ميديا – الناس نيوز ::
كمال شاهين – ( أوان ) –
في زقاق ضيق ومنسي في أحد أحياء بغداد المترامية الأطراف، يعيش رجل في عزلة شبه تامة. في الليل، ينجرف وحيدًا على طول مخاضات نهر دجلة المتضائلة. إقامته هنا مؤقتة، مجرد استراحة قبل ما يبدو أنها رحلته الأخيرة.
في جيبه وثائق عدّة: بطاقة هوية عراقية باسم سليم الجبوري، وجواز سفر روسي باسم فاسيلي، وبينهما بطاقة هويّة عسكريّة باسم آخر، تُعرّف عنه بأنه عقيد في سلاح الجو السوري. تحمل هذه البطاقة العسكرية هويته الحقيقية. لأغراض هذا التحقيق، سنستخدم اسمه المستعار: الدوري.
بين هذه الهويات، ينتظر الدوري لقاءه مع وسيط محلي يعدُه بتذكرة سفر إلى موسكو دون أن يتخطى كاميرات مراقبة المطار. السعر 3,000 دولار. سبق للوسيط أن حقق المستحيل، إذ حصل له على جواز سفر روسي أصلي من “الإنترنت المظلم” (أو الـ Dark Web، أي ذاك الذي يسهّل القيام بأنشطة غير قانونيّة أو إجراميّة بسبب إخفائه عن محركات البحث). هناك دائمًا من يقوم بالمهام المستحيلة.
عندما انهار نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أصبحت موسكو الملاذَ المُفضّلَ للموالين الهاربين: القادة والضباط، وعلى رأسهم الأسد نفسه. بذهابه إلى موسكو، لم يكن الدوري يأمل في لقاء الرئيس الهارب. قال لصحيفة “نيو لاينز” في رسالة خاصة عبر تيليغرام: “لو رأيتُ هذا الوغد، لقتلته”.
بحلول ربيع عام 2025، كان الدوري قد أمضى نحو خمسة أشهر