ريما بالي – الناس نيوز ::
قالت لي صديقتي منذ أيام: “كتبيلنا شي مقال يفِش القلب، محروق قلبي على اللي عم يصير”. كأنها كانت تقصد، أين أنتِ من هذا القهر؟ لماذا هذا الصمت الطويل؟
لم تكن هي أول من سألني هذا السؤال، فقد كنتُ قبلها قد سألته لنفسي، واستجديت اللغة والمشاعر طويلًا، “بضع كلمات من مال الله تبرد نار قلبي وتهدهد قلقي، علّه ينام لساعات قلّة ويتركني أتنفس في سلام”.
لا شيء… صمت ووجع داخلي أخرس، وكلمات يائسة بائسة لا تروي ظمأ ولا تُشبع جوع روحي العميق للعدالة، للمنطق للحق.
لعالم حقيقي شفاف، يكون فيه الحق بيّن والباطل بيّن، والأطفال أطفالًا، لا مقاومين ولا خائفين، لا شهداء ولا جرحى ولا لاجئين.
أطفال من لحم ودم وبسمة ظريفة، ووجوه لا يكسوها الدم والسخام.
بل فقط قطرات عرق صغيرة تُرصع الجباه بعد مباراة كرة قدم.
وتتوالى الفظائع، مذبحة تلو المذبحة، ويهاجر الأطفال أسرابًا كطيور السنونو نحو سماء صامتة بدورها، ترنو ببرود مستفز إلى ما يحدث تحتها، فاتحة صدرها بنزق لاستقبال هذا النزوح الكثيف لأرواح ضاقت بها بقعة من الأرض تسمى غزة.
وأصمت أيضًا… لأنني لا أحمل في داخلي إلا قهرًا ويأسًا قاتلًا، وسلبية مدمّرة لا أستحب أن أفصح عنها، في حين تنتظر صديقتي مني مقالًا “يفش القلب”!
سامحيني يا صديقتي، لا شيء في هذه الحقبة من عمر العالم “يفش القلب”، وأنا مع كل هذا الغضب، واليأس والعجز، أشعر أن كل ما كتبته أو سأكتبه، وكل ما كتبه غيري وسيكتبه، ليس إلا ضربًا من العبث، عبث خرافي دراماتيكي هزلي تفوق على ذاته، واستفحل بعبيثيته أمام نظرة ذلك الطفل المذعور حين قصفت إسرائيل المستشفى المعمداني فوق رأسه أثناء نومه.
أمام تلك النظرة التي لخّصت الحقيقة الوحيدة الراسخة لهذا العالم، صارت كل التحليلات المنطقية والسياسية والتاريخية عبث. كل المقالات الثورية والإنسانية عبث، كل الإعلام عبث، كل الفنون والآداب عبث في عبث.
العبث وحده من يَفِش القلب اليوم، وهذا ما فعله فينا الجميل باسم يوسف في أثناء “عبثه” الجميل أمام المحاور البريطاني بيرس مورغان.
بالأمس، وفي أثناء رحلة قصيرة في المترو في مونتريال، وجدت نفسي محشورة في مقصورة واحدة مع مجموعة كبيرة عائدة لتوها من مظاهرة داعمة لإسرائيل. عرفتهم طبعًا من الأعلام التي يحملونها، فداهمني شعور غريب، هو مزيج من الهلع، والغضب، والغيظ، والنفور. كانت معي أختي، التي داهمتها نفس مشاعري، فبادلتني نظرة استياء وهمست لي: “مديح الكراهية”… سلامًا إلى روحك يا خالد.
الفتاة التي تجلس أمامي (وكانت تحمل لوحة مقلوبة)، نظرت في عيني حين سمعتني أتحدث بالعربية ثم أشاحت بصرها. بعد دقائق، تحركت اللوحة التي كانت تسند مقبضها إلى الأرض، فواجهتني على سطحها الأمامي صورة شاب، كتب تحتها: “صامويل 22 عامًا، مخطوف من قبل حماس”.
يا للعبث! قلت لنفسي وللكراهية التي كانت ترقص في فضاء المترو، ودقَقت مجددًا في صورة الشاب، كان جميلًا، له شعر (كيرلي) كشعر يوسف، يوسف “الأبيضاني الحلو اللي عمرو سبع سنين”.
يا للعبث! الجنية الغاضبة التي في داخلي اشتهت أن تتحدث إلى تلك الفتاة وتريها صورة يوسف، وتروي لها كيف مات ومن قتله، هو وآلاف مؤلفة من الأطفال مثله، وتمنت جنيتي الطيبة أن تقول لهذه الفتاة إنها آسفة من أجل صامويل، ولكن ماذا بخصوص يوسف؟ والملايين من الشبان والأطفال والنساء والرجال الذين يقتلون ويشردون ويعتقلون ويظلمون منذ نحو ربع قرن من الزمن؟ أما جنيتي الفهيمة، فودت أن تروي لها عن تاريخ فلسطين الطيبة الجميلة العريقة وما حل بها منذ ذلك الوعد المشؤوم، وأن تفكر معها؟ لمصلحة من يحدث كل هذا العبث؟
تصارعت الجنيات داخل رأسي حتى انتصرت في النهاية تلك اليائسة منهن، وصرخت: صمتًا، صمتًا أيتها الغبيات، كل ما سوى هذا الصمت، عبث!
انصعت إلى جنيتي اليائسة، وغادرت المترو صامتة حين وصل محطتي. وقبل أن أتابع الصمت، دعوني اشارككم هذه القصيدة الرائعة التي كتبتها صديقتي الشاعرة الفلسطينية “أماني أبو صبح”، وأرسلتها لي هذا الصباح فحرضتني أن أخرج قليلًا ومؤقتًا عن صمتي؛ لأكتب هذا المقال الذي لا يقول شيئًا، سوى في مديح اليأس، والعبث.
“حاذر من اعتياد المشهد
حاذر من انفلات الدقائق الفاصلة
بين الحياة والموت
من تسرّبها من بين يديكَ
من الأصوات
التي تصرخ في دمكَ
والأجساد المتطايرة
من مشهد الأمهات الذبيحة
المكلومة
التي تعوي ألمًا
على ما تبقى من أجساد صغارها
من الحب الذي يُقتل
قبل أن ينام في مخدعه
من الثقوب
التي تحفرها
عيون الجثث
في قلبكَ
من الأشخاص الذين تعرفهم
والذين لا تعرفهم
وهم يتساقطون
من بين أصابع الحياة
من المنازل المهدّمة
وأرغفة الخبز
التي لم تنضج
من علب الحليب
التي لم يرضعها الأطفال
من الصغار
الذين لم يستخدموا أسماءهم بعد
حاذر من اعتياد المشهد
من العيون الجميلة
التي خطفتها شظايا البنادق
وفقأت أحداقها
من الآباء الذين لم يمهلهم الموت
وقتًا لبكاء أبناءهم
وهم يوارونهم التراب
من الصبايا الجميلات
اللواتي سُرقَ الحبُ
من جيوب قلوبهنَّ
حاذر من اعتياد الموت
وروّض قلبكَ
ليبتلع كل هذا الدمار
كل هذا الموت
احفظه في دمكَ
ثم ابصقه في وجه هذا العالم القحب
ذلك الذي تآمر عليكَ
وعلى دمكَ المسفوح
على شاشات هواتفه الذكية.”