أزاحت سلوى ستارة النافذة لكي يدخل الضوء، وهي تتثاءب وتتمطى، لكي تطرد آخر ما تبقى من النعاس العالق في أجفانها، والكسل المعشش في بدنها، ولكنها سرعان ما قطعت العملية التي عادة ما تستمر أكثر من ذلك، فقد شاهدت على حافة النافذة من الخارج، مظروفاً بريدياً وفوقه وردة، ففتحت النافذة بسرعة، وتناولت من هناك الوردة والمظروف الذي فتحته بسرعة، وأخرجت من داخله ورقة كتب عليها: (الغالية سلوى، إليك هذه الكلمات)، أما الكلمات، فكانت قطعة شعرية لنزار قباني يمكن القول إنها قد سحرت سلوى التي لم تكن قد سمعت باسم نزار قباني إلا عبر أغاني عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وأخيراً كاظم الساهر، ولكنها لم تكن على اطّلاع على دواوينه وأشعاره المكتوبة، فوالدها المحافظ لم يكن ليسمح بدواوين نزار قباني في مكتبة المنزل، ويصنفها ضمن الكتب الإباحية.
ضمت سلوى الورقة إلى قلبها طويلاً، وسرحت بخيالها في براري بعيدة، وتسربت دمعة فرح من طرف عينها، وبقيت الابتسامة مرتسمة على شفتيها لفترة طويلة، وراجعت الرسالة عدة مرات لعلها تكتشف إشارة ما لصاحب الرسالة، ثم صرخت منادية فوزي البواب والبستاني الذي كان قريباً وحضر راكضاً عند سماع ندائها، فسألته إن كان قد شاهد أحداً يدخل إلى الفيلا، فأجابها بأنه لم ير أحداً، وعندما شاهدته يغض البصر، انتبهت إلى أنها لا تزال في ثوب النوم الذي يكشف الكثير من جسدها فصرخت به بعصبية:
– انصرف، انصرف.
ثم أغلقت الستارة، ورمت بنفسها على الكنبة، وأغمضت عينيها، وأخذت تستحضر صور الشبان الذين التقت بهم، والذين يمكن أن يكون كاتب هذه الرسالة واحداً منهم، أول من طرق باب مخيلتها، هو ذلك الشاب الذي يقطن الفيلا المقابلة لفيلتهم، لا علاقات تربط أسرتهم بأسرة ذلك الشاب، فقد التقى والدها بصاحب تلك الفيلا، ولم تعجبه أفكاره، وأكد أن هذا كان متبادلاً بينهما، وعندما يكون والدها على أهبة الانطلاق بسيارته إلى مكان ما، ويشاهد سيارة جاره تتحرك، فإنه يطفئ محرك السيارة حتى يكون الجار قد انطلق، أو إذا كان قد تجاوز البوابة، يطلق السيارة بأقصى سرعتها لكي لا يقابل جاره ويضطر لإلقاء التحية عليه. ويبدو أن الجار كان يفعل الشيء نفسه، فكثيراً ما تراه سلوى يتجاوز المسافة أمام فيلتهم بسرعة لا مبرر لها، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لدى هذا الجار ابن يختلف عنه، فليست نادرة تلك الحالات التي تلد فيها شوكة وردة، لماذا فكرت سلوى بأن هذا الشاب ربما يكون هو صاحب المكتوب؟ لأن حادثة جمعتهما منذ وقت قريب جداً، ولم يمضِ على وقوعها يومان، فعندما خرجت هي على دراجتها الهوائية لتمارس رياضتها المسائية، شاهدته قادماً على دراجته من جهة الطريق العام، وعندما شاهدها، يبدو أنها بفستانها الأصفر قد لفتت انتباهه، فظل يحدق فيها حتى تجاوزته، ثم سمعت خلفها صوت ارتطام، فالتفتت لتجد أن الشاب قد خرج عن الطريق، وانقلبت به الدارجة فوق جب من الشوك اليابس كانت أشواكه سبب صرخة الشاب، ثم تابعت طريقها دون أن تلقي بالاً على ما حدث للشاب.
