فراس السواح – الناس نيوز ::
يُستخدم مصطلح الأديان الإبراهيمية في البحث الحديث للدلالة عن ثلاثة أديان هي اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو في رأينا مصطلح غير دقيق ولا يعبر عن طبيعة الصلة التي تجعل هذه الأديان في زمرة واحدة، على ما سأبين في ثنايا هذه الدراسة المختزلة. فنحن عندما نصف ديانة ما بالإبراهيمية نسبة إلى الأب الأول في سلسلة قصص عصر الآباء في سفر التكوين التوراتي، ينبغي أن يكون هنالك عقيدة إبراهيمية تركت وراءها ميراثاً دينياً واضح المعالم أثّر على تشكُّل هذه الديانة التي ندعوها بالإبراهيمية. ولكن لسوء الحظ لا يوجد لدينا في تاريخ الدين ميراث إبراهيمي واضح المعالم يمكن أن نعزوا إليه أثراً على ما تلاه من عقائد المنطقة الشرقية وعلى تاريخ الدين. وسأبدأ أولاً في استقصاء طبيعة الإبراهيمية في مصدرها الأول سفر التكوين التوراتي وما قدمته للديانة اليهودية ثم أُفتش عن آثارها في المسيحية والإسلام.
إن ما يلفت نظرنا في سلسلة قصص إبراهيم، (أو أبرام وهو اسم مولده قبل أن يغيره إله سفر التكوين)، هو أنها ليست قصصاً ذات طابع ديني وإنما إثنولوجي، الهدف منها هو رسم خارطة لنسب الشعب العبراني، ولأنساب الشعوب المجاورة التي تداخل تاريخها مع تاريخ العبرانيين، (على ما أبيّنه في رسمي البياني الموضح في الصفحة التالية). فبعد سبعة أجيال من سام ابن نوح نصل إلى تارح والد إبراهيم الذي تسلسل من خط نسب رئيسي يصل إلى آباء القبائل العبرانية الاثني عشر، وخطوط ثانوية تتفرع عنه، وهم الموآبيون والعمونيون في شرقي الأردن نسل لوط، والفرع الأول من القبائل العربية نسل إسماعيل، والفرع الثاني من القبائل العربية نسل قطورة الزوجة الثانية لإبراهيم، والفرع الثالث من القبائل العربية نسل آدوم أو عيسو بكر إسحاق.
الخارطة الاثنية لشعوب المنطقة وفق سفر التكوين
أما يعقوب (أو إسرائيل) الابن الثاني لإسحاق فقد أنجب من زوجاته الأربعة اثني عشر ولداً هم بنو إسرائيل أو الأسباط الاثنا عشر. في خضم هذا الهوس بالأنساب وبتقصي أصول إسرائيل في الماضي البعيد، لا نكاد نعثر على أفكار دينية أصيلة، والوحي الذي تلقاه إبراهيم من إلهه باعتباره أول الأنبياء في السردية التوراتية كان دوماً ذا مضمون سياسي لا ديني، وموضوعه وعد الرب لإبراهيم بأن يعطي نسله أرض كنعان مقابل أن يكون لهم إلهاً.
وفدت أسرة إبراهيم من مدينة أور في وادي الرافدين الجنوبي. فلسبب غير واضح في النص قرر تارح أبو إبراهيم ترك موطنه والهجرة إلى كنعان التي تعني دوماً في النص التوراتي فلسطين، فأخذ معه إبراهيم وساراي زوجته (التي أصبح اسمها فيما بعد سارة) ولوطاً ابن ابنه المتوفي هاران، واتخذ طريقاً له عبر سوريا الشمالية ولكنه أقام مدة في مدينة حاران وتوفي هناك.
