فراس السواح – الناس نيوز ::
في الحلقة الأولى من هذه الدراسة بيّنا أن مصطلح الأديان الإبراهيمية ليس الأنسب لوضع الأديان الثلاثة في زمرة واحدة. فهل من مصطلح بديل؟ في البحث عن مثل هذا المصطلح علينا أن نبدأ أولاً بتحديد الزمر التي تنتمي إليها أديان الإنسان من أجل إيجاد الزمرة التي يمكن أن نضع فيها ما يدعى بالأديان الإبراهيمية. ومن حيث المبدأ يبدو أن ثلاثة منها مرشحّة لهذا الدور وهي:
1- أديان التوحيد. 2- أديان الوحي. 3- الأديان الشمولية. وسنشرع فيما يلي باستقصاء هذه الرمز بحثاً عن الأنسب.
1- أديان التوحيد:
في الحديث عن أديان التوحيد علينا أن نميّز بين التوحيد الصافي ووحدانية العبادة أو التفريد. فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد خالق للسماء والأرض، وزيف الآلهة الأخرى التي تصور البشر وجودها، أما وحدانية العبادة فهي عبادة إله واحد فقط مع عدم إنكار وجود الآلهة الأخرى. وقد اختلط على بعض الباحثين أمر هذين المصطلحين فنسبوا التوحيد إلى عبادات لم تكن في جوهرها سوى وحدانية عبادة. ومثالنا على ذلك عبادة إله الشمس في مدينة حمص التي نقلها الإمبراطور الثالث في الأسرة السورية التي حكمت روما إلى عاصمته، وعمل على جعل إلهها إيلا جابال إلهاً واحداً للإمبراطورية الرومانية، وكذلك عبادة لإله آتون الذي رفعه الفرعون أخناتون إلهاً واحداً لمصر وألغى عبادة بقية الآلهة وأغلق معابدها.
كما اختلط الأمر على جل الباحثين في كتاب العهد القديم فنسبوا التوحيد إلى عبادة الإله يهوه على الرغم من أنه لم يكن يطلب من بني إسرائيل عبر الرواية التوراتية سوى أن يُعبد وحده من دون سائر الآلهة. ولعل في وصيته الأولى لموسى والتي تتصدر الوصايا العشر إذا قارناها بالوصية الأولى لموسى في كتاب القرآن أوضح مثال عن الفرق بين التفريد والتوحيد، نقرأ في سفر الخروج 20: 1 “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي” ونقرأ في سورة طه 14: {يا موسى … إني أنا الله لا إله إلا أنا}. وتتردد الوصية الأولى لموسى في التوراة بتنويعات مختلفة، فهو ملك الآلهة، والأعظم بين الآلهة… إلخ. ولكن الباحثين عن التوحيد في التوراة وجدوا نحو خمس آيات في سفر إشعيا الثاني وهو الإصحاحات من 40 إلى 66 الملحقة بسفر إشعيا الأول، والمتأخرة زمنياً عنه بنحو قرن ونصف، وقد عاصر مؤلفه فترة السبي البابلي. ومنها: “أنا الرب وليس آخر، لا إله سواي” 45: 5. “هل يوجد إله غيري وصخرة لا أعلم بها؟” 44: 8. “أنا الأول وأنا الآخر ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السماوات” 48: 13-12.
على أننا لكي نفهم هذه الآيات القليلة على حقيقتها سوف أقارنها بمثيلاتٍ لها من تراتيل وحدانية العبادة في ثقافة الشرق القديم، حيث تعبير “الإله الواحد” لا يدل على عقيدة التوحيد بل على تفريد الإله المعني بالعبادة. فمن ترتيلة مصرية للإله آتون- رع أسوق هذه المقتطفات: “واحد ولا ثاني له، واحد خالق كل شيء، قائم منذ البدء عندما لم يكن معه شيء والموجودات خلقها بعد أن أظهر نفسه إلى الوجود. يلد ولم يولد ينجب ولم ينجبه أحد، خالق ولم يخلقه أحد”. وفي ترتيلة ثانية: “هو الروح القدس الموجود منذ البدايات الواحد الذي صنع كل ما ظهر في الأزمان الأولى، كان عندما لم يكن هنالك شيء وفي هيئة قرص الشمس شع وأضاء للكل”. وفي ثالثة: “أنت الواحد الواهب للحياة، أنت القدرة المجيدة التي تسكن في العمق السماوي”. وفي رابعة: “واحد هو آمون ومحجوب عن الآلهة لا يعرف أحد شكله الحقيقي، وصورته لا يمكن رسمها”. إن الإشارة إلى أي إله مصري بصفة الواحد هو تقليد قديم لدينا عنه شواهد تبدأ من زمن المملكة القديمة. واستخدام هذه الصفة أو غيرها من صفات الألوهة المطلقة في مخاطبة الإله المحلي، هو صيغة مجازية للرفع من مكانته وليس دليلاً على وجود توحيد في الدين المصري.