نعم إنه هو ولا أحد غيره، لا بد أن فستانها الأصفر قد راوده في المنام، وجعله يصاب بالجنون، ستلبسه اليوم وتخرج، لعلها تحظى بلقاء ذلك الشاب، وهذا ما فعلته مساءً، حيث كسرت نسمة باردة حرارة الجو، وأصبح من الممكن ممارسة الرياضة دون أن تتعرق، انطلقت بسرعة متقصدة جعل الريح تعبث بأطراف فستانها وشعرها قليلاً، لأنها تعتقد أن هذا يفعل فعله في الرجال، النتيجة التي توصلت إليها من أفلام الحب التي شاهدتها، ولم تكن سلوى تلقي بالاً للهواء الذي كان يرفع الثوب قليلاً فوق الخط الأحمر المسموح به، فهي لم يكن لديها مانع بقليل من الإغراء، لجذب انتباه العاشق المجهول، شاهدت ذلك في الأفلام أيضاً، فهي لم يكن لديها خبرة إطلاقاً في هذا المجال. ولم تمض دقيقة حتى كان الشاب يتجاوزها قادماً من جهة الخلف، ولكن هذه المرة على دراجة نارية ودون أن يلقي إليها بالاً، والأنكى من ذلك، أن فتاة كانت تجلس خلفه، والريح تلعب بشعرها الأشقر، فتوقفت فوراً، واستندت برجلها على الأرض وفكرت: (ليس هو). ثم عادت أدراجها إلى الفيلا، وعند الباب سألت فوزي الذي كان يجلس على كرسي أمام غرفة الحارس يحتسي الشاي عن ذلك الشاب، فأخبرها بأنه وغد يحول الفيلا إلى ماخور في غياب أهله، لم تعرف سلوى معنى كلمة ماخور، وخجلت أن تسأله، فتركته وانصرفت إلى الداخل، بينما صمت هو وتابع رشف الشاي، وأشعل سيجارة.
في الليل شاهدت سلوى حلماً يزخر بالحب والقبلات، ولكنها لم تتمكن من تبين وجه الشاب الذي زارها في المنام، وأشعل قلبها وشفتيها، وكادت تنسى قصة الأمس لو أنها عندما أزاحت الستارة لم تجد المكتوب والوردة على حافة النافذة من جديد. ومثل رسالة الأمس، كان في داخل المظروف ورقة كتب عليها بخط جميل أنيق قصيدة أخرى لنزار، شعرت سلوى أنها أقوى وأجمل من قصيدة البارحة، ضمتها أيضا إلى صدرها وجلست على الكنبة وحلمت. حاولت أن تعثر على اسم جديد من بين من تتوقع أن أحدهم يمكن أن يكون حبيبها، فلم تصل إلى نتيجة.
– غير مهم، قالت سلوى، وأردفت: المهم أن هناك رجلاً يحبني، ويكتب لي القصائد.
كان الهواء يتلاعب بالستارة أثناء ذلك، ثم أخذ يهطل رذاذ خفيف، كانت الريح الخفيفة التي هبت تلقي بقطرات منه على وجه سلوى التي تجلس على كنبة قرب النافذة، فنهضت لتغلق النافذة، وبينما هي تفعل ذلك توقفت وشهقت:
– يا إلهي! السماء توقظ ذاكرتي، إنه هو، إنه هو.
لم تتابع سلوى أغلاق النافذة، وجلست على الكنبة من جديد، مقربة إياها من النافذة أكثر، فاسحة المجال أكثر لتلك القطرات التي كان يلقي بها الهواء على وجهها، كقبلات من ذلك الشاب، وتمنت لو أن المطر يزداد غزارة، والريح تشتد قوة، لتقف قبالة النافذة، وتترك المطر يستبيحها كما يحلو له، ولكن السماء أوقفت رذاذها، وأكتفت بتذكيرها بذلك الشاب. نعم إنه هو، ذلك الذي ساقته لها الصدفة ذات يوم، وهي عائدة من جهة الطريق العام إلى فيلتها التي تبعد عنه قرابة الكيلومتر ونصف، وكان يهطل مطر غزير، حين ترجل هو من حافلة نقل عام كان قادماً على متنها، فقام بحمايتها من المطر بالمظلة البنية ذات المقبض الخشبي الأصفر التي كان يحملها، وترك نفسه يتبلل حتى عظامه، أوصلها إلى البيت ثم اختفى. والآن عاد، عاد ليعلن عن حبه لسلوى، إنه هو ولا أحد غيره، استثنت سلوى كل الخيارات الأخرى، وظلت لمدة أسبوع تتلقى منه الرسائل التي تحتوي على قصائد الحب، وكل رسالة فوقها وردة شامية حمراء كانت تبقيها في يدها طوال النهار، ولا تتوقف عن تشممها، ولا تتخلى عنها قبل أن تتلقى الوردة الثانية، فتضعها في كتاب لتحفظها كذكرى إلى الأبد، وبعد عشرة أيام تقريباً، وكانت سلوى قد ارتوت من القصائد والفرح والصور التي أشعلت مخيلتها، فكرت أن تسأل الحارس فوزي عن هذا الشخص، فشكله مميز، ولا بد أنه سيتعرف إليه عندما تذكر مواصفاته، فهو أسمر نحيف، له ذقن مشذّبة، وشعر كثيف تضمخه لطخة بيضاء من شيب خفيف، وأكثر ما يميزه كانت أسنانه الناصعة، التي تنفرج عنها ابتسامة لا تختفي عن وجهه.
