د. ممدوح حمادة – الناس نيوز :
آخر مرة كان قد رآها فيها كانت أثناء دراستها في المرحلة الثانوية التي كانت بدلة الفتوة الخاكية اللون، تدفن في داخلها كل ملامحها الأنثوية، وتجعلها
تبدو كجندي في جيش محاصر لم يحصل على إمداداته الغذائية منذ أشهر، كانت ملامح جسدها خلف تلك البدلة الخضراء اللون مهملة تماما، لم تكن
الفتاة التي أصبحت باحثة الآن تلفت انتباهه حينها أبداً، هو كان يسير وراءها فقط لأنها كانت تسير مع حنان، الفتاة التي كانت تثير اهتمامه، والتي يمكن
القول إنه كان مغرما بها، وفي مرات كثيرة، لا بل في كل المرات كان يتمنى أن تكون حنان بمفردها لكي يتجرأ ويلقي على مسامعها بعض كلمات
الإعجاب، التي تشي بما يكنه لها من الحب، أما الباحثة وحنان فقد كانتا تسخران من ملاحقته لهما، وكانتا تضحكان وتحبكان عليه النكات، فهو أيضاً
لم يكن سبعاً في ذلك الوقت، وبدلة الفتوة كانت تجعل منه يبدو كنملة بين قطعان النمل خاكية اللون المتدفقة من أفواه المدارس عند انتهاء الدوام،
ووبر شاربيه اللذين كانا أشبه بدهان فاتح، طليت به شفته العليا كان مثيرا للضحك، لم يتمكن أن يعلن حبه لحنان في ذلك الوقت ولكن عدة فرص
أتيحت لهم لكي يصبحوا معارفاً، كانت أولها في مسيرة التأييد التي سيقوا إليها احتفالا بانتصار ما، أو ثورة ما، هذا ليس مهماً فالجماهير التي كانت
تهتف على كل حال لم تكن تعرف تلك الثورة إن كان الاحتفال بثورة ولا ذلك الانتصار إن كان الاحتفال بانتصار، حينها فتح معهما حديثاً، لم يعد يتذكر عما
كان يدور، حديثاً كان الهدف منه فقط التمهيد لكي يعلن لحنان حبه، وأوشك أن يفعل ذلك حين تلقى صفعة على رقبته جعلته يحني رأسه للأمام قليلاً، وينظر إلى الخلف ليجد مدرب الفتوة يصرخ به:
– لماذا لا تهتف ولاك؟
كما وبخ مدرب الفتوة الفتاتين:
– وأنتما لماذا لا تهتفان؟
انضم الثلاثة بعدها إلى الحشد الغفير الهاتف، وأخذوا يلوحون بقبضاتهم ويصرخون مع البقية:
– بالروح، بالدم.. نفديك يا فلان..
وإلى آخره من هذه الهمروجة.
بعد هذه الفرص يمكن القول إنهم أصبحوا معارفاً يلقون على بعضهم التحية وشيئاً فشيئاً أخذ يشاركهما جزءاً من الطريق حتى بداية المربع الأمني
لهما، حيث يفترقون خشية أن يصادفهم أحد ذكور عائلتيهما فيُنتف شاربيه حتماً ومن كل بد.
حنان تزوجت بعد رسوبها في الثانوية العامة فوراً، أما باحثتنا التي كانت من بين المتفوقات فطوال فترة الدراسة الجامعية لم يسمع بها ولم يكن يصله
أي شيء من أخبارها، ولم يكن يسعى أو يفكر بذلك أصلا، ولكن في الفترة الأخيرة بدأ اسمها يتردد على مسامعه كدكتورة جامعية، تحقق أبحاثها
نجاحات علمية مميزة كما أخذ يقرأ اسمها تحت أو فوق مقالات علمية منشورة في المجلات المحكّمة التي كان يتمنى أن ينشر بها، واليوم التقاها
في كافيتريا في بيروت قرب الجامعة حيث كانت قد دعيت إلى هناك لحضور مؤتمر علمي دعي إليه هو أيضاً، وحين ألقت عليه التحية ورد عليها
بمثلها، كان نصف مصدق أنها هين ثم ابتسم موحياً لها بأنه غير متأكد من هويتها، فذكّرته بنفسها ولم تنسَ أن ترفع قبضتها وتلوح بها مداعبة، وتقول
بنبرة توحي بالتهكم: “بالروح بالدم”، لكي تذكره بنفسها، فوضع هو يده مذكراً بالصفعة على رقبته، ثم ضحكا، ومدّ يده مصافحاً، فسألته إن كانت
تستطيع دعوته لتناول فنجان قهوة، فوافق بكل سرور، وأعلن عن سعادته بلقائها.
