د.ممدوح حمادة – الناس نيوز :
عندما غادر أرض الوطن كان قد اتخذ قراراً لم يبح به لأحد، بأنه لن يعود أبداً، أو كما كان يقول (لقد كسرت الجرة خلفي، بائع فجل عند الأجانب أشرف من أي شيء هنا)، هكذا أيضاً كان
يردد مبرراً قراره، لنفسه أولاً، ولكن هذا لا يعني أن منير كان يكره وطنه، فالوطن كان يجري في عروقه، وكل حبة غبار حملها هواء الوطن لكي تستقر على بدنه كانت تتحول إلى خلية
من خلايا جسمه، ونقصد هنا المعنى المجازي للكلمة، فمنير كان يستحم كثيراً ولم يكن يترك الغبار على بدنه أبداً، وعندما حزم حقيبته ليلة السفر وضع فيها علبتين، الهدف الوحيد
منهما تذكيره بالوطن، العلبة الأولى كانت علبة فارغة لخاتم نسيها أحدهم عنده ذات يوم من دون أن ينسى الخاتم طبعاً، وضع فيها منير قطعة بلاستيك صغيرة حملتها ذات يوم من نافذة
السرفيس مع الغبار زوبعة عندما كان السرفيس يعبر مخيم جرمانا، واستقرت في طرف عينه وتسببت في سكب الكثير من دموعه بغزارة قبل أن يخرجها من هناك طبيب العيون الذي لجأ
اليه منير بعد شهر تقريباً، حين أدرك أنه لن يشفى تلقائياً، أما العلبة الثانية فكانت علبة لشريط كاسيت وفيها شريط سجله من الراديو ويحتوي على تلك المقطوعة التي تبث قبل افتتاح إذاعة دمشق وتقول:
• دِنْ دِدِندن دندن دن دندن دن دن دندن..
هكذا كان منير يرددها أحياناً عندما يبدي إعجابه بها لأحد ما.
العلبة التي فيها قطعة البلاستيك التي أدمت عينه، كان يحملها في جيبه دائماً، وكان كلما شده الشوق إلى الوطن يضع يده على جيبه متحسساً العلبة، وأحياناً يفتحها ويتأمل قطعة
البلاستيك التي فيها وكأنه يتأمل خريطة الوطن، ثم يتشممها ويقفل العلبة ويتابع عمله على سيخ الشاورما في أحد مطاعم المدينة التي استقر بها في بلاد الغربة.
سيمفونية إذاعة دمشق كان يستمع إليها كلما استيقظ تقريباً، وكان يحب أن يفعل ذلك على الشرفة في بلد لا يجلس فيه أحد على الشرفة التي يقتصر استخدامها على نشر الغسيل،
وكان الجيران يتضايقون من ذلك، خاصة أن منير يفعل هذا في الصباح الباكر، ولكنهم تحملوا ذلك إكراماً لسعيد صديق منير الذي استقر عنده ريثما يقف على رجليه ويتمكن من استئجار
بيت بمفرده، فسعيد منذ أن سكن في هذا المبنى لم يترك أحداً من دون أن يساعده، فهو دهان عندما يلمح تقشراً في نافذة أحدهم يقترح عليه أن يدهنها له، ويفعل ذلك مجاناً
بالطبع، وهو معلم تمديدات صحية، كل من لديه حنفية يشك في أمر جلدتها كان يتصل بسعيد الذي يحمل مفتاح الرنش ويتوجه إلى الشقة المطلوبة، وهو نجار وطيان ومعلم
تمديدات كهربائية وكل شيء، ولهذا تحديداً فقد كان الجيران يتحملون تجاوزات منير الذي حاول أحدهم أن يشرح له، ولكن منير الذي لا يعرف اللغة لم يفهم.
