المحامي ميشال شماس – الناس نيوز ::
في 26 مايو/أيار عام 2017 كتبتُ مقالاً نُشر في مجلة جيرون بعنوان “هل سيجرّم الأسد الإعجاب على مواقع التواصل الاجتماعي؟” تحدثت فيه عن أنّ نظام الأسد بدأ يضيق ذرعاً، ليس بما يكتبه السوريون في وسائل الإعلام فقط، بل وأيضاً بما يكتبونه في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا سيّما على صفحات (فيسبوك).
وهذا ما فُهِمَ حينها من كتاب رئيس حكومة الأسد عماد خميس رقم 4658/1/ تاريخ 20 أبريل/نيسان 2017، والذي طلب فيه خميس من وزير العدل، إعداد مذكرة تفصيلية حول ما تتناوله بعض وسائل الإعلام الخاصة، وبعض الإعلاميين في وسائل الإعلام الرسمي، من قضايا وموضوعات تستهدف العمل الحكومي، وتساهم في إضعاف هيبة الدولة والانتماء الوطني لدى المواطنين.
وقد عبّر كثير من السوريين حينها عن استيائهم واستنكارهم لهذا التضييق والتشدد على حرّية الرأي والتعبير، وعبّروا عن تخوفهم وقلقهم الشديدين من أن يصل التضييق إلى حد تجريم التعليقات أو حتى “اللايكات” على صفحات التواصل الاجتماعي، واعتبار كلّ من يعلق أو يضع إعجاباً على منشور، ينتقد أداء الحكومة أو مؤسساتها، مجرماً.
لم يطل الوقت كثيراً، فمنذ أيام تحوّلت تخوفات السوريين إلى واقع، بعد أن أصدر بشار الأسد الأسبوع الماضي قانون الجريمة الإلكترونية رقم 20 لعام 2022، الذي أقره مجلسه بعد أن قام بتوسيع مروحة الممنوعات لتشمل حتى التعليقات والمشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي. أي أن كل من يفتح فمه أو يستلّ قلمه أو حتى يهمس همساً بالسر والعلن بات مهدداً بالسجن والغرامة المالية.
فالمادة (3) الفقرة “أ” من القانون المذكور ألزمت مقدمي خدمات النفاذ إلى الإنترنت بحفظ بيانات الحركة لجميع المشتركين لمدة زمنية تحددها السلطات المختصة، الأمر الذي يُعدُّ انتهاكاً صارخاً لخصوصية المواطنين الرقمية، وتمكين الأجهزة الأمنية من الحصول على كل المعلومات التي تخص ناشطي الإنترنت السلميين متى أرادت.
والمادة 27 منه، “عاقبت بالاعتقال المؤقت من سبع سنوات إلى خمس عشرة سنة وغرامة من عشرة ملايين ليرة سورية إلى خمسة عشر مليون ليرة سورية كل من أنشأ أو أدار موقعاً إلكترونياً، أو صفحة إلكترونية أو نشر محتوى رقمياً على الشبكة بقصد إثارة أفعال تهدف أو تدعو إلى تغيير الدستور بطرقٍ غير مشروعة، أو سلخ جزء من الأرض السورية عن سيادة الدولة، أو إثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة بموجب الدستور، أو منعها من ممارسة وظائفها المستمدة من الدستور، أو قلب أو تغيير نظام الحكم في الدولة”.
ووفقاً لهذه المادة فإن مخابرات الأسد يمكنها بسهولة توجيه الاتهام لأي محتوى رقمي بحجة أنه يؤدي الى تغيير الدستور أو قلب أو تغيير نظام الحكم أو يشجع عليه…
وأما المادة 28 فقد اختصت بمعاقبة كل من ينال من هيبة الدولة: “يعاقب بالسجن المؤقت من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وغرامة من (5,000,000) ل.س خمسة ملايين ليرة سورية إلى (10,000,000) ل.س عشرة ملايين ليرة سورية كل من قام بإحدى وسائل تقنية المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية”.
وبالرغم من وجود نص مشابه لها في قانون العقوبات إلا أن نظام الأسد أصرّ على إدراجها في هذا القانون وجعلها تشمل السوريين في الداخل والخارج.
باختصار أراد بشار الأسد بهذا القانون إغلاق أخر متنفس للمواطن السوري، بعد حرمانه من الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ووصوله لأسفل درجات مستويات المقاييس العالمية في مختلف مجالات العيش، وأعاد من جديد تثبيت الأذان في الحيطان لتسترق السمع ما يُحكى ويقال خلف تلك الحيطان.
فالعناوين الفضفاضة التي وردت في هذا القانون مثل “النيل من هيبة الدولة ووهن نفسية الأمة” أو المساس بالوحدة الوطنية، أو إثارة الرأي العام، أو الإساءة للشخصيات الحكومية والعامة أو نشر معلومات عن الواقع المعيشي أو التركيبة الديموغرافية الجديدة بسورية، قد جعلت كل السوريين رسمياً وقانونياً مجرد مجرمين وعملاء مطعون في وطنيتهم.
واستناداً لتلك التعابير الفضفاضة والمبهمة تستطيع مخابرات الأسد ببساطة اتهام أي ناشط أو ناقد أو حتى ممتعض من الوضع الخانق بسورية ووضعه في السجن.
فمن ذا الذي يستطيع أن يحدد مضمون الدعاوى التي ترمي إلى المساس بالهوية الوطنية، أو القومية؟ أو أن يحدد الأنباء التي من شأنها أن تبث اليأس أو الضعف بين أبناء المجتمع أو إثارة الرأي العام؟ ومن يستطيع أن يحدد الأنباء التي تنال من مكانة الدولة المالية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو العلمية، أو الثقافية، أو التاريخية، أو من يستطيع أن يحدد الأفعال التي تهدف أو تدعو الى تغيير الدستور بطريقة غير مشروع.؟
إن التعبيرات التي وردت في هذا القانون غير واضحة المعالم، ولا محددة الأطراف وفضفاضة، تكاد تتسع لكل شيء، إذ لا يمكن حصرها بأسباب بعينها.
والهدف هو كم أفواه السوريات والسوريين نهائياً وإشغالهم ببعضهم، وتوريط القضاء في مواجهة الناس بدلاً من أجهزة الأمن التي شكّلت، وما تزال، الوجه القبيح للنظام، طوال خمسين سنة الماضية، في طريقة التعامل مع كل ما يصدر من أراء وتعليقات وانتقادات أو ما يُنشر في وسائل الإعلام، وما يُحكى في المؤتمرات والندوات والاجتماعات والمجالس داخل سورية وخارجها، وذلك في محاولة لتخفيف العبء عن عناصر الأمن، وتحويل الأنظار عن ممارساتهم السيئة، وتلميع صورتهم على حساب القضاء، وفي الوقت نفسه إضفاء الشرعية القانونية على طريقته الجديدة في التعامل مع حرية الرأي والتعبير، وليبدو، أمام العالم، أنه ملتزم بالشرعية القانونية، وأن كل شيء يجري في إطار الدستور والقانون والقضاء، وهكذا يورطون القضاء ويضعونه في مواجهة الناس وقمعهم وكبت حرّياتهم، بدلاً من أن يكون هو الحامي والضامن لحريات الناس وحقوقهم.