باريس – الناس نيوز .
لا يخرج كتاب “غرق الحضارات” للروائي والكاتب اللبناني الفرنكوفوني العالمي أمين معلوف عن الخط الذي اختطه لنفسه، فهو مثقف موسوعي ينطلق دائماً من التاريخ ليصل للحاضر، ويتنبأ بالمستقبل.
صدر “غرق الحضارات” باللغة الفرنسية، ونشرته دار الفارابي باللغة العربية مؤخراً، بترجمة لنهلة بيضون، وهو يأتي كذروة للسلسلة التي بدأها معلوف بكتابيه الهويات القاتلة واختلال العالم ، واللذان ترجما الى عدة لغات عالمية ، وكتابه الحالي يأتي ليدق ناقوس الخطر، وربما كنهاية حزينة، كما أغلب روايات معلوف ، التي لا تغيب عنها قضية الهوية وصراع الأيديولوجيات والخوف على مصير العالم، وضرورة التعايش بين الثقافات المختلفة، على قاعدة من العدل والمساواة وليس الإقصاء والتهميش ، انطلاقًا من رواية ” التائهون” إلى رواية القرن الأول بعد “بياتريس” ورواية “سلالم الشرق “
أمين معلوف المفكّر والأديب اللبناني من مواليد بيروت 1949. درس الاقتصاد والعلوم الاجتماعيّة في مدرسة الآداب العليا وجامعة القدّيس يوسف ، قبل أن يعمل في الملحق الاقتصادي لصحيفة “النهار” البيروتيّة، ثمّ الق سم الدولي فيها خلال الحرب اللبنانية ، ليهاجر معلوف لاحقا إلى فرنسا ويعمل في مجلة “إيكونوميا” الاقتصاديّة ويترأس تحرير مجلّة “جون أفريك”، ولم يتخلّ عن عمله مع النهار ، مستمرا في “النهار العربي والدولي”.
قدم معلوف عدّة روايات وكتب تاريخية وفكرية قيمة وانتخب عضوًا في الأكاديميّة الفرنسيّة في شهر حزيران يونيو 2011 خلفا لعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس.
في نهاية كتاب” الهويات القاتلة” تمنى معلوف، أن يتناول أحد أحفاده الكتاب وينفض الغبار عنه، ويبدأ القراءة مستغرباً أن في عصر جده كان هناك ضرورة للتكلم في هكذا موضوع، أي أن تكون كل مشكلات الهوية في العالم قد حلت!
وكذلك كان متفائلاً في كتابه اختلال العالم الذي صدر عام 2009بعد وصول الرئيس الاميركي بارك اوباما ، ذي الأصول الأفريقية باراك أوباما الى منصب الرئاسة ، ولكن تفاؤله هذا لا يبدو أنه قد استمر طويلاً، خصوصاً بعد النكسة التي أصيبت بها ثورات الربيع العربي، ووصول الرئيس دونالد ترامب الى سدة الحكم في أمريكا، وارتفاع أسهم اليمين خصوصاً في أوروبا، على خلفية هجمات التطرف ، سيما ان معلوف يعول كثيرا على مسؤولية أوروبا في ايجاد حلول ومخارج لأزمات العالم …
وينطلق معلوف غالبًا من الذاتي إلى الموضوعي، ومن السيرة الذاتية إلى التاريخ والاجتماع السياسي للعالم مع التركيز على المنطقة العربية، وكأن كتاب ” غرق الحضارات” هو ناقوس الخطر، والإنذار الأخير، ما لم تقم أوروبا بمسؤولياتها الحضارية والأخلاقية، بعد تفعيل الاتحاد الأوروبي، عقب خروج بريطانيا منه، والتصدي لليمين المتطرف.
مسكونٌ بالشرق الأوسط
بعد أن يتحدث معلوف عن اصوله اللبنانية وإقامة أهله هناك ( وفق كلامه لتلفزيون فرنسا 24 ) حيث كانت مصر حينها مركز استقطاب عالمي، ثم عاد أهله إلى لبنان ، خشيةً من موجات القومية العربية المعارضة للأقليات ومصالحها وممتلكاتها، ليقضي طفولته وشبابه في لبنان، قبل أن يهاجر إلى فرنسا بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، على إثر اشتباك بوسطة منطقة عين الرمانة، التي كان معلوف يسكن قريباً منها.
هاجر معلوف من الشرق الأوسط ولكنه مازال مسكوناً بهمومه ومشاكله، وسخر له أغلب كتاباته.
عبد الناصر ومانديلا
في القسم الأول من ” غرق الحضارت ” يتناول تجربة الرئيس جمال عبد الناصر، وهي التجربة التي تكلم عنها كثيراً في كتاب “اختلال العالم”، ولكن يبدو أن لديه شيئاً جديداً ليضيفه في هذا السياق، وهنا يقارن بين تجربة الأخير وتجربة احد ابرز رموز الحرية في العالم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا، فعبد الناصر كانت تجربته الوحدوية تقوم على فكرة تذويب الجميع في بوتقة واحدة، دون السماح بأي شكل من أشكال الاختلاف السياسي أو القومي أو الاثني، بينما مانديلا أبقى خصومه “البيض” الذين مارسوا كل أنواع التمييز العنصري ضده، وعلى عكس عبد الناصر الذي أدت عمليات التأميم التي نفذها إلى هجرة أغلب أصحاب رؤوس الأموال، في حين رأى مانديلا أن بقاء المختلفين عنه، بل المضطهدين له سابقاً، هو غنى لبلده اقتصادياً واجتماعياً.