بعد تبادل الأحاديث المألوفة التي تدور عادة بين معارف لم يروا بعضهم منذ زمن طويل، انتقل لسؤالها عن جديدها في هذه الحياة، فأخذت تسرد له
اهتماماتها وسرعان ما اندمجت بالحديث وأخرجت من حقيبتها بعض الأوراق، وأخذت تعرض عليه نتائج الأبحاث التي أنجزتها، بينما كان هو مسحوراً
بالتطور الذي توصل إليه جسدها، والذي يبدو أنه حينما تخلص من بدلة الفتوة التي كانت تغلفه قد خرج إلى الحياة، صدمته عيناها العسليتان
الفاتحتان اللتان يتوسط كل منهما بؤبؤ أسود ضيق، شعر كما لو أنهما بؤرتين تتجمع فيهما طاقة إيجابية هائلة، ترسلان إليك شعاعين يلتفان عليك،
ويجعلانك تنقاد إليهما وأنت يغمرك الفرح، شعرها الأجعد الكستنائي الفاتح الذي يميل إلى الشقرة تحت ضوء الشمس، والذي كانت تداعبه مروحة
السقف فتسقط خصلة منه على عينها وهي ترميه بعيداً بحركة حادة نزقة من رأسها، وبينما الباحثة تتحدث لفت نظره شفتاها المكتنزتان دون عمليات
نفخ، هما كانتا كذلك أثناء فترة الثانوية، ولكنه لم يكن يركز النظر سوى على شفتي حنان الغبية، أطلق على حنان هذا الوصف بعفوية ولكنه عاد وصحح
(أنا الغبي في الحقيقة وليست حنان، كان علي أن أنقّل النظر بينهما أكثر)، انزلقت عيناه على رقبتها البضة الغزلانية من أسفل الذقن حتى وصلت إلى
فتحة الصدر، حيث أخذ يزدرد لعابه فحنى رأسه قليلا لكي لا تنتبه هي إلى تفاحة آدم التي كانت تصعد وتهبط مع كل مرة يبلع فيها ريقه، و تهيأ له أنه
أخذ يشعر بالدوار فعاد الى الوجه مباشرة ولكي لا تشعر أنه غير مكترث بما تقول كان بين فترة وأخرى يقول:
– آها.. جميل.. آها رائع.. الخ
لم تقاوم عيناه إغواء صدرها فعاد بعينيه إلى هناك من جديد ولو استطاع لجعل عينيه تتوغلان عبر فتحة القميص الأصفر الذي كان يكبل صدرها،
والتي توحي أزراره المتشنجة بأن بركاناً على وشك الانفجار، ليقطعها ويرمي بها في كل الاتجاهات تاركاً ما تحته يغني نشيد الحرية، الباحثة التي كانت
غارقة بالحديث عن نتائج بحثها والتي كانت وكأنها تريد أن تقول له: “انظر أنت الذي لم تكن تقيم لي وزنا أين صرت أنا وأين بقيت أنت، أنا دعيت لإلقاء
المحاضرات في المؤتمر، وأنت دعيت لتستمع، أنا ينتظر الطلاب والمختصون أبحاثي، وحنان التي كنت مولعاً بها لم يعد لديها عمل غير
تفريخ ذرية لرجل تافه، جعلها وعاءً لذلك وجعلها تندم على الساعة التي ارتبطت فيها به”، انغماسها بالحديث عن منجزها العلمي جعلها لا تنتبه إلى
هذا الاجتياح الذي كان يحدث لجسدها من قبل عينيه النهمتين، اللتين كانتا عندما تعجزان عن التغلغل أكثر تطلقان المخيلة التي لا يقف في وجهها
شيء للتوغل إلى هناك، طال حديث الباحثة ما وفر له فرصة للتحديق بكل التفاصيل التي أراد التحديق بها، والتي كان سيخجل من القيام بها لو أنها
كانت منتبهة له، وعندما نظرت إلى ساعتها وشهقت معلنة أنها تأخرت على المحاضرة، كان هو قد قام بمسح طوبوغرافي كامل لتضاريسها الأمامية، ثم
فعل ذلك على عجل مع تضاريسها الخلفية وهي تحث الخطى مبتعدة باتجاه باب المقهى، ولم يستطع بعد كل هذا إلا يشتهيها وفكر لا بد أن جميع
الحضور من الرجال في هذا المؤتمر يقومون بهذا المسح عندما تكون واقفة على المنصة تشرح لهم تفاصيل محاضرتها وتساءل: “يا ترى على ماذا يركز
طلابها عندما تلقي عليهم المحاضرة، على السبورة، أم على صدرها الذي يهتز كلما تحركت رغم كل القيود التي كبلته بها؟”.
