ريما بالي – الناس نيوز ::
كنت أتابع منذ أيام حلقة من “بودكاست نادي صنّاع الحرف” الذي يديره الكاتب الصديق سليم بطّي.
استوقفني في أثناء متابعتي تلك الحلقة سؤالًا طرحه سليم المحاور على ضيفه يومها وكان الكاتب السوري د. راتب شعبو/ معتقل سياسي سابق/، سؤالا قد يبدو كلاسيكًيّا ومكررًا، لكن الإجابة عنه لم تكن كذلك:
- حسب تجربتك المريرة في المعتقل، أي ألم كان الأصعب احتمالًا؟ الجسدي أم النفسي؟
الإجابة المتوقعة الأولى التي تخطر في ذهن أي متابع تأتي سريعًا: النفسي طبعًا، ولكنني وفي أثناء البرهة الصغيرة جدًا التي اتخذها د. راتب قبل أن يجيب، عرفت أنه لن يقول كذلك، وصدق إحساسي حين أكّد: الجسدي طبعًا. وذلك عكس ما تعودنا أن نسمع من كليشيهات على نمط: “طعن الخناجر ولا حكم النذل ليا….”.
جلبت تلك الإجابة سربًا من الأسئلة حط كحمامات جائعة في ذهني، اقتات بعضها من التعليل الذي ذكره الضيف، وبقي بعضها الآخر ينقر رأسي منبشًا في جنباته.
لاحقًا، برّر راتب شعبو إجابته بما معناه: “التعذيب النفسي مهين والإهانة مؤلمة، لكن هذا الألم ينبع من داخلنا، وداخلنا ملكنا، وفي مجال سيطرتنا، أي أننا قد نستطيع بعد فترة معينة أن نتعلم كيفية حماية أنفسنا، بعملية تشبه عملية تبّوغ البكتيريا، نصنع طبقة عازلة ونقوقع أرواحنا داخلها في حالة سبات، فلا تؤثر بها بعد الممارسات المؤذية، أما التعذيب الجسدي التي يقع على أجسامنا، التي هي غلاف خارجي لا سيطرة لنا عليه، فلا نملك أمامه أي وسيلة حماية، الأعصاب تعمل وحدها بطريقة غير إرادية وتحمل الإشارات إلى أذهاننا حيث تترجَم إلى آلام هائلة لا نعرف كيف نسكتها أو نهرب منها، أجسادنا الخائنة هي نقطة ضعفنا، تتواطأ مع الجلادين بحيث نتمنى لو أنها لم تكن، كنت بالتحديد أتمنى في لحظات كثيرة لو أنني خلقت بلا قدمين، لشدة ما أوجعني الضرب الذي كنت أتلقاه عليهما.” - تلك الإجابة التي وقفت عندها طويلًا، قادت أفكاري إلى السير في دروب مختلفة، كل درب منها كان يستقبلني بسؤال، والأسئلة الأهم التي تكررت وألحت عليً في كل تلك الدروب كانت: ما مدى صحة أن النفس والجسد هما كيانان منفصلان، يتألم أي منهما ويتلذذ بمعزل عن الآخر؟ ما مدى الاندماج بينهما، وما عمق الفواصل؟ ولماذا تعد النفس دائمًا أرقى مكانة من الجسد؟ ماهي كينونة النفس بحد ذاتها؟ لماذا تحوم حول ملذات الجسد سحابات من احتقار وإدانة وشعور بالذنب، بينما تعد أوجاعه أدنى مرتبة، بل يطالب الإنسان بتحملها دون أن يشتكي علها تطّهر روحه.
- بالنسبة لي، وبمعزل عن اطلاعي على أي مرجع، أشعر في أعماقي أنني فعلًا لا أستطيع أن أميز الحدود التي تفصل نفسي عن جسدي، أشعر بهما كيانًا واحدًا لا يتجزأ، فعندما تتألم روحي أو يتألم جزء من جسدي، أتألم كلي، أتألم ببساطة، ويعميني الألم عن تمييز مصدره وتحليل مآله وتبعاته. وحين تنتشي روحي أو يتلذذ جزء من جسدي، أبتهج كلي، تنتعش بشرتي، تلمع عيناي، ويرفرف وجداني طربًا.