ومن ثقافة وادي الرافدين وصلتنا تراتيل وصلوات يخاطب فيها أكثر من إله على أنه الإله الحق. نقرأ في ترتيلة مرفوعة إلى إنليل: “وحده أمير الأرض، وحده رب الأرباب المبجل”. وفي ترتيلة مرفوعة إلى عشتار: “إليك ارفع صلاتي يا سيدة السيدات وإلهة الإلهات، عشتار يا سيد البشر والأعظم بين آلهة السماء”. وفي ترتيلة إلى نانا / سن إله القمر: “أنت المولود الذي أنجب نفسه بنفسه، أنت الرحم الذي أنجب كل شيء. من المبجل في السماء؟ أنت أنت وحدك المبجل، من المبجل في الأرض؟ أنت، أنت وحدك المبجل”.
نعود إلى سفر أشعيا الثاني لنقول بأنه خارج تلك المقاطع القليلة التي اقترب فيها المحرر من عتبة التوحيد دون أن يبلغه، فإن صورة يهوه كإله لإسرائيل وخصم لبقية الأمم تطغى على الخطاب بأكمله. فلقد صفح الرب عن إسرائيل وسوف يقود المسببين إلى ديارهم لإعادة بناء اورشليم التي ستغدو مركز العالم، وإعادة بناء الهيكل. وها هو يستعيد شخصية الجنرال الإلهي التي وجدناها في سفر الخروج وسفر يشوع لكي يشن حرباً على الأمم: “الرب كالجبار يخرج، كرجل حروب يُنهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه” 42: 13. وفي الحوارية التالية التي يوردها كاتب السفر، مشهد ليهوه وهو عائد من مذبحة الشعوب وثيابه ملطخة بدمائهم:
– من هذا الآتي من آدوم، من بصرة، البهي المتعظم بقدرته؟
* أنا المتكلم بالبر العظيم الخلاص.
– ما بالُ لباسك محمر وثيابك كدائسِ معصرة.
* قد دستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد فدستهم بغضبي ووضئتهم بغيظي، فرشّ عصيرهم على ثيابي فتلطخت كل ملابسي، لأن يوم النقمة في قلبي وسنةُ مفدييَ قد أتت. فنظرتُ ولم يكن معي معين، وتجبرتُ إذا لم يكن معي عاضد، فخلصتْ لي ذراعي وغيظي عضدني، فدستُ شعوباً بغضبي وأجريت على الأرض عصيرهم ( 63: 1-6).
أما هدف هذه الحملات المقدسة على الشعوب فهو جعلهم عبيداً في خدمة بني إسرائيل: “هكذا قال السيد الرب: ها إني أرفع إلى الأمم يدي وإلى الشعوب أقيم رايتي، فيأتون بأولادك في الأحضان وبناتك على الأكتاف يُحملن، ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك، بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك، فتعلمين أني أنا الرب الذي لا يُخزى منتظروه” 49: 22- 23.
كما تعود في سفر إشعيا الثاني صورة يهوه القديمة كقاهر للوحوش الخرافية على طريقة بعل الكنعاني ومردوخ البابلي واضرابهما في ميثولوجيا المنطقة: “استيقظي، استيقظي، البسي قوة يا ذراع الرب، استيقظي كما في أيام القِدم، ألستِ أنتِ القاطعة رهب الطاعنة التنين؟” 51: 9. والكاتب هنا يعطف على عدة مشاهد في النص التوراتي لصراع يهوه مع وحش هائل يدعى بالتنين أو لوياتان أو رهب (راجع إشعيا الأول 27: 1، و 51: 9، والمزامير 74: 13- 14، وأيوب 26: 12 و41: 1-3).