– نعم، قال فوزي، أعرفه إنه دائماً يضع على رقبته شالاً أحمر.
– صحيح.. صحيح، قالت سلوى بفرح لأن فوزي تعرف إليه فتابع فوزي:
– كان فناناً تشكيلياً يقيم في تلك الفيلا، وأشار فوزي إلى فيلا غير بعيدة إلى الجنوب، فتساءلت سلوى بقلق:
– كان؟ لماذا كان؟ هل رحل من هنا؟
– مات، قال فوزي وتابع، مات منذ أشهر، رحمة الله عليه.
– مات؟ صرخت سلوى وكأن تياراً كهربائياً قد صعقها، ثم انصرفت لكي لا تفسح المجال لفوزي برؤية دموعها.
في تلك الليلة، لم تتمكن من النوم إلا قبيل الفجر بقليل، غير أن كوابيسها لم تسمح لها بالنوم كثيراً، فقد شاهدت في حلم بدأ جميلاً، ذلك الفنان يرسمها بشكل بدت فيه ملكة لجمال الكون، ولكن ما أن انتهى من رسمها، حتى طارت تلك المرأة من اللوحة على شكل خفاش انقض عليها، وتوقف فوقها يرفرف بجناحيه، ويزعق في وجهها بصوت غراب.
استيقظت وشربت الماء وعادت للنوم بصعوبة بالغة، ثم نهضت من نومها في الوقت الذي اعتادت أن تستيقظ فيه، وعندما أخذت تزيح الستارة بتكاسل واضح تحت تأثير صدمتها بموت الفنان الذي حلمت به وبنت عليه آمالاً، لمحت المظروف والوردة على النافذة، فتناولتهما وفتحت الرسالة، فكان فيها، كما هي العادة، قصيدة حب جميلة، قرأتها وقد شعرت بالتعب من محاولة التكهن بمن يكون صاحب هذه الرسائل، لماذا لا يكتب شيئاً يدل على اسمه؟ لماذا لا يفصح من هو؟ ثم قررت هي أن تكتب له رسالة وقصيدة حب، وقبل أن تنام وضعت الرسالة على حافة النافذة، لعله عندما يطمئن إلى أنها تحبه، يتجرأ ويعلن عن نفسه، غير أنه لم يفعل، فقررت أن تلقي القبض عليه بالجرم المشهود، وسهرت تلك الليلة عند النافذة فوق الكنبة، تراقب من داخل غرفتها المظلمة حافة النافذة التي يسقط عليها ضوء القمر، ولكن النعاس داهمها في الليلة الأولى، فغفت فوق الكنبة، واستيقظت في الصباح لتجد الرسالة.
في اليوم التالي قررت أن تنام طوال النهار كي لا يغلبها النعاس فتنام أثناء المراقبة، وبالفعل في تلك الليلة، تمكنت من السهر حتى شاهدت يداً تمتد من الأسفل لتضع الرسالة والوردة، فنهضت على الفور، وأزاحت الستارة، وفتحت النافذة، ومدت رأسها إلى الخارج، فلم تر شيئاً ولم تسمع صوتاً لأي حركة، ما هذا العاشق اللص الذي لا يريد أن اعرفه؟ لماذا يحبني ويكتب لي القصائد، إن كان لا يريد لي أن اعرفه؟ ألا يود أن ينهي هذا الحب بالزواج؟ أم أنه يتسلى؟ أسئلة كثيرة انداحت في رأسها تسببت لها بالصداع، وأخيراً فقدت صبرها، وطلبت من فوزي أن يراقب المكان ليلاً، ويقبض على كل من يتسلل إلى الفيلا، ففعل فوزي ما أمرته به سلوى، وبقي الليلة كلها جالساً على كرسي هزاز أمام غرفته يشرب الشاي، ويستمع إلى أغنية لأم كلثوم كانت تصدح بصوت منخفض من مسجل عتيق يمتلكه فوزي.
في الصباح، أفاقت سلوى، وأسرعت إلى حافة النافذة التي لم تجد فوقها شيئاً، لا الرسالة، ولا الوردة الشامية، فطلبت من فوزي أن تكون مراقبته غير معلنة، وقد فعل كما طلبت، حيث أطفأ أنوار غرفته، ولم يرفع نظره الليل كله عن نافذة سلوى، ولكن الرسالة مع ذلك لم تجد طريقها إلى شباك سلوى.