أما بالعودة إلى المراجع، فقد وجدت في أثناء بحثي عما قيل حول هذه الثيمة بالذات، مقالًا قيّمَا في مجلة الجديد الإلكترونية للباحث والروائي العراقي سامي البدري بعنوان “حق وجود الجسد”. سبقني سامي البدري إلى الغوص في هذا الموضوع، وطَرَحه بطريقة أكاديمية فلسفية شاملة، اهتمت بتحليل وسبر الأسباب التاريخية التي رسخت فكرة تحقير الجسد لصالح النفس، وفيما يتقاطع مع فكرتي التي أثارها حوار راتب شعبو وسليم بطي، أقتبس من المقال المذكور المقطع التالي دعمًا لوجهة نظري وتوضيحًا لها:
“من أي وعي ومدركات قامت فكرة الفصل بين الجسد وذات الإنسان (بمركزها العقلي)؟ وأي ضوابط رؤيويه تلك التي ربطت الجسد بالرذيلة، وكأن الجسد مفصول عن العقل، أو كأنه يتلقى أوامره فعلاً من غرائزه، من دون تلقي أوامر من الدماغ”
“إن الجسد، بجزئه الحسي، ليس جزءاً مقحماً أو طارئاً على ذات الإنسان، بل هو شكل تمظهره الذي يعرف به، كذات وكينونة وجود، من خلاله وعبر تجسده المظهري، والذي يغيب الإنسان، كذات، بغيابه أو اختفائه أو موته.”
وأتذكر فيما أتذكر (وهل أنسى؟)، بما أننا نتحدث عن الألم، ذاك الذي طالنا بسبب الحرب، أوجعتنا أخبار الدمار والقتال والدماء التي سفكت، لكننا توجعنا أكثر عندما طال الأذى أجسادنا، التي بردت وجاعت وعطشت وجرحتها القذائف واقتطعت منها أطرافًا وأجزاء وأحباء، هل كان ذاك الألم نفسي أم جسدي؟ من يكترث بالتمييز؟ كان ألمًا دمّر الأجساد والأرواح، لم ينج منه حتى من نجا. - حسب تجربتي، لا أعتقد أن الألم الجسدي يطهر النفس ويصقل الروح ويجلو الوجدان، الألم الجسدي يدمر الروح والنفس والوجدان، تمامًا كما يفعل الألم النفسي بالجسد، إذ أنه من المعروف أن كثير من الأمراض العضوية ذات منشأ نفسي.
وبالنهاية، أين المفر؟ شئنا أم أبينا، حلّلنا أم تجاهلنا، الألم هو ركن من أركان حياتنا، ولا حياة من دون ألم، ولكن، إلى جانب الألم، ثمة فرح، وفن، وجمال، ولذة (وكثيرًا ما يتمخض الألم عن الفرح والفن والجمال). - هي الحياة هكذا، ثنائيات ومتضادات، لا يمكن فصلها أو تجزئتها، وبما أننا وُهبنا الحياة فلنعشها بكل أبعادها، ولنعشها بكامل كينونتنا المؤلفة من اندماج الجسد بالنفس، كينونة واحدة، من العبث أن يتم فصلها أو تجزئتها، أو تفضيل جزء منها على حساب الآخر.
وأخيرًا، يقول هاروكي موراكامي ما يتوّج كل ما سبق ابتداء بإجابة راتب شعبو: ” لا مفر من الألم، ولكن المعاناة اختياريّة”.
لوحة للفنان السوري بسيم الريس .
الأكثر شعبية
كيف “أفلت” الأسد من المحكمة الجنائية الدولية؟
23 نوفمبر، 2024
نتانياهو في محكمة الجنايات الدولية …
23 نوفمبر، 2024
انتصرنا!
23 نوفمبر، 2024
انتهاء فترة عمل السفيرة الأميركية في أستراليا كارولين كينيدي…
23 نوفمبر، 2024