وهنا يرى معلوف أن العالم العربي ضلَّ الطريق بعد استقلال البلدان العربية عن الدول الغربية، إثر انتهاء الحرب العالية الثانية، أو اختار بإرادته السير عكس تيار الحضارة، برفض دعوات الإصلاح، وعدم سلكه الطرق التي أوصلت الغرب إلى حضارته الفعل ، وهو أجرى مقارنة بين حال البلدان العربية حين وقوعها تحت الاحتلال وبعد تحررها وحكمها من أنظمة استبدادية، حيث فضل الأولى على الثانية.
1967: العرب ضحية الهزيمة والإسرائيليون ضحية الانتصار
ويعتبر الكاتب اللبناني -الفرنسي أن “اليأس العربي بدأ عام 1967″، ويرى أن “العرب لم يتخطوا لحظة الهزيمة وإسرائيل لم تتمكن من الإفلات من فخ الانتصار، لأنها اعتبرت أنها غير مضطرة لتقديم تنازلات”، مضيفا أن “العرب كانوا ضحية الهزيمة وإسرائيل كانت ضحية الانتصار”، ويستبعد أي تسوية للصراع العربي الإسرائيلي في “المستقبل المنظور”.
هزيمة حزيران عام 67 أمام إسرائيل كانت، كما يرى معلوف، المنعطف الخطير في منطقة الشرق الأوسط، وهو يشبهها بما حدث لأمريكا بعد الهجوم الياباني على مضيق “بيرل هاربور” عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، واحتلال ادولف هتلر لفرنسا في 1940. ولكن بينما استفاقت أمريكا وفرنسا من الهزيمتين، لم تستفق مصر والعالم العربي من وقع الهزيمة حتى الآن.
وبرأي معلوف، عانى العرب بعد الهزيمة من “فقدان الأمل الانتحاري” الذي ظهر في العالم العربي الذي لم يتعافَ من هذه الهزيمة على الإطلاق. ويقول إن أمل الوحدة العربية التي وعد بها عبد الناصر والتي أيقظت الطاقات والآمال، تبددت تماماً عقب هزيمة 1967.
كما ان غياب عبد الناصر بعد تلك الحرب بفترة قصيرة شكل فراغا لم يملؤه احدا…
وبدلاً من ذلك، تم تمهيد الطريق “لقومية ذات مكون ديني قوي ” غير أن الإسلاموية المتطرفة تسببت في توتر وانقسامات في المجتمعات العربي، ويمكن رؤية ذلك بوضوح في “الربيع العربي”، فقد كان هناك سعي جاد في كثير من البلدان العربية لإقامة مؤسسات ديمقراطية وعصرنة المجتمعات. وأضرّت الهجمات الإرهابية لعدد من الحركات الإسلاموية بصورة المسلمين والعرب في العالم بشدة وقادت إلى عزلة غير مسبوقة. المسلمين والعرب لا يجدون أنفسهم فقط في صراع مع الغرب، بل مع الدول الكبرى التي كانت يوماً ما من حلفاء عبد الناصر، مثل الهند والصين وروسيا.
ثورة إيران وأثرها
موت عبد الناصر خلق أزمة زعامة في العالم العربي، حيث لم يستطع أي حاكم أن يملأ الفراغ التي تركه عبد الناصر، وبعد ارتفاع أسعار النفط في منتصف السبعينيات خسرت مصر جزءً كبيراً من دورها القيادي لصالح البلدان الخليجية الغنية التقليدية، فضلاً عن حكومات قومية التوجه وهي نفطية كالعراق وليبيا، غير أن الثورة الإسلامية الشيعية التي قادها علي الخميني في إيران عام 1979من القرن الماضي، كان لها أكبر الأثر السلبي على حكومات وبلدان المنطقة كافة، حيث تم بعدها ربط القومي بالديني، وازدادت عقبها عمليات العودة للماضي ( تاريخية العلاقة السنية الشيعية ) لاجتراح الحلول، بدل التطلع للمستقبل، فضلاً عن نمو حركات متطرفة كردة فعل تصدير الثورة الشيعية.
الردة الكبرى
أما “الردة الكبرى” في فكر أمين معلوف كما يقول في غرق الحضارات فقد كانت مع نهايات السبعينيات من القرن الفائت، حين بدأ العالم الغربي ينحدر على كل المستويات، وشرعت الأحزاب والحركات اليسارية والثورية في التراجع أمام الأحزاب اليمينية والمحافظة التي وصلت إلى السلطة في بريطانيا، مع مارغريت تاتشر، وفي الولايات المتحدة الأميركية، مع رونالد ريغن. وفي تلك الفترة، وصل رجال دين متشددين إلى الحكم في إيران ، واكتسحت الظلمات العالم العربي ومنه في بلاده لبنان. ويعود ذلك إلى أن العالم العربي اختار “الطريق الخطأ” ، فسبب سلوك حركة النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، لم تتمكن المجتمعات العربية من الاستجابة الفعلية لدعوات الإصلاح والتحديث، بل ظلت مشدودة إلى الماضي، رافضة كل ما يسمح لها بالمساهمة في الحضارة الجديدة.”
ضرورة إيجاد الحلول
حالٌ قد يغرق العالم معه في الفوضى القاتلة إن لم تتوصل البشرية إلى إيجاد الحلول الضرورية والناجعة في أقرب وقت ممكن، حسبما يرى المفكر والكاتب العالمي امين معلوف الذي نال قبل أسابيع وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، وسلمه إياه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه.
ويشير معلوف إلى أن هدف كتابه هو الحرص على مستقبل الأجيال، وعدم فقدان الأمل في نهوض المشرق العربي من كبوته الحالية، الأمر الذي سيساهم في نهوض دول وحضارات العالم وإنقاذها من الغرق في مستنقعات الشوفينية والتخلف والطائفية…