والتشجيع… والأهم من ذلك بالاقتداء من قبل من في السلطة: “تكتسب المعرفة بالتعليم، وتكتسب القيم بالاقتداء، وتكتسب الفضيلة بالتصرف أو السلوك”. فكما يقول اللورد بروغهام: “التعليم يجعل قيادة الناس أسهل، لكن سوقهم أصعب، ويجعل حكمهم أسهل، لكن استعبادهم مستحيل”. فالتعليم ليس مجرد عملية تبنى على إكساب المعارف والمهارات النظرية دون أن ترتكز على المحيط أو البيئة المؤثرة فيه (المجتمع والسلطة). فالبيئة هي البنيان المعياري لتقييم التعليم. وهذا النوع من التعليم المرتبط بالمحيط (المجتمع والسلطة) لا تتحقق الغاية منه بدون أساتذة يتسمون بالمهنية العالية والنزاهة وسلطة تتسم بالعقلانية في قراراتها. وهذا يفترض ألا تتحول المدارس والجامعات إلى آلات غسيل للدماغ، أو أدوات لفرض إيديولوجيا ما. أي يجب ألا تكون أداة سيطرة للسلطة. وبالتالي يُفترض بأن يتمتع فضاء التعليم بقدر واسع من الاستقلالية “الحرية”، الشرط الأساسي لإبداع وتكون الوعي الحقيقي عن المجتمع.
لذلك في سعينا لبناء سوريا حديثة، قد تكون إحدى أولوياتنا هو منع تكرار تجربة تسييس التعليم نحو تبني إيديولوجية محددة، بمعنى منع إعادة إنتاج ما كان يسمى “الصواب السياسي” القائم على ثنائيات الرفض أو التخوين: يسار/يمين، ليبرالي/اشتراكي، علماني/متدين، قومي/انعزالي…الخ. وهذا يتطلب تكريس “الحرية الأكاديمية” كمبدأ وطني/دستوري. فمدى اتساع الحريات الأكاديمية يُشكل مقياس لصحة العلاقة بين السياسة والتعليم. فالتعليم باعتباره رسالة إنسانية أولاً ووطنية ثانياً وحضارية ثالثاً يتطلب مساحات واسعة من الحرية، تسمح له بإنتاج مجتمع يتمتع بفضاء سياسي تنافسي، تمكنه من الاستثمار في الإبداع والابتكار كولد ومنتج للتنمية.