لم تفارق مخيلته ذلك النهار ولاحظ أصدقاؤه الذين التقوه في أحد مقاهي شارع الحمرا مساءً أنه شارد الذهن فأخذوا يتندرون، وخير ما يُتهم به شارد
الذهن في بلادنا للتندر كما هي العادة هو الحب، ولكنه اكتفى رداً عليهم بالصمت وبعض الابتسامات الفاترة، في الليل احتلت ذهنه تماماً، وكلما
أوشك النعاس أن يغلبه تتوثب في مخيلته تلك الأزرار المتشنجة في قميصها الأصفر، والتي جعلته قطعان غرائزه يسمع أزيزها وهي تتقطع
وتصطدم بالجدران تاركة آثاراً تدل على شدة الارتطام، وكان هو يغمض عينيه ليفسح المجال لخياله بعرض شريط الصور التي كان يشتهي هو
مشاهدتها، وبعد فشله في النوم أكثر من مرة بسبب ذلك، أعلن النعاس الطلاق من عينيه بالثلاث تلك الليلة، متنازلا عنهما للأرق الذي كان يخوض
معه معركة حامية الوطيس، فرحب الأرق بفريستيه وأخذ يتسلى بهما بساديته المعهودة، نهض هو وصنع لنفسه كوبا من الشاي، وخرج إلى
الشرفة احتساه هناك ودخن خمس سجائر وهو يتأمل إطلالته التي حجزت له في فندق الثلاث نجوم الذي يتلاءم مع مستواه، بينما هي تغفو الآن بعمق
خلف نافذتها المطلة على البحر في الفندق ذو النجوم الخمس “أيعقل أنها تفكر بي الآن كما أفكر فيها؟، تساءل هو ثم أردف، مستحيل إنها مولعة
بأبحاثها، إنها تتحدث عنها كما تتحدث عن حبيبها، ولكن لماذا كانت تشعر بالفرح حين دعتني إلى فنجان القهوة؟. كان يطرح التساؤلات التي تبعث
على اليأس ويرد على تساؤلاته بإجابات تبعث على الأمل، ثم قرر أن يبحث عنها على فيس بوك لعله يتعرف عليها أكثر، كانت صفحتها مقتصرة على
الأصدقاء لذلك لم يكن هناك وجود لمعلومات أو صور يمكنه الاطلاع عليها فقام بإرسال طلب صداقة لها وكان النعاس قد عاد لاستلام السلطة على عينيه تدريجياً، فاستسلم للنوم دون مقاومة.
في اليوم التالي استفاق متأخراً ولم يتمكن من اللحاق بالندوة المتعلقة باختصاصه، فتوجه إلى الكافيتريا التي تمضي استراحاتها فيها، مباشرة وفي
الطريق فتح الإنترنت ليتسلى بقراءة بعض المقالات فوجدها قد وافقت على طلب الصداقة الذي أرسله لها في فيس بوك، وارتسمت على وجهه
ابتسامة رضى، وأخذ يتصفح صورها هناك ويقرأ ما استطاع مما كتبته على صفحتها، أعجبته الصور كثيراً وأعجبه أسلوبها في الكتابة، وشعر بالدهشة
عندما كان يقرأ كتاباتها إنها أشياء تشبه الشعر: “ليتها اليوم تقرأ لي قصائدها بدلا من الحديث عن أبحاثها”، فكر هو، وعندما ظهرت بباب المقهى ببدلتها
السوداء المؤلفة من تنورة وجاكيت تحته قميص أبيض مكشكش من الأعلى أزراره لا تقل تشنجاً عن أزرار القميص الأصفر، رفع يده لكي تنتبه له وصاح:
– دكتورة.
وعندما التفتت إليه علت وجهها ابتسامة صافية وتوجهت نحوه فقال لها وهو يصافحها
– أنا اليوم أدعوك إلى فنجان القهوة.