إن صورة يهوه في السردية التوراتية من أولها إلى آخرها هي صورة إله وثني، بما في ذلك صورته في سفر إشعيا الثاني الذي يبحث فيه أنصار فكرة التوحيد في التوراة عن البراهين التي تثبت دعاواهم. فالإله الواحد الذي يمكن أن نطلق عليه اسم “الله” إله للبشرية جمعاء لا لشعب واحد، وهو لا يرتكب المذابح الجماعية ضد خلقه، ولا يشتبك في صراع مميت مع التنانين.
فماذا عن التوحيد في المسيحية؟
لم تشغل مسألة التوحيد بال مؤلفي الأناجيل أو تعالَج من الناحية اللاهوتية، ولا نجد في أقوال يسوع ما يدل على عنايته بها، فقد كانت على ما يبدو في حكم البدهي والمتفق عليه ولا حاجة للجدل بشأنها. ولكن تاريخ المسيحية لم يكن ليتوقف عند هذه المرحلة، فلقد خضعت مثل كل دين آخر للتبدل والتغير ولصراع الأفكار والمفكرين، لاسيما فيما يتعلق بطبيعة يسوع وعلاقته بالله. فقد قال البعض إن كلمة الله لم تتجسد في يسوع الإنسان إلا عندما هبط عليه الروح القدس مثل حمامة بعد خروجه من ماء العماد على يد يوحنا العمدان، ولكن الكلمة غادرته وهو على الصليب فعاد كائناً بشرياً كما كان. وقال فريق ثانٍ إن مريم قد حبلت بالكلمة يسوع وأن هذه الكلمة أزلية غير مخلوقة وبالتالي هي من طبيعة الله. وقال فريق ثالث إن كلمة الله التي حبلت بها مريم ليست أزلية بل مخلوقة خلقها الله في الزمن مثلما خلق كل شيء آخر. وعندما استعر الخلاف بين اللاهوتين وهدد بانقسامات داخل الكنيسة دعا الإمبراطور قسطنطين الأول، الذي كان راغباً في جعل المسيحية ديناً للإمبراطورية الرومانية، إلى مجمع لرجال الكنيسة انعقد في مدينة نيقيه بآسيا الصغرى قصده نحو 300 أسقف. وبعد جدل طويل حُسمت المسألة لصالح أزلية الكلمة وصدر قانون الإيمان المسيحي الذي أقر بألوهية يسوع المسيح واعتباره من جوهر الآب، وهذه مقدمته.
“نؤمن بإله واحد ضابط للكل خالق للسماء والأرض وكل ما يُرى وما لا يُرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الله قبل كل الدهور، إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر… ونؤمن بالروح القدس المنبثق من الآب، ومع الآب والابن يُسجد له ويُمجّد”. وبذلك تم التأسيس لعقيدة الثالوث التي اتخذت صيغتها القانونية في مجمع القسطنطينية عام 380م.
عقيدة التثليث هذه التي اكتملت بعد مرور ثلاثة قرون على صلب يسوع واستشهاد بولس مؤسس اللاهوت المسيحي، كانت غائبة عن أسفار العهد الجديد. لقد استخدم المؤلفون صيغة “الآب والابن والروح القدس” كما هو الحال عند متى 28: 19، ولكن لم يكن في ذهن هؤلاء أن الآب والابن والروح القدس ثلاثة في واحد. وبشكل خاص فإن فكر بولس قد خلا تماماً من فكرة مساواة المسيح بالآب في الجوهر، وهو يميز بين الألوهة التي هي للآب وحده وبين الربوبية التي للمسيح، فالرب بالمعنى اللغوي هو السيد المطاع صاحب السلطان، كقولنا: “ربة المنزل” و”رب العمل” و”رب الأسرة” وما إلى ذلك. وبالتالي فإن كل إله رب بالضرورة ولكن ليس كل رب إله. يقول في الرسالة إلى أهالي كورنتة: “لنا إله واحد هو الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به”. وهذا الإله الواحد هو إله ليسوع مثلما هو إله لكل البشر: “تبارك إله ربنا يسوع المسيح وأبوه “الرسالة إلى أهالي إفسوس 1: 3 (وفق الترجمة الكاثوليكية التي أتبعها هنا). وأيضاً: “لأن الله واحد والوسيط بين الله والإنسان واحد وهو يسوع المسيح ” الرسالة إلى طيماوس 2: 5 . وهو يرسم مراتبية لا ينتظم فيها الآب والابن في مرتبة واحدة: ” ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح وأما رأس المرأة فهو الرجل وراس المسيح هو الله ” كورنتة11: 3.