وهنا يدخل إله قصص الآباء الأولين مسرح الحدث للمرة الأولى ودون مقدمات، ويتوجه إلى إبراهيم بخطاب نفهم منه أنه اختاره ليلعب دوراً مهماً في تاريخ هذه المنطقة، وليكون أباً لأمة عظيمة مباركة: “وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أُريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأُعظم اسمك وتكون بركة، وأبارك مباركك ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” التكوين 12: 1-3. فأخذ إبراهيم امرأته ولوطاً ابن أخيه والعبيد الذين امتلكوهم في حاران، فأتوا إلى أرض كنعان وهنالك: “ظهر له الرب وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض” التكوين 12: 5-7. في الخطاب الثالث لدينا توسيع وتطوير للخطاب الثاني “ارفع عينيك وانظر.. لأن جميع الأرض التي ترى لك أُعطيها ولنسلك إلى الأبد وأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحد أن يَعُدَّ تراب الأرض فنسلك أيضاً يُعد” التكوين: 13 – 14- 17. في الخطاب الرابع لدينا وعد بالإنجاب، لأن زوجة إبراهيم سارة لم تكن قد أنجبت له بعد. في الخطاب الخامس يفصح إله إبراهيم عن مطلبه منه ومن نسله لقاء هذه النعمة، فقد اختارهم كشعب له وعليهم بالمقابل أن يعبدوه من دون بقية الآلهة. ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له: “… تكون أباً لجمهور من الأمم وأثمرك كثيراً جداً وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك” التكوين 17: 1-8. وكانت علامة العهد بين الطرفين هي أن يختتن كل ذكر منهم. هذا العهد سوف يجري توثيقه مع بقية آباء خط النسب الرئيس وتُستبعد منه الخطوط الفرعية. وبعد نحو أربعمئة سنة سوف يعود الرب لتوثيقه مع موسى وذرية يعقوب / إسرائيل في مصر.
ولكن من هو إبراهيم هذا؟ وما هي صفاته التي جعلت الرب يختاره من بين جميع الناس ليعطي له ولنسله أرض كنعان ويكون إلههم؟ لقد قال لنا محرر سفر التكوين قبل ذلك إن الرب اختار نوحاً لأنه أكثر الناس براً في جيله (التكوين 7: 1) فلماذا لم يقل الشيء نفسه عن إبراهيم؟ الجواب على هذه التساؤلات لن نجده في النص التوراتي وإنما في مؤسسة دين العائلة الموثّق لدينا في ثقافة الشرق القديم، حيث يختار رب الأسرة أحد الآلهة ليكون شفيعاً وحامياً له ولأسرته ويتوقع منه العون والمساعدة والتوجيه، وما أن يتم اختيار هذا الإله حتى يغدو مركز التقوى العائلية، إليه ترفع الصلوات وتقدم القرابين، ويدعى إيل إب / أي إله الأب أو الآباء. وهذا ما يقدم لنا مدخلاً لفهم مسألة الاختيار الإلهي لإبراهيم، فالرب لم يكن هو الذي اختار إبراهيم ليكون إلهاً له ولنسله من بعده، بل إن إبراهيم هو الذي اختاره من بين الآلهة المتعددة في بيئته الثقافية، ولذلك كان يدعى لدى أبناء إبراهيم وأحفاده بإله إبراهيم أو إله أبي إبراهيم، ولدى عبيده بإله سيدي إبراهيم و(راجع على سبيل المثال التكوين 24: 12 و31: 53 و31: 42). ويبدو أن العهد بين رأس العائلة وإلهه كان يتجدد بعد وفاته، فقد جدد الرب عهده مع إسحاق ابن إبراهيم ثم مع يعقوب ابن إسحاق. وبعد انقطاع في التواصل بين يهوه وشعبه دام عدة قرون قام بتجديده مع موسى.
أي إن عبادة إله ما كانت تعاقداً بين طرفين، وتدوم مادام كل منهما ملتزماً بنصيبه من الاتفاق. وهذا ما نستشفه بوضوح من قصة هروب يعقوب ابن اسحاق من وجه أخيه عيسو إثر خلاف بينهما على حقوق البكورية، فقد نذر يعقوب نذراً للرب قائلاً: “إن كان الرب معي وحفظني في هذه الطريق، وأعطاني خبزاً لآكل وثياباً لألبس، ورجعت بسلام إلى بيت أبي يكون الرب لي إلهاً” التكوين 28: 20- 21.