لم يكن سعيد يعرف بكل ما يجري، فهو يعمل عتالاً في وردية ليلية في محطة لقطارات البضائع حيث إن وردية الليل تقدر بوردية ونصف، وعندما يعود إلى البيت يكون منير قد غادر
إلى العمل، ولكنه اليوم وبسبب الإرهاق، منح نفسه عطلة تجعل بدنه يرتاح قليلاً من ليالي العتالة الثقيلة، في البداية عندما أخذت المعزوفة (دِنْ دِدِندن دندن دن.. ) تتردد في رأسه،
كان يظن أنه في منام، ولكن استمرار السيمفونية جعله يفتح عينيه، وعندما أدرك أن الصوت في شقته رفع رأسه، وعندما اكتشف أنه من الشرفة قفز كالملسوع وركض باتجاه الشرفة،
ودفع منير الذي كان يحمل فنجان قهوته ويهم بالخروج إلى الشرفة مما أدى لسقوط فنجان القهوة على الأرض، ثم قام بنزع سلك آلة التسجيل من التيار وصرخ بمنير:
• ما هذا الذي تفعله؟
• أتذكر الوطن
• ألا تستطيع تذكر الوطن في الداخل
• ما الفرق بالنسبة إليك
• هل تعرف ما الذي سيحصل إن اتصل أحدهم بالشرطة؟ سيقوومون بترحلينا إلى الوطن.. لأنه لا أنا ولا أنت نقيم بشكل شرعي هنا.
هنا أدرك منير فداحة جريمته، فهذا أكثر شيء كان يخشاه، حيث إنه بعد أن كسر الجرة خلفه، ثرثر كثيراً هنا، على اعتبار أنه أصبح يشعر بالأمان، ولا أحد هنا يطاله، ولهذا فقد أدرك
حجم المصيبة في حال قاموا بترحيله، خاصة إذا كان أحد ما من أولاد البلد الشرفاء قد رفع فيه تقريراً، ولذلك فقد اعتذر من سعيد وبدا مكسوراً لدرجة جعلت سعيد يشعر نحوه
بالشفقة ويسأله عن سبب استيقاظه مبكراً وعن عدم ذهابة للعمل، فأبلغه منير أنه لم يتمكن من النوم، وبطبيعة الحال سأله سعيد عن الأمر الذي يسبب له الأرق، فأبلغه منير بالخبر السعيد:
• اليوم سأتأهل.
فما كان من سعيد إلا أن حضنه بقوة وهنأه على هذه الخطوة وعاتبه لأنه لم يخبره بذلك، فأبلغه منير أن السبب عدم لقائه به منذ فترة طويلة، ثم تساءل سعيد عن المحظوظة التي ستشاركه درب حياته، فأبلغه منير أنها جاكلين جارتهم التي تسكن في الطابق الأعلى، وهنا قفز سعيد وصاح به غاضباً:
• أيها الحقير، ألم تجد سوى جاكلين.
• ما الفرق بالنسبة إليك
• لم أكن أدري أنك ستخطفها مني عندما عرفتك بها.
• لم أكن أعرف أنك تحبها.
• الآن عرفت.
• فات الأوان فقد قدمنا الأوراق، ثم إنها لو كانت تحبك لما وافقت.
باختصار باءت كل محاولات سعيد بجعل منير يتراجع عن قراره، ولو أن سعيد لم يكن شخصاً حضارياً لطعن ذلك الخائن منير بين أضلاعه وجعله يخمد إلى الأبد، ولكن سعيد شخص
متحضر، ولذلك فقد اكتفى بالحزن رداً على هذه الخيبة التي لم يكن يتوقعها من شخص آواه وأحسن إليه ليسرق له حبيبته، في نهاية المطاف، من حضنه تقريباً.
قرع أحدهم الباب ففتحه منير ليجد أمامه جاكلين التي لم تسعفها كل عمليات الشد في إخفاء سنواتها الثمانين، وربما الخمس والثمانين، وذكرته أن عليهما أن يذهبا إلى مكتب
الزواج لتوقيع العقد، و كأنها كانت تخشى أن يكون قد نسي الأمر أو هرب أو شيء من هذا القبيل، فانتعل منير حذاءه على عجل ودعاها لاحتساء فنجان قهوة في المقهى ريثما يحين
موعد مكتب الزواج، وخرجا، ولكنه عاد مرة أخرى وتوجه إلى غرفة سعيد الذي كان ينام على بطنه وقد دفن وجهه في الوسادة حزناً، وقال له بنبرة لا تخلو من الاعتذار:
• سعيد.. لا تحزن.. أقسم لك أنني بمجرد حصولي على الإقامة سأطلقها لك، لا حاجة لي بها.