إننا انطلاقاً من قانون الإيمان الذي أقر في بدايته وحدانية الله لا نستطيع القول إن المسيحية عقيدة غير توحيدية، وفي الوقت نفسه لا نستطيع القول بأنها توحيدية صافية لأن التثليث يقف عائقاً دون ذلك. وربما كان الوصف الأمثل هو أنها توحيدية في جوهرها وتعددية في مظهرها.
لقد كان على التوحيد الصافي أن ينتظر ظهور الإسلام.
تبدو فكرة التوحيد هاجساً مسيطراً على كتاب القرآن بأكمله، لا يخلو منها تعليم أو قصة أو تشريع، عشرات وعشرات الآيات تترى لتضرب على وتر وحدانية الله ونبذ الشرك به. وهذا غيض من فيض: {قل هو الله أحد} .{الله لا إله إلا هو الحي القيوم}. {ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء}. {إني أنا الله لا إله إلا أنا}. {إنما هو إله واحد} .{وما من إله إلا إله واحد}. {وليعلموا إنما هو إله واحد}. {لا تشرك بالله إن الشرك لشيء عظيم}. {قل تعالوا أتلُ ما حرم الله عليكم ألا تشركوا به شيئاً}. {إ ن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. ويبدو من هذه الآية الأخيرة أن المطلب الأول لله من المسلم هو توحيده، وما دون ذلك عبارة عن أمور ثانوية لا تميز المسلم عن غيره، والتوحيد يستنبع الإيمان بناقله إلى الناس وهو النبي محمد.
وخلاصة القول في مسألة زمرة الأديان التوحيدية هو أننا لا نستطيع أن نضع الأديان الثلاثة تحت هذا العنوان، فالتوحيد اليهودي هو غير التوحيد المسيحي، والتوحيد المسيحي هو غير التوحيد الاسلامي.
2- أديان الوحي:
الوحي بالتعريف العام هو حالة تواصل بين المقدس والدنيوي، وهو يحصل في اتجاهين من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى، والحالة الثانية هي الأكثر شيوعاً في تاريخ الدين، وتهدف إلى استجلاء مشيئة الآلهة والتنبؤ بالمستقبل من خلال تقنيات العرافة المتنوعة. ولدينا في نصوص الشرق القديم حالات قليلة قام فيها الآلهة بالتواصل مع شخصيات متميزة من البشر، ففي اسطورة الطوفان السومرية بعد أن اتخذ الآلهة قراراً بإرسال الطوفان الكبير، قام إله الحكمة إنكي بنقل الخبر إلى الملك الكاهن زيوسودرا، فخاطبه من وراء جدار وأعطاه تعليماته بخصوص ما يتوجب عليه فعله. وفي ملحمة كِرت الأوغاريتية، نام الملك كرت وهو يبكي لما حل بعائلته من كوارث فظهر له كبير الآلهة إيل في الحلم وقال له: لماذا يبكي كرت ولماذا تدمع عينا الطيب ابن إيل؟ فأجابه كرت: أريد أن أرزق ولداً. وفي ملحمة جلجامش خاطب إله الشمس شماش جلجامش بعد أن شرع في رحلته للبحث عن الخلود وقال له: إلى أين تمضي يا جلجامش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
هذا النوع من التواصل بين الإلهي والإنساني ذو طبيعة عرضية، ولا يترك أثراً على الحياة الدينية التي تتابع مسيرتها المعتادة به أم بدونه، لذلك لا نستطيع وصف الدين الذي راقبنا فيه مثل هذا التواصل بأنه دين وحي، لأن دين الوحي يظهر من العدم ودون تاريخ سابق، تنشئه شخصية متفوقة فكرياً وروحياً تلقت وحياً من السماء رسم لها معالم الدين الجديد، من عقيدة وطقوس وتصورات لاهوتية عن العالم القدسي وعلاقته بالإنسان. ونحن هنا لسنا في معرض إصدار حكم قيمي على ظاهرة الوحي نفياً أو إثباتاً، وإنما نصفه موضوعياً اعتماداً على شهادات الذين تلقوه.