ولدينا وثائق نصية على دين العائلة من بلاد الرافدين ومن كنعان، تدل على أن هذه الظاهرة لم تكن وقفاً على الشرائح الفلاحية والرعوية، فلقد كان لكل ملك سومري إله شخصي يحميه ويسدد خطاه ويعينه في اتخاذ القرارات، وتعبير إلهي الشخصي أو الخاص يرد في العديد من أدعية هؤلاء الملوك. وفي أحد نصوص مدينة أوغاريت السورية نجد الملك دانيال يقيم نصباً لإلهه الحامي “إيل إب” في الحرم المقدس، كما يظهر تعبير إيل إب على ختم شخصي يحمل اسم صاحبه على أنه عبد إيل إب. والحديث عن الإله الشخصي في الثقافات الأخرى قد يأخذنا بعيداً عن موضوعنا، ولهذا سأكتفي بالإشارة إلى بقايا هذه الظاهرة الدينية في أوربا المسيحية خلال العصور الوسطى، عندما حل القديس الشفيع محل الإله الشخصي القديم، وكان لكل أسرة نبيلة قديسها الشفيع الحامي.
عندما قرر محرر سفر الخروج الربط بين عصر الآباء وعصر ملحمة الخروج من مصر بعد نحو 400 سنة من وفاة يوسف آخر الأسباط، جعل إله موسى يصف نفسه في أول تجل له على أنه إله الآباء الأولين عندما قال له: “أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب إني قد رأيت منزلة شعبي الذي في مصر فنزلت لأنقذهم من ايدي المصريين” الخروج 3: 6-7. ولكن إله موسى لا يشبه في شيء إله إبراهيم، ولم يكن موسى يعرفه ولا بنو إسرائيل الذي جاء لتحريرهم، ولذلك سأله موسى عن اسمه قائلاً: “ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم فإذا سألوني ما اسمه فماذا أقول لهم؟ فأجابه: هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه إله آبائكم أرسلني إليكم” سفر الخروج 3: 13-15.
في الوصية الأولى والثانية من الوصايا العشر قال إله موسى له: “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ لأني أنا الرب إلهك إله غيور” الخروج 20: 2-4. ولكن إله إبراهيم كان أكثر تساهلاً مع الآلهة الأخرى من إله موسى، فقد عاش هؤلاء في بيئة ثقافية متعددة الآلهة، وهم على خصهم الإله الشخصي بالعبادة إلا أنهم لم يديروا ظهورهم للآلهة الأخرى، بل ربما تباركوا بها وحملوا معهم في ترحالهم صورها. فعندما تغرب يعقوب في بيت خاله لابان مدة ثم قرر العودة إلى موطنه، انطلق في الليل سراً لكي لا يمانع لابان في رحيله، وحملت زوجته راحيل ابنة لابان أصنام ابيها وخبأتها في متاعها الشخصي (التكوين31: 17- 21). وكلمة أصنام الواردة في الترجمة العربية للنص هي في الأصل العبري “تيرافيم”. وعلى ما نفهم من بقية المواضع التي وردت فيها هذه الكلمة، فإنها تدل على صور منحوتة للآلهة وتكون في العادة سهلة الحمل في الترحال، وقد توضع في المحراب المنزلي، على ما نجد في قصة ميخا الذي صنع في سفر القضاة تمثالين وجعل لهما في بيته ركناً دعاه بيت الآلهة وصار لهما كاهناً (القضاة: 17).
