ميديا – الناس نيوز ::
أس بي أس – الكاتبة والشاعرة – بترا طوق – سيدني – يقف مارسيل خليفة على مسافة 23 سنة من جدارية درويشه في مرثية الحياة والموت التي تمثل عصارة فكر محمود درويش الذي رحل ولم يرحل، ليحولها في أنفاس روحه إلى ملحمة موسيقية في مشاهدة لسرّ الحياة بالنسبة للعمشيتي الباحث عمّا وراء الجسد. ومن الجزيرة البعيدة هنا في أستراليا، حيث نسج من روحه روحًا لعام ونصف مع درويشه الغائب الحاضر مستحضراً إياه من بطن الموت، كيف حوّل مارسيل خليفة مرثية الموت إلى صرخة حياة؟ كيف دخل حتى التعب في قلب سر النهاية وتجليات الجدارية الدرويشية ليهزم الموت “بالفنون جميعها” فتكون بداية البدايات؟ بماذا سيبوح خليفة عن إنسانه وفنانه في ترحال نصف قرن من الموسيقى وهو الطفل في مشيب؟ الإجابة في هذا الوثائقي الصوتي مع الكبير مارسيل خليفة في الملف الصوتي أعلاه.
النقاط الرئيسية:
- أطلق الفنان مارسيل خليفة ملحمة موسيقية لجدارية محمود درويش على مسافة 16 سنة على رحيله و23 سنة على إطلاق ديوانه الذي يحاكي الموت
- يأبى خليفة إلّا وأن يستحضر محمود درويش من بطن الموت لينساب صوته في مقاطع “الأنا” في عمل يمتد على مدار ساعتين من الوقت والذي تم تلحينه في استراليا
- يعتبر خليفة أن الجدارية هي من أعظم ما كتب درويش او الشعراء من عصر المعلقات وحتى يومنا هذا، لأنها تجسيد للحظة الموت تلك التي يذهب الانسان اليها ولا يعود
- يبوح في هذا الوثائقي الصوتي المطوّل لبترا طوق الهندي بالكثير عن مسيرته الإنسانية والفنية
نحو “مرثيّة الحقيقة الأبدية” ليتفيّأ في ظلال لغة تتخمّر كالوليد وذلك بعد حوالي أكثر من 23 سنة من صدور الديوان، فأرهقه هذا الدّنو الذي فيه سكب روحه مقامًا موسيقيًا ووقف وجهًا لوجه مع درويشه، سر الحياة ورحلته الوجودية وهناك، في الجدارية قرأ اسمه وتاريخه وتوقه الى ذلك المطلق.
صوت درويش سيخرج من بطن الموت
كما أوصدت الأبواب قسرًا في العزلة الأولى في الحرب اللبنانية عام 1975 فكانت البداية مع عود ذاك الشاب العمشيتي وأولى قصائد محمود درويش، كانت البداية في العزلة الثانية في الجزيرة البعيدة هنا في أستراليا، ومن قلب الأبواب الموصدة جرّاء جائحة لم تستأذن العالم عام 2021، امتزجت الكلمة باللحن الذي انتظرته لعقدين من الزمن كالتربة العطشى لزخّات المطر الأولى.
“في عزلتي في بلدتي عمشيت مع بداية الحرب اللبنانية، لم أجد بين يدي سوى ديوان شعر محمود درويش وكنت أمضي الوقت برفقته، وفي صباح باكر من شهر آب/أغسطس من العام 1967 دخلت إلى احدى استوديوهات باريس الصغيرة بمفردي أنا والعود وبعض الالحان المدوّنة وكانت ولادة “وعود من العاصفة” فدخلت تلك الالحان الأعماق ومس الجمهور حنينٌ عميق وبدأت القاعات تضج بالناس، وتوالت الاعمال، وها أنا اقف أمام نص موسيقي إنشادي مستوحى من العالم الرؤيوي في جدارية محمود درويش”.
في العزلة الثانية هنا، تحت ظلال كل شجرة في سيدني، جلس مارسيل خليفة في خلوة مع بوح درويشه حاملًا معه ألمه وقلمه الرصاصي، وأوراقه وجدارية صديقه ورحلته الإنسانية بأكملها، ليتبرّأ من وحشة الصمت والفراغ الأسود فيرتّل في مخزون الذاكرة ما ترك الشاعر في المدى من آيات الحياة والموت والخسارة. على مدار عام ونصف التهم من ثمار الجدارية الكثير، ليتنشق عبير الولادة ورائحة المكان الذي كتبت فيه فلسفة الوتر في حدائق الجزيرة الأسترالية البعيدة.
يقول خليفة: “عندما بدأت بتلوين الجدارية بقلم الرصاص بالنوتة، بدأت باقتراف الخطيئة الفاتنة وكم كنت أخاف ان أنام في الليالي وتعبت جفوني لئلا تفرّ منّي جملة موسيقية وترمي نفسها في النسيان”.
” لم أكن أرفع رأسي عن المخطوطة لأرتشف كوب ماء. كنت أمضي ساعات في عزلتي مع الجدارية فأغلق الباب على العالم الخارجي وأجرّد نفسي عن المكان وأقرأ كل فقرة مرارًا وتكرارًا ببطء لعل بيتًا أخطأ الطريق في القراءة الموسيقية الأولى“.
خليفة العاشق لشعر درويش والمردد لأبياته ينظر الى الجدارية كفيض من السماء:
تساقطت جدارية محمود درويش من السماء عليّ ولي في هذه الأيام الصعبة
“كم من ديوان مرّ وترك بين يديّ أغنياته وحفر في تيه أوتار عودي نغماته منذ سنة 1976 ، ولكن في الجدارية شعر الروح المحاصر بالغمّة وفكرت أنني لربما أوقد جمره في هذا الصقيع على أحصنة الريح”.
اكتشف خليفة في رحم الجدارية أسرارًا مقفلة وأسئلة مهملة ونساءً تستبد بهنّ رائحة الياسمين وتيهه ليبوح النص بمكنونه في متّسع من الصفاء الطفولي، ليعود في الجدارية إلى البدايات، إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي حين قرأ قصائد درويش الأولى موسيقيًا والتي تحولت بعد حين إلى ما بات أشبه بالنشيد الوطني للكثيرين.
“لا شيء أبقى من الجدارية في القلب، قد يذهب الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن الجدارية تخطف كل ذلك وتزف الزمن في موكب المعنى والصور”.
يرى خليفة في الجدارية عملًا صادحًا تكثر فيه أسئلة لا أجوبة لها، وفي غيابه القسري عن الوطن أثناء الجائحة، وجد في الجدارية ملاذًا لعزلته ووحشته، ليختار أن يقف كالزاهد أمام إغراء الشعر ويهيم على عوده في البعيد.
“أدمنتُ على هذا العمل ولم يسرقني منه شيء، وفي غرفة صغيرة في عزلتي في الجزيرة البعيدة كان يسكنني السلام الداخلي وكانت الجدارية تمسح عيني كمن يحتسي الفنجان وبهدوء أدوّن على ما ناظري يتدفق وتخرج المعاني اليّ من الغموض، كان العالم يكبر بي وكم كان يطيب لي الصمت والتأمل”.
مارسيل خليفة الذي بات ضيفًا على المجرّد، انغمس في الجدل بين الحياة والموت، الكلمة واللحن، كي يستبين كيف تنشأ الأشياء من الأضداد، فأطال التأمل في الفارق بين الأرواح والأجساد.
اسأل نفسي ان كنت مجنونًا حين بدأت في هذا العمل فأرى انني كنت مفتونًا به غارقًا في التأمل
وعن ألم المحبة في ولادة اللحن يقول: “بالطبع أرهقتني الجدارية وفيها قرأت اسمي وقرأت لوحة الحياة والموت لأقود شمعة في عتمة فراغ مجهد ولأهب المعنى للأشياء وأقرّ خوفي المدفون لئلا يضيع مني الليل وتنسدل الجفون”.
محمود درويش الغائب الحاضر
يستحضر مارسيل خليفة محمود درويش من بطن الموت لينساب صوته في مقاطع الأنا وكأنه يتحدث من العالم الآخر. خليفة المشتاق لدرويشه الذي لم يمت بالنسبة إليه، يأبى أن تبصر الجدارية “المموسقة” النور ألا في حضور صاحبها في نفس صوته.
سينساب صوت درويش في مقاطع “الأنا” والموت” في هذا العمل وكأنه حيّ يتحدى الموت برفقة غناء الروح الأبدي كأنه يغنّي بشجن وكأن الزمن مع صوت درويش ما زال حيًّا
درويش الذي كان يتسلل إلى الورق في ليل الأقاصي ليطبع ملح كلامه في الموسيقى التي كانت تجد طريقها الى الورق، لن يكون حاضرًا في نفس الكلمة وحسب، بل سيصدح صوته مقامًا من ذلك العالم الآخر.
الجدارية هي مرثيّة الحقيقة الأبدية وستخرج مع صوت درويش من بطن الموت لينضج المعنى وتتقاطر الصور الموسيقية ليفتن ما فاض عن حاجة التعبير
خليفة الذي تذوق الحياة في جدارية البحث عن الحياة في سر الموت، لم يرغب في أن يخاطب الأحياء فقط في الجدارية، بل أيضًا الأموات من خلال الموسيقى ويؤكد أن رغبة محمود كانت في الحياة وليس خوفًا من الموت.
وعما إذا كان درويش يبوح بأسرار الحياة في هذا العمل الاستثنائي يقول مارسيل خليفة:
أعتقد أن الجدارية هي من أعظم ما كتب درويش أو الشعراء من عصر المعلقات وحتى يومنا هذا، لأنها تجسيد للحظة الموت، تلك التي يذهب الإنسان إليها ولا يعود ليخبرنا عما شاهده هناك
أضاف، “الإنجاز الأكبر الذي شعرت به هو في تذكر الموت ونسيان الكاتب لأن الكتابة فعل حب فالكراهية لا تصنع الكتابة. الحياة أقوى من الموت والرهان هو على الحياة”.
وفي قلب اشتياقه يبوح عما يختلج القلب من تجليات يقول: “اشتقت لمحمود درويش وأشعر بأنه لم يمت وهو فعليًا كذلك لأنه حي في كلماته. شعرت بأنني أسمعه موسيقى الجدارية عن قرب إذ كتبتها له، لذلك كانت المهمة صعبة إذ تتطلب جرأة على المخاطبة والتساؤل عما إذا كان يسمعني درويش الذي أغمض عينيه من سنوات. الجرأة هي في إنتاج نص موسيقي يستطيع مخاطبة الأحياء والأموات”.
درويش يتنفّس في صوته
في هذا العمل الملحمي الذي سيطلق في ذكرى ميلاد الراحل محمود درويش في الثالث عشر من آذار/مارس وعلى مسافة ست عشرة سنة على رحيله في الجسد، سيحضر درويش في صوته للمرة الأولى في اعمال مارسيل خليفة اذ يقول:
” يرتّل الشاعر البيان وصوته يمر كسحابة في الموسيقى التي تحوله الى مطر ناعم في ذاك الخريف البعيد ليروي المعنى في ظمأه. يفتح درويش جهاز الاصغاء كي نلتقط انفاس القصيدة الداخلية ولصوته مفعول السحر”.
ومن صوفية صوت درويش وخليفة، تبوح النفس البشرية بهذيذ ما وراء الكلمة مع المنشد التونسي ظافر يوسف مرفقة بنسمة من الاصوات النسائية التي باحت بأسرار الحب، الرحيل، عناق الجسد وتألق الأنا لتتجسد كل هذه المعاني في سر الصوت الذي يخترق مسام الجسد في هذه الملحمة الموسيقية:
“صوتان يتبادلان الحب والجمال، الحياة والموت هما صوت درويش وصوت صديقي ظافر يوسف الذي سيمثل النفس البشرية التي تبوح بالآهات لا الكلام “،
“وللجوقة دور كبير في هذا العمل مع أربع منشدات بأصوات دافئة”.
في الموسيقى عبثٌ لا ينتهي
تنبثق الموسيقى من جوف مارسيل خليفة كانبثاق المياه من جوف الصحراء وانبثاق الفجر من جوف الغياب من العالم السري، من ذلك الأفق البعيد الذي لا يدرَك كالنور ليكتب خليفه ما يسمعه وما لا يسمعه الا همسًا في تجليّات الروح فيقول:
“اكتب الموسيقى على الورق بحبر سريّ دون تردد وانا المؤلف لا الناقد، أُحضّر لموسيقاي من الأفق البعيد وكلما عزفت على العود، يسكنني الحنين للمذود”،
“اكتب ما اسمعه وما لا اسمعه في ومضة من زمن سريع لا ينتظر احدًا واهديه لأمهات كثيرات أوقدن لي شموع الطريق. اكتب لحب يرث من التسامح ما يفيض، اكتب لعصفور يغنّي، اكتب موسيقى لأحرّض الناس على التوهّج وبلوغ النشوة”
ويقف في سرّه امام سر الموسيقى ليقول:
لا اعرف كيف اكتب الموسيقى تمامًا كالسمكة التي لا تعي كيف تسبح والعصفور الذي لا يعي كيف يطير وكالطفل الذي لا يعي كيف يمشي
“فالموسيقى انبثاق داخلي كالبرق والخصوصيّة، ان يصنع الانسان لغته الخاصة والموسيقى بصمات والعالم لا يحتاج لنسخ متشابهة”. ” اكتب موسيقى عندما لا اقوى على الكلام”
يبحث خليفة اليوم عن موطئ قدم في زحام العالم والتاريخ وبعد هذه الرحلة الزاخرة يكمن التحدي الأكبر بالنسبة إليه في تحقيق الذات في خصوصيتها في خضم هذا الزحام وهو الذي لا يزال يرى نفسه كهاوٍ رغم الاحتراف يقول:
“لم أكن اعي ان موسيقى ذاك الطفل ستأخذ درب الاحتراف. لا أحد يمكنه ان يقرر سلفًا انه سيصبح موسيقيًا، ورغم الدرب الطويل الذي مشيته اشعر أنني ما زلت هاويًا رغم الاحتراف”.
سرّ البدايات
يقطع خليفة مسافة الزمن ليعانق حبّه الأول في رحمه الأول بين دفء تراب ماتيلدا الأم، ودفء تراب مسقط رأسه عمشيت ليحتضن مصادر السماع الأولى ويهيم في صوت من كانت نسيم الروح والريح ومن ايقظت في كيانه وشم النّغم وتدفقه سرّا يُدرك ولا يدرَك ليتنهّد امام مقام صوت يوسف الصياد ويلامس السماء مع شبّابة جدّه وصبح صوت والدته.
يغمض العينين الثاقبتين ليعود في مشيبه الى طفله المفتون بصوت الغجر تحت الجسر العتيق وايقاع الطفولة المحتفلة على “التنك” في الحي العمشيتي فيقول:
” كان صوت الغجر في الخيام تحت الجسر العتيق يلمسني بحنين جارف مع صوت البزق، ما زلت اسمع صوت صدى تلك الايقاعات حتى اليوم وعجز الزمن الطويل على اسكات ذاك الصدى الجميل الذي يسكنني”،
” كنت اغنّي مع أولاد الحي على إيقاع التنك وعلب الحليب الفارغة ورافقني هذا الحنين طوال حياتي لهذه الأصوات في قريتي عمشيت ومؤلفاتي هي تردد لما حفظت به من أصوات البحارة والفلاحين”
“كنت في وعي ذلك الصبي انخطف بالأصوات واشعر بالموسيقى وأتذكر صوت جدي العذب في جلسات الطرب وهو يعزف على “الشبّابة” التي تشبه الناي، ووالدي كان يسلطن على صوت والعود وانا أصبحت موسيقيًا بفضل امي لأنها هي من التفتت الى ميولي الموسيقية”.
ملاذ الطفولة
تخترق الطفولة نصوص مارسيل خليفة في طفله المكلل بالمشيب لتستحضر عالمًا مفقودًا فيعود الى كنف ذلك الرحم الأول في منزل يتسّع للحلم رغم صغره ليسمع موسيقاه الأولى المليئة بأصوات البحارة والفلاحين لوالده وجده وجدته، ورغم ذلك يشعر بأنه لم يكتب حتى اللحظة الموسيقى التي يحلم بها، فيسمعها في الحلم وعندما يستيقظ تضج في أذنيه بصمت صارخ.
“تنبهتُ للموسيقى منذ طفولتي، فكنت أُرندح أكثر من الكلام فالموسيقى كانت كالهمس، ودمعة الموسيقى اكثر دفئًا من دمعة الحزن، وتبوح الاصوات أحيانًا بما لا تبوح به الكلمات وتستقر في القلب”.
بالنسبة لخليفة، تخرج الموسيقى من الشخص ومن ثم تعود لتستقر فيه، فكانت الموسيقى تضع الحانها في يديه ليكوّن العالم من حوله ويشيّد الصور التي تصنعها من حطامه:
“الموسيقى كالمرأة التي أعشق من صنع خيالي، حروفها مبهمة ولها اسرارها واسوارها تملأني بالدهشة العالية والتحرير لوثبة القلب”.
في الموسيقى عبثٌ لا ينتهي والطفولة تخترق نصوصي الموسيقة بأكملها
“فالطفولة لا تُكتب مرة واحدة فتصبح الحلم المنشود والتذكُّر يستحضر العالم المفقود ويجمّل ذاك العالم البعيد، فطفولتي تخللها عذابات رغم الحب الكبير”،
“في منزلنا الصغير، ذاك المسكن الإنساني الضيّق، كتبت أولى اعمالي فكانت تفيض بأصوات من زار وسكن هذا البيت لتمر من خلاله ذاكرتي وكل الاستعارات متقاطعة. لا أنطلق من بداية، بل اواصل بدايات كتبتها هناك”.
ويتابع خليفة في بوحه عن سرّ انبثاق النّغم قائلًا:
كل ما كشفته الموسيقى لي قد يبدو قليلًا، ولكن هذا القليل الذي نحتّه في جدارك الداخلي ليس بالضرورة ناقصًا!
“للموسيقى اوتارها وانا كنت الدليل لهذا الوتر، وكنت للموسيقى رفيقًا، اطلبها وتطلبني وتداويني من مرض الخوف ومن الغد. كم هي رحبة الرؤية في حضرة الموسيقى التي تطلق الفكرة من اصفاد الكلام وحطام البيان. هذه هي الموسيقى التي اعرفها”.
ماتيلدا الحب الأول
يقف خليفة في خلوة القلب وبخشوع امام المرأة والسماء الأولى في حياته والتي لم يقوَ على إدراك او تصديق انها رحلت وان ترابها الذي حاك أنفاسه، بات تحت التراب فوقف عاريًا مع المواجهة الأولى مع سرّ الحب وسرّ الموت لمن لا تقوى على الموت! فبات المراهق المرهف والمتمرد في سنيه الخمس عشرة يبحث عن رائحتها ويتضوّر جوعًا لفُتات من حضورها وكسرة من خبزها:
ماتت امي ولم أكن اعرف ان الام تموت فتذهب وحدها الى تراب الورد
“لم اصدق في البداية انها لن تعود، ولم اسلّم بكوني لن اراها او اسمع ضحكتها مرة أخرى وهي التي بقيت تبتسم حتى الرمق الأخير وتضفي علينا الفرح بما لا يتناسب وآلامها”.
يستحضر لهذه اللحظة صوتها وهي “ترندح” الترنيمة بحب عظيم ودون انقطاع كيف يغفو فيقول: “ترعرت على ترانيم أمي وكان في صوتها جمال غامض يختلط مع صوت الريح الذي يهب من صوب البحر، ولكن أمي رحلت قبل الأغنية فلم تشهد على ترحالي الطويل وبعثرة ايامي في الحقائب والمطارات وعبوري الأرض كما يعبر الطائر”.
يعتبر خليفة ان الموت لا يقوى على مصادرة حق الحب، فكما يفترق العشاق يبقى الحب. ومن كان يخشى الظلمة في صغره، أدركه نور اناملها فسكن القلب.
اذكر انني كنت أخاف الظلمة في صغري وكانت خواطر أمي واصابعها الجميلة وهي تمتد الى جبيني المغطى بخصل الشعر الهاربة، تخربط العالم وتبعثر الظلمة
” لا أذكر من أمي غير جمالها الناطق بالحب ونصائحها الصامتة لولد منذور لما يُقلق. إنها اجمل الامهات”
بيروت المكسورة
من الجزيرة البعيدة في سيدني، يسترق مارسيل خليفة الإيقاع السريع في المدينة الصاخبة ليعبر نفسيًا وعاطفيًا الى بيروت في إيقاع الحب الذي يلغي المسافة ويعود في طفله الى ساحة الشهداء في اشتياق الى تلك المدينة المكسورة فيستعيد الطرقات الى افق يفيض حنينًا لا ينتهي.