ففي الزرادشتية وهي أول ديانة وحي معروفة لنا تاريخياً تلقى زرادشت، الذي عاش في زمن ما بين القرن الثامن والقرن السادس قبل الميلاد، الوحي عندما عرج به كائن نوراني إلى السماء، حيث مثل في حضرة الإله وتلقى منه الرسالة التي يتوجب عليه إبلاغها للناس. وفي أواسط القرن الثالث الميلادي ظهر في إيران أيضاً نبي آخر يدعى ماني الذي أسس لديانة وحي انتشرت شرقاً وغرباً عُرفت باسم المانوية، وقد هبط الوحي على ماني عندما كان في سن الثانية عشر عن طريق كائن نوراني، وأمره أن يعتزل ملة آبائه ويطهر نفسه استعداداً للوحي الثاني عندما يغدو قادراً على الدعوة والتبشير. وعندما بلغ سن الرابعة والعشرين جاءه الوحي الثاني بالرسالة كاملة وأمره أن يُظهر نفسه للناس ويبلغهم الرسالة. وفي كتاب التوراة يبدأ الوحي مع موسى الذي كلّمه يهوه من داخل نار شجيرة صحراوية وأعلن له عن اسمه. وفي أسفار الخروج واللاوين والعدد والتثنية، يتابع يهوه إنزال شريعته على موسى ويفصح من خلال أعماله وأقواله عن شخصيته وطبيعته الإلهية وعلاقته بالإنسان. ويتميز وحي يهوه لموسى عن وحي ماني وزرادشت بعدم وجود ملاك وسيط ينقل الوحي لأن يهوه كان يخاطب موسى شفاهة وموسى يسمع صوته. في الإسلام يعود الوسيط الملائكي للوحي من خلال الملاك جبريل، ويستمر الوحي مدة 22 سنة حتى حجة الوداع عندما تلا الرسول على أهالي مكة الآية القائلة: “اليوم أكملت لكم ينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”.
هذه الأديان الأربعة هي يمكن لنا أن نصنفها في زمرة أديان الوحي، أما المسيحية فدين خال من الوحي، وفيما عدا الجملة التي قالها الروح القدس بصوت سمع من السماء: “أنت ابني الحبيب الذي به سررت” مرقس 1:11 لا نجد في سيرة يسوع وفق الأناجيل خطاباً واحداً موجهاً له من الله. والتفسير الكنسي لغياب الوحي في الأناجيل اعتماداً على إنجيل يوحنا، هو أن يسوع المسيح هو نفسه كلمة الله التي تجلت في أعماله وأقواله.
نخلص من هذا إلى أن الأديان المدعوة بالإبراهيمية ليست كلها أديان وحي.
3- الأديان الشمولية أو العالمية:
الدين الشمولي هو عقيدة عابرة للحدود الجغرافية والاثنية تطمح إلى الانتشار على أوسع مساحة ممكنة من العالم عن طريق التبشير الذي لم تعرفه الحياة الدينية للإنسان قبل البوذية، التي كانت أول ديانة تخرج من موطنها في الهند لتستولي على الحياة الروحية لمعظم أنحاء شرق وجنوب شرق آسيا، وينضوي تحت هذه الزمرة أيضا عدد من الأديان التي صنفناها في زمرة التوحيد وزمرة الوحي، وهي المانوية التي وصلت شرقاً حتى الصين وغرباً حتى فرنسا ومثلها المسيحية والإسلام. أما الزرادشتية فعلى الرغم من توجه تعاليم زرادشت إلى البشر في كل مكان إلا أنها تحولت تدريجياً إلى دين قومي لإيران، ومثلها اليهودية التي بقيت ديناً لإسرائيل لا يدخلها إلا من هو مولود من أم يهودية. ولهذا فإننا لا نستطيع وضع الأديان الإبراهيمية الثلاث في هذه الزمرة ولا في أية زمرة أخرى، والمصطلح باطل وما من فائدة ترجى من البحث عن بديل له.