ففي عصر الآباء الأولين، وكما هو الحال لدى كل الجماعات الرعوية، لم يتخذ الدين طابعاً مؤسساتياً بل كان عبارة عن تقوى شخصية وإحساس بوجود قوة خيرة تقدم للإنسان عوناً غير مشروط وغير مرتبط بالمواقف الأخلاقية. ولذلك فإن إله إبراهيم لم يستن لجماعته شريعة ولم يفرض عليهم وصايا من أي نوع، أو يحدد طبيعة الطقوس التي يتم من خلالها التقرب إليه. وفيما عدا الختان الذي أمرهم به ليكون علامة العهد في أجسادهم، فإن الطقوس التي مارسها هؤلاء كانت من النوع البسيط المعروف لدى بقية الجماعات الرعوية، ولذلك لم يكن لديهم مراكز دينية خارج بيوتهم، ولا كهنوت منظم ولا دورة شعائرية سنوية. كما أننا لا نعثر في سلاسل قصص الآباء على تأملات لاهوتية أو أية أفكار بخصوص عالم ما وراء الطبيعة، ولم يوصف إله إبراهيم على لسان أي من الشخصيات بأنه إله واحد ولا بأنه خالق للسموات والأرض، ولا حتى بأنه أعظم الآلهة على ما يتردد بعد ذلك في جنبات الكتاب.
وعلى عكس إله موسى الغضوب والمخيف الذي كان أشبه بجنرال إلهي يحارب إلى جانب بني إسرائيل خلال ملحمة الخروج، ويقسو عليهم فيقتل منهم عشرات الآلاف كلما تذمروا عليه وعلى موسى، فإن إله عصر الآباء كان صديقاً أنيساً للعائلة يكلمهم ويكلمونه دون إحساس منهم برهبة الدنو من القدسي، ويُعنى بأدق تفاصيل حياتهم اليومية، فعندما حملت هاجر جارية سارة من إبراهيم بموافقة سيدتها لأنها كانت عاقراً، غارت منها وأذلتها فهربت من وجهها، وهنا تدخل إله العائلة لحل هذه المشكلة وبحث عنها فوجدها عند عين ماء في البرية فقال لها: يا هاجر جارية سارة من أين جئت وإلى أين تذهبين؟ فقالت إني هاربة من وجه مولاتي فقال لها: ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها، لأكثرن نسلك كثيراً حتى لا يحصى لكثرته (التكوين 16). وعندما أرسل إبراهيم عبده ليخطب لابنه إسحاق فتاة من بيت أخيه ناحور في آرام النهرين وصل العبد إلى أطراف بلدة ناحور وأناخ جماله عند بئر الماء. وقت خروج المستقيات، وطلب من إله إبراهيم أن يدله على الفتاة التي جاء لخطبتها فلم يأنف من تقديم هذه الخدمة الصغيرة للعبد (التكوين 24).
وخلاصة القول هي أن اليهودية تبدأ بموسى لا بإبراهيم وليست سلاسل قصص الآباء الأولين سوى سردية قصصية تمتح من ذاكرة شعبية مشوشة غايتها البحث عن أصول بني إسرائيل في التاريخ البعيد.
والآن إذا كانت اليهودية نفسها لا تنتمي إلى إبراهيم فماذا عن المسيحية؟
في إنجيل متى الذي يحتوي على أكثر المداخلات اليهودية في العهد الجديد، يقول الكاتب في مطلعه: ” كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم”. ولكن إنجيل متى ليس أول الأناجيل في التدوين بل إنجيل مرقس الذي لا يحتوي في مقدمته على قصة الميلاد ولا على نسب يسوع المسيح، والذي يعتبره الباحثون في العهد الجديد الأقرب في روايته إلى يسوع التاريخي. إن ربط يسوع من حيث النسب بإبراهيم الأقدم منه بمئات السنين، هي أولى المحاولات للربط بين العهد الجديد والعهد القديم وهي المحاولة التي نجحت بعد إنجيل متى بأكثر من ثلاثة قرون عندما جعلت الكنيسة كتاب التوراة جزءاً من الكتاب المقدس المسيحي دون أن يكون في العهد الجديد ما يسوغ مثل هذا الربط.