جلست على الكرسي المقابل له بكر سرور وطلب هو القهوة كما أرادتها مع قطعة من التورت، وكان يريد أن يوجه لها عدداً من الأسئلة لكي يتعرف
عليها أكثر، فقد أخذ يقلقه إن كانت مرتبطة أو غير مرتبطة، كان في الفيس بوك قد بحث عن إشارة لذلك فلم يجد، نظر إلى أصابعها فكانت حرة من
الخواتم، إذا فهي ليست مخطوبة ولا متزوجة، هذا رائع ولكنه لا يعني شيئا فربما كانت في علاقة حب، الخواتم هنا لا حاجة لها، وكما في الأمس قادهما
الحديث اليوم إلى أبحاثها التي بدأت تشرح تفاصيلها بشغف، وتخرج من حقيبتها عدداً من الرسوم التي تصور بعض جوانب بحثها، أما هو فقد كان
يتأملها ولكن بقلبه هذه المرة، لا بغريزته و كان يقول معبراً عن إعجابه بالبحث:
– آها.. رائع.. آها جميل…
ودون أن تدري التقط لها عدداً من الصور منتظراً أن تتوقف عن الحديث لكي يثير موضوعاً ما يتمكن من خلاله أن يعرف إن كانت في علاقة حب مع
أحد أم لا، وكان يتمنى أن تكون الإجابة لا، وفكر “هل كل رجال العالم أغبياء لكي لا يحبها أحد؟!” ثم أجاب على السؤال الذي طرحه بنفسه: “مستحيل
هذه المرأة لا بد أن عشرة رجال على الأقل مغرمون بها، ولكن هل بينهم من هي مغرمة به؟” هذا ما كان يضايقه وإذا اتضح أن هذا صحيح فلا بد أنه
سيشعر بالصدمة، وسيعاني لفترة غير قصيرة من الاكتئاب، فقد بات متأكداً الآن أنه يشعر نحوها بالحب، وتمنى لو أنه يستطيع أن ينهض فيعانقها،
ويطبق على شفتيها بقبلة تستمر إلى الأبد، ومرة أخرى هبت واقفة على حين غرة، وشهقت معلنة أنها تأخرت عن المحاضرة، واعتذرت منه وغادرت
مسرعة، راقبها وهي تنصرف وأعجب بمشيتها بالكعب العالي وفكر في نفسه: “تصلح كعارضة أزياء”، وفي المساء اعترف أمام أصدقائه في مقهى
شارع الحمرا بأنه عاشق وأطلعهم على عدد من الصور التي التقطها بهاتفه خلسة عندما كان يجلس معها، فأخذ كل يبدي عن إعجابه وهنّؤوه بوقوعه
في الحب، فأخبرهم بأنه لم يزل من طرف واحد، أعاد الهاتف إلى جيبه بسرعة وندم لأنه فعل ذلك، لا بد أن منير وجمال سيرسلان لها طلبات
صداقة على فيس بوك الآن، لقد لاحظ أنهما يرسلان الطلبات لكل امرأة يشاهدون اسمها على صفحته.
في الليل أخذ يشعر بشكل واضح بالغيرة أراد أن يرسل لها رسالة على الخاص لجس النبض حول هواجسه التي تقلقه بشكل جدي الآن، ولكنه وجد
أنها تغلق ميزة الرسائل والدردشة وبقدر خيبته فقد شعر بالاطمئنان: “إذاً هي لا تدردش مع أحد لو كانت مرتبطة كانت ستفعل ذلك”. حدّث نفسه
بذلك مطمئناً وسرعان ما هاجمت رأسه أفكار سوداء فأردف: “وما حاجتها للدردشة إذا كان ذلك الرجل الذي أخشى وجوده في حياتها موجود قربها في
السرير الآن”. أشعل سيجارة جديدة: “إذا كان مثل هذا الرجل موجوداً فإنني أرجو أن تدهسه سيارة بأسرع وقت ممكن، هذه المرأة خلقت لي، وأنا خلقت لها”.
وفي اليوم التالي كان أيضاً في المقهى وكله أمل بأن تأتي، وأتت وجلست قبالته، وكانت لا تزال تحت تأثير التصفيق الذي دوى في القاعة إعجاباً بما
توصلت إليه، وانطلقت في الحديث عن التفصيلات الجديدة في بحثها ولم تتوقف عن الكلام إلا بعد أن نظرت إلى ساعتها وشهقت معلنة بأنها تأخرت عن المحاضرة واعتذرت وانصرفت كما في كل مرة.
فشلت كل محاولاته بجعل الدكتورة تصمت ليقول لها الشيء المهم الذي يريد قوله قبل أن ينتهي المؤتمر فيعود هو إلى البلد الأجنبي، وتعود هي
إلى دمشق، حيث يمكن لهما بعد ذلك ألا يلتقيا أبداً، وفي آخر يوم بعد أن بدأت كلامها، وقد أدرك أنها لن تتوقف، قرر حسم الموضوع فنهض وهي
تتحدث عن منجزاتها، بشكل مفاجئ ومد جسده فوق الطاولة ووجد نفسه يطبق بكفه على فمها ويقول قبل أن تدرك ما جرى:
– أنا أسف جداً ولكن من المهم أن أقول لك شيئاً، لا أستطيع الانصراف قبل أن يكون لديك علم به.
أصيبت الباحثة بالذهول، وأخذت تحدق فيه مستغربة ما يفعله، أما هو فتابع قائلاً ما يريد قوله:
– أحبكِ. أنا أحبكِ.
ثم رفع يده وعاد إلى كرسيه مطرقا بالأرض خشية أن تكون ردة فعلها لا كما تشتهي السفن، أمَّا الباحثة فلم تنطق بحرف، شعرت فقط بأن قوة خلعت
باب قلبها الذي اندلعت فيه موسيقى، موسيقى أقوى من كل إنجازاتها العلمية، وأخذت تعيث بصماماته حباً.