واستمر الحال على هذا الشكل، حتى وجدت سلوى نفسها تقول لفوزي أن يوقف المراقبة، صار يكفيها أن تعود لاستلام الرسائل لاسترداد الفرح المفقود، وهكذا عادت الرسائل للظهور على حافة النافذة، وعادت مخيلة سلوى لتوقظ الصور، وتستخرج منها الشبان المحتملين، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي كانت تقرأ فيه رسالتها متكئة بكوعيها على حافة النافذة، والفرح يغمر قلبها، حين اندلع كلب الحراسة الشرس الذي كان مربوطا بجنزير طويل عند مدخل الفيلا، في نباح مرعب، لأن ضيفاً أوقف سيارته ونزل منها وتوجه إلى الفيلا، ولم يصمت الكلب إلا عندما أوقفه فوزي عن النباح، ثم فتح الباب ليدخل الضيف، بينما وقف الكلب يلهث مدلياً لسانه، مراقباً الضيف بنظرة حيادية.
تبادر إلى ذهن سلوى، لماذا لم ينبح الكلب على ذلك العاشق؟ إنه كلب مدرب على عدم قبول الطعام من أيدي الغرباء، ولا يمكن رشوته، إذاً فالكلب يعرف ذلك العاشق ويطمئن إليه ولذلك لا ينبح، لم يعد هناك مجال للتخمين، إنه هو ولا أحد غيره، معه حق ألا ينوه إلى شخصيته لأنه يعرف العواقب، بدلت سلوى ملابسها وخرجت متوجهة إلى غرفة الحارس فوزي وعندما وصلت إلى أمام بيته نادته بصوت غاضب:
– فوزي، فوزي.
خرج فوزي إليها، ولكنه ما أن فتح الباب، حتى تلقى بصقة في وجهه، ثم تلتها صفعة على خده، وتوبيخ وصفته فيه سلوى بالكلب والحقير. وعندما هرع والد سلوى ليعرف سبب ما يحصل، أرته سلوى الرسالة، فقام هو الآخر بصفع فوزي ونعته بأنه عديم الأصل، وناكر الجميل، وطرده من المنزل شر طردة، لدرجة أن فوزي اضطر للخروج بالبيجاما وقام بتبديل ملابسه خارج السور.
فوزي الطالب القادم من أحد الأرياف النائية، لم تؤهله درجاته المتدنية لأكثر من كلية الفلسفة وكلية الشريعة اللتين كانتا تقبل فيهما طلبات جميع المتقدمين في ذلك العام. عمل حارساً لأن ذلك يوفر له السكن المجاني، وبستانياً لكي يكسب بعض المال. كان لدى فوزي قدرة كبيرة للامتناع عن الطعام والشراب، ولكنه كان عاجزاً عن منع قلبه عن الحب.
بعد طرد فوزي، لم تعد الرسائل تظهر على حافة النافذة، وعلى الرغم من ذلك، ظلت سلوى تهرع كل يوم إلى النافذة، فتزيح الستارة لعلها تجد الرسالة والوردة، ولكن دون جدوى.
أخذت الكآبة تتسرب إلى نفس سلوى، وأصبحت تشعر بكراهية كبيرة نحو ذلك الكلب الذي أرشدها إلى الحقيقة، وأدركت أن وهماً بطعم العسل، أفضل بمئة مرة من حقيقة بطعم الحنظل.
الآن لا تنتظر سلوى أحداً سوى فوزي، إنه أفضل منهم جميعاً، فكرت سلوى، فهي لن تجد أبداً رجلاً يكتب لها قصيدة حب، ويقدم لها وردة كل صباح، كما كان يفعل فوزي. ولكن فوزي لم يعد، فبعد خسارته لعمله، كاد يتعرض للتشرد في دمشق، فنصحه صديق له بالتسجيل في كلية الفلسفة بجامعة بيروت العربية. وانتقل فوزي إلى هناك، وسرعان ما وجد نفسه قد انتمى لأحد الفصائل الفلسطينية، وهذه رغبة كانت تراوده منذ زمن بعيد، ثم قتل عندما قام الإسرائيليون بقصف حي الفاكهاني في بيروت، وكانت الجامعة أحد الأماكن المستهدفة، ولم يتسن لقلبه أن يحب مرة أخرى، ولكن سلوى التي لن تعرف ذلك أبداً، ستبقى لفترة طويلة جداً تنتظر أن تعود الرسالة والوردة لتظهرا على حافة النافذة كل صباح.