فإله يسوع الذي تجلى له بعد اعتماده بماء الأردن في هيئة حمامة قائلاً: “أنت ابني الحبيب الذي به سررت” مرقس 1: 9- 10. لا يشبه في شيء إله إبراهيم ولا إله موسى. وهو عبر أسفار العهد الجديد لا يدعى بأي من أسماء الإله التوراتي: يهوه، إيل، إيلوهيم. وإنما يشار إليه بلقب الآب أو بلغة الأناجيل اليونانية ثييوس Theos، وهو ليس اسم علم وإنما دلالة على الألوهة المطلقة، وترد في الترجمات العربية بصيغة الله. وفيما عدا النبوءات التي اقتبسها مؤلفو الأناجيل الأربعة من كتاب التوراة، واعتبروها بشارات مبكرة بقدوم المسيح، لا نكاد نعثر في العهد الجديد على أثر من العهد القديم. وعندما يرد ذكر إبراهيم ففي صلته ببني إسرائيل لا بتعاليم يسوع. فعندما قال له اليهود وهو يحاورهم: “أبونا هو إبراهيم”. قال: “أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. الذي من الله يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله” يوحنا 8: 30- 47. في هذه الحوارية يعلن يسوع صراحة أن إلهه غير إله اليهود وأنهم ليسوا من الله بل من الشيطان. وفي تمييز واضح بين إله يسوع وإله العهد القديم قال لهم في موضع آخر أنهم ما عرفوا الله قط: “أنتم لا تعرفوني ولا تعرفون أبي” يوحنا 8:9. وايضاً: “الأعمال التي أعملها هي التي تشهد لي أن الآب قد أرسلني، لم تسمعوا صوته قط ولا ابصرتم هيئته وليست كلمته ثابتة فيكم” يوحنا 5: 36- 37.
وكان يسوع في سلوكه وأقواله ناقداً مُراً لشريعة العهد القديم التي فُرضت على موسى عبر أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وكانت أهم ما يميز بها اليهود أنفسهم عن الأمم. ونقدُ الشريعة هو من باب خفي نقد لإله الشريعة، فشريعة العهد القديم شريعة موت أما شريعة العهد الجديد فشريعة حياة. “لم يعطكم موسى خبز السماء بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق… آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان ولا يموت” يوحنا 6: 49- 50.
وقد أعلن يسوع عن موقفه هذا في مطلع حياته التبشيرية عندما كان هو وتلاميذه يعملون في يوم السبت، في تجاهل للوصية الثالثة من الوصايا العشر التي تحرم العمل في يوم السبت، وهي جريمة تستوجب القتل: (الخروج 31: 14) قال لهم “إن السبت جُعل للإنسان وما جُعل الإنسان للسبت” مرقس 2: 23- 28. كما ألغى شريعة الطعام الموسوية المعقدة والمتعلقة بالأطعمة الطاهرة التي يحل أكلها وغير الطاهرة التي يحرم أكلها، وعلى حد قول كاتب إنجيل مرقس فقد جعل يسوع كل الأطعمة طاهرة (مرقس: 7: 19). وفي عفوه عن المرأة الزانية ألغى شريعة الرجم. وفي إنجيل توما الذي لم تقبله الكنيسة على الرغم من أن نصف الأقوال الواردة فيها موجودة في الأناجيل الأربعة، يسخر يسوع من شريعة الختان فعندما سأله التلاميذ: هل الختان مفيد؟ قال لهم: لو كان مفيداً لكان أبوهم أنجبهم من أمهم مختونين. الختان الحقيقي ختان الروح وهو مفيد (الفقرة 53). وقد تابع بولس الرسول بعد يسوع هجومه على شريعة الختان وبقية بنود شريعة موسى: “أما الآن وقد متنا عما كان يعتقلنا فقد حُللنا من الشريعة وأصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد لا في نظام الحرف القديم”. الرسالة إلى أهالي روما 7: 6-7. وايضاً “المسيح قد افتدانا من لعنة الشريعة” الرسالة إلى أهالي غلاطية 3: 13.
هذا الغيض من الفيض الذي يمكن ذكره يقودنا إلى نتيجة منطقية وهي أن المسيحية ليست إبراهيمية ولا موسوية، فماذا عن الإسلام؟
إن أول ما سأطرحه هنا بخصوص صلة الإسلام بالموروث الإبراهيمي والذي يبدو غريباً للوهلة الأولى هو أن إبراهيم القرآن والحديث الشريف ليس إبراهيم العهد القديم وإنما شخصية مختلفة تماماً {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً ومسلماً وما كان من المشركين} آل عمران: 67. وكلمة مسلم أو إسلام كمفردة قرآنية لا تعني في معظم الأحيان دين محمد وإنما دين التوحيد بشكل عام فيوسف الصديق كان مسلماً: {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} يوسف 101. والمسيحيون الأوائل كذلك: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله. قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا وأشهد بأنا مسلمون} آل عمران: 52. والأمثلة على ذلك عديدة.