“غنيت بيروت نجمتنا وهذه المدينة تنفتح على امتداد البحر والجبل. كلنا في قلق ومن يملأ فراغ الذين رحلوا وكم هم كثر. نحتاج الى معجزة تنتشلنا من هاوية السقوط وكم يجرحنا هذا الدمار الشامل”
يستذكر أيام ذهابه الى الكونسرفتوار الوطني في العاصمة بيروت وفي قلبه رغبة ثاقبة في ان يغيّر العالم في حماسة ذاك الفتى، وفي المواجهة الأولى مع ظلم وظلامية معاينة الواقع في مخيمات اللاجئين في طريق عودته من بيروت الى بلدته عمشيت، كان الصمت يراوده. فكيف باتت فلسطين ارض أغنيته؟
“سألت عما عاينت في طريق العودة من الكونسرفتوار في العاصمة بيروت الى عمشيت، فقيل لي إن تلك الخيام هي منازل اللاجئين. في ذلك اليوم تعرفّت على فلسطين القضية فباتت ارض أغنيتي، وباتت فلسطين تسكنني في هيئة قصيدة او مظاهرة او نقاش او أغنية والتقيت آنذاك ومحمود درويش للمرة الأولى في احدى مقاهي بيروت وكان قلبه يتألم كالطفل في وجع قصيدته”.
“باتت فلسطين ارض اغنيتي من منتصب القامة مع سميح القاسم، طفل يكتب فوق جدار ومعين بسيسو، إني اخترتك يا وطني علي فودا، يا شعبي وتوفيق زياد والبداية كانت مع وعود من العاصفة، تصبحون على وطن واحمد العربي وأندلس المجد الضائع الى فلسطين المسلوبة وصولًا الى “يا بحرية” “.
خليفة الهائم في الحرية، العنيد في الخلق الفني، يرفض أن يصنّف كفنان ويقف في امتحان امام اصالته ولا يستجدي حب الناس ليختار الحرية حبّه الأول، يتساءل عن قيمة الفنان ان صاغ هويته بحسب انتظارات الناس، ما ينتقص من تجرده الفكري واصالة لغته وحريته فيقول:
لا اؤمن بشيء كإيماني بالحرية ولا أكره شيئًا على ما من شأنه الحد من هذه الحريّة، ولو كان متأتيًا عن طريق المحبة او عن طريق الحب!
“ما قيمة الفنان ان أصغى لانتظارات الناس ولم يصغ الى فرادته، فهذا ينتقص من تجرده الفكري واصالة لغته وحريته لذا ارفض تصنيف الفنان وارفض ان يحدد أحد صفتي وهويّتي”،
“نعم انا فنان ثوري ولكن هل يمكن اختزالي في كوني ثائر؟ بالطبع لا، فانا الثائر والهادئ، المحب والكاره والصارخ كالمجنون في أعمالي. اهمس كالطيف واختنق كالغريق، اذ انها معركة بيني وبين أصالتي وامتحان لشجاعتي الروحية فأنا هائم بحريتي”.
ويتابع قائلًا: “لا اتملّق الجمهور ولا استجدي التصفيق ولست ضعيفًا امام محبة الناس. أفضّل حريتي على اعجاب الناس واعيش أرقًا دائمًا ولا يلين للمساومة”.
آلة واكثر في رحم يديه
رافقت آلة العود الكلمة في هذا القران الصوفي بين حبر درويش ونفس خليفة، فكانت هي هيكل الحب بأوتارها، ولكن لم تكن رفيقة الكلمة حسب بل باتت تجليًا دون عرس الكلمة. فهو الذي عمل على تطوير آلة العود وساهم في خلق توازن إذا أمكن التعبير بين السلفية المفرطة في انكار التطور التاريخي والفوضى العبثية التي تقترح بابًا واحدًا للمعاصرة يقول:
“في ديوان العود جمعتُ ما بعثرته الأيام واكملت الطريق مع آلة لا تعرف الحدود لذا حاولت أن اروّض نبرته الى التحليق بعيدًا فولدت النزعة الحادة للإفلات من القطيع”.
The acclaimed Lebanese artist Marcel Khalifé journeys with Petra Taok in an intimate and profound encounter with his beginnings delving into half a centenary of music composition touring the world with his voice and Oud, and unveiling his awaited musical epic of Mahmoud Darwish’s mural in the eulogy of life and death that was composed in Australia.
مارسيل خليفة المشاكس والمتمرّد، المؤمن حتى الصميم بالحرية والمفلت طوعًا من ايديولجيا القطيع في كل ابعادها، كيف تحوّل العود في رحم يديه الى أكثر من آلة؟ كيف ترجم هذه النزعة مع آلة مرت بتاريخ الشعوب وكادت ان تصبح سجينة الأمس؟ هل حررها في هذا التجديد ام أسرها فيه إلى أن تستسلم بين يدي عاشق آخر للحرية؟