رمت سلوى زكزك بمجموعتها القصصية الجديدة “يوم لبست وجه خالتي الغريبة” في وجوههنا، ومضت تكتب أشياء جديدة. صفعتنا، حين عرضت علينا واقعا نعرفه ولكننا نغمض أعيننا عنه، كأنه غير موجود، لنريح ضمائرنا، فلا نشعر بالذنب ونحن نلاعب صغارنا أو نرتشف قهوتنا الصباحية.
عالم سلوى زكزك هو عالم المهمّشين في سوريا، عالم قاس، فاجر، كئيب، يمكنك أن تمرّ قربه في كلّ يوم، ولا تراه، ليس لأنه غير موجود، بل لأنك لا تريد لبصرك أن يقع عليه.
كتب نيكوس كازنتزاكي مرّة “الأسوأ من الأعمى هو ذلك الذي لا يريد أن يرى.” لو كنّا عميانا لهانت المسألة، ولكننا مبصرون، ولا نريد أن نرى.
لا نريد أن نرى عمّال البسطات الذين يحاولن بيع شحّاطات البلاستيك أو عبوات المياه والحقائب البلاستيكية الرخيصة، يبحثون عن زبون من السماء، ليرضى عنهم معلّمهم. لا نريد أن نرى بائع البطيخ ليلة العيد وهو يؤمّل نفسه بأن يبيع الكمية التي يحملها على ظهر الشاحنة الصغيرة قبل أن يعيدها لصاحبها، فينقلب البطيخ ويتدحرج من أعلى الطلعة، فيبيعه مكسّرا وبخسارة، بينما تستقر بطيخة بين يدي أيهم الولد الذي يجمع البلاستيك من القمامة، فيعمل أسنانه بها.
لا نريد أن نرى تلك السيدة البائسة التي تطلب من الصيدلي حبوبا للإجهاض فيطلب منها وصفة طبيب. تلك الصبية البائسة التي أحبت فأعطت قلبها وجسدها لمن تحبّ، وحين حملت، قال لها “أنت تتحملين آثار أي خطأ يحدث”، تسير من صيدلية لأخرى بحثا عن حبوب الإجهاض، قبل أن تشعر بالدماء تسيل منها، فلا تعود بحاجة لصيدلي ولا لعاشق ولا لدواء.
ولا نريد أن نرى تلك السيدة التي تحمل طبق حلوى توزعه على الجيران لأن ولديها وصلا النمسا أخيرا بعد أشهر من العذاب بين أيدي مهربين عبروا بهما البحر واليابسة، وبعد أن باعت كلّ صيغتها واثاث بيتها لتساعدهما على الوصول إلى هناك.
تختار سلوى زكزك شخصياتها من حولها، فهي لا تذهب بعيدا ولا تجنح للخيال ولا تعمل فكرها في تأليف أشخاص قصصها. سيدة تنام في الحديقة، وعاملة تخفي عن رب عملها صاحب المعمل الذي تعمل فيه أنها متزوجة لأنه لا يقبل بتوظيف متوجات في عمله، وراكبة سرفيس تحدّث نفسها بصوت مرتفع وهي تحسب أن أحدا لا يسمعها.
قبل كتابتها لمجموعة القصص وفي أثنائها وبعدها، احترفت سلوى زكزك كتابة ما تراه في يومها على حسابها على فيسبوك، فترصد تفاصيل صغيرة، تتركها لك ليوقعك في شرك الألم العاجز، ويجعلك تشعر بشيء من الاحتقار لنفسك، لأنك نجون و “هم” غرقوا.
تكتب سلوى على صفحتها:
“التاسعة بتوقيت دمشق، بتوقيت الصقيع، ركاب قلائل ينتظرون الحافلات الغائبة وقليلة العدد، كل منا يقول للأخر : ( شو طلعك من بيتك بهالجليد واليوم جمعة)..
عند جسر الرئيس ثلاث متسولات يتشاجرن على مكان الجلوس، تحاول أحداهن توجيه الأوامر وتوزيع المتسولتين على الادراج الأخرى.. فيكون نصيبها قتلة بالصرامي النايلون التي تلسع وجهها عدا عن كم مرعب من الشتائم ..
في السرفيس يقول لي رجل مسن : (شقي الشباك نتفة رح اختنق) ويسعل كمجرشة بحص..
تتقاسم المتسولات الطفلات الحافلات..نفس الصوت ونفس الأدعية والركاب بصوت واحد يصرخون قائلين( مشان الله اسكتي..صوتك بيبخش الأدان)..ويضيف احدهم (هلق اختك اخدت يلي فيه النصيب )….
أصحاب البسطات استفاقوا لتوهم ويباشرون بإزالة التغطية عن بضائعهم..كل شيئ في مكانه وتبدو عيونهم مستيقظة حتى في نومهم؟؟
زوج يكذب على زوجته التي توصيه بجلب مسبحة وفول ويقول لها :(الحمصاني مسكر ماعندو غاز) ..وعندما يغلق الهاتف يكلمنا جميعا وكأننا من نفس العائلة..مليح في خبز ويشير الى ربطات الخبز الاربعة التي في حضنه ويتابع :(اصلا الفول والمسبحة صاروا وليمة مو فطور) ..
سيدة تجلس بجواري تقول لي الحمدلله على نعمة المطر..(الست التي اعمل عندها تسامحني التأخير الصباحي وتؤجل تنظيف الشبابيك ليوم مشمس)..
امرأة سبعينية تلبس روب اسود طويل من قماش خملة الدراق وجاكيت كحلي صوف رقيقة وشحاطة مفتوحة وجوارب سميكة.. ذاهبة لمعايدة ابنها العريس بعيد الحب.. الابن يعمل ناطور في احد الابنية وهديتها حرام رقيق موضب بكيس اسود.. قالت لي.. عيب فوت وايدي فاضية خطي بيتدفوا بهالجليد..
سيدة تعتذر من راكب لجلوسها بالورب لضيق المقعد. ثم تعتذر منه لأن نصف كيسها الثقيل صار على ساقيه. وفي المرة الثالثة تعتذر منه لأن مظلتها فتحت فجأة مما أصابه بخوف مباغت، فيخرج عن صمته ويصرخ مطولة هون؟؟ ويغادر الحافلة.
العصافير على الأرض تجمع رزقها، لكن بصمت مطبق. الصمت سيد الموقف والكلام وإن قيل يوجع ولا يزقزق.”
لا تبالغ سلوى في استعاراتها ومجازاتها. لا تزخرف جملها، ولكن عباراتها مع لك محملة بشحنات شعرية مصدرها تلك الصدمة الكهربائية التي تخلّفها كلّ واحدة في القارئ. ولئن كان يمكنك أن تتعامل مع منشورات سلوى على فيسبوك، فتقرأها بسرعة، وتدمع عيناك، ثم تنتقل لغيرها فتبتسم، فإن قراءة مجموعته القصصية تحبسك بين دفتيها حتى تنهيها.
جمال مرعب، ورعب جميل. تذكرك لغة سلوى بلغة محمد البساطي وخيري شلبي. كلاهما تحدّثا عن الفقر والجوع والمرض، وعن البشر الين يتعايشون مع لك كله ويستمرون في الحياة. مهمشون، لا يهمهم سطوة السلطة أو تغيرات العالم من حولهم، صعاليك وأشقياء في المدينة، يكشفون عن عالم مدهش في تفاصيله، مؤلم، أسود، ووحشي.
سنحتاج إلى كثير من الشجاعة لنقرأ سلوى زكزك، لكنني أعدكم، إذا قرأتموها، لن تنسوها أبدا، ستعشّش كلماتها وشخصياتها في عقولكم وتحت جلدكم، كمية من الجمال والرهافة والقسوة، القسوة… الرحيمة.