فإبراهيم القرآني هو أول الموحدين، وأول من وضع ركائز عقيدة التوحيد أما إبراهيم التوراتي فكان على دين الجماعات الرعوية يبجل إله العائلة ولكنه لا يعتبره إلهاً اوحداً ولا حتى معبوداً أوحداً. وعلى الرغم من وجود بعض التشابه الظاهري بين بعض قصص إبراهيم في التوراة ونظائرها في القرآن، إلا أن مضامين القصص القرآني ورسائلها مختلفة، فالرب على سبيل المثال أمر إبراهيم بأن يذبح ابنه في القصة التوراتية أما في القصة القرآنية فإن إبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ابنه ولم يسمع فعلاً آمراً بذلك، بل فسّر الرؤيا على أنها أمر ولم تكن كذلك. وفي القرآن قصص لم ترد في التوراة وغايتها التأكيد على عقيدة إبراهيم التوحيدية. مثل قيامه بتحطيم الأصنام في المعبد وإلقائه في النار عقوبة له ونجاته بنعمة من الله.
وهنالك أمر على جانب كبير من الأهمية فيما يتعلق باختلاف الشخصيتين وهو المسرح الجغرافي لقصص إبراهيم في كلا النصين، ففي التوراة هو المنطقة فيما بين مدينة شكيم (قرب نابلس الحالية) شمالاً وبئر السبع جنوباً، أما في القرآن الذي لم يولِ الجغرافيا اهتمامه في جميع ما أورده من قصص فيبدو أنه في منطقة الحجاز. فعندما صرف إبراهيم في الرواية التوراتية هاجر وابنها بناء على رغبة زوجته سارة التي لم تعد تطيق رؤية الطفل إسماعيل بعد أن أنجبت إسحق، انصرفت هاجر ومعها خبز وقربة ماء وتاهت في برية بئر السبع، وكان إبراهيم عندها مقيماً في جوار مدينة حبرون(الخليل) التي لا تبعد عن بئر السبع أكثر من ثمانين كيلومتراً. ولما نفد الماء من قربة هاجر وعطش الولد بكت وسمع الرب فناداها قائلاً: لا تخافي لأن الرب قد سمع، وفتح عينيها فرأت بئر ماء. ولدينا في القرآن إشارة إلى هذه القصة في نص شديد الاختزال ومختلف في التفاصيل، نفهم منه أن إبراهيم لم يصرف هاجر وابنها وإنما قادهما إلى موضع البيت الحرام في مكة ولم تكن الكعبة قد بنيت بعد وتركهما هناك. وبالطبع لا يمكن أن يكون إبراهيم قد سار بامرأة وطفل من موطنه في حبرون مسافة تزيد عن الألف كيلومتر ليصل إلى مكة، وبالتالي فإن موطنه لا بد أن يكون في مكان ما من الحجاز على مسافة من مكة لا تزيد عن المسافة بين حبرون وبئر السبع. نقرأ في سورة إبراهيم {وإذ قال إبراهيم … ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات} إبراهيم: 37. ويبدو أن إبراهيم كان يزور عائلته ليتفقد أحوالهم لأننا نجده بعد أن كبر إسماعيل وهو يبني معه البيت الحرام: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} البقرة: 127. {إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين} آل عمران: 96.
وعلى الرغم من أننا نفهم من النص القرآني أن الله قد آتى إبراهيم كتاباً (النساء 64)، أو صحفاً (الأعلى 19) ، إلا أن مثل ذلك لم يرد في التوراة .
هذا الاختلاف البيّن بين إبراهيم القرآني وإبراهيم التوراتي، يجعل من الصعب علينا افتراض وجود ميراث إبراهيمي يجمع بين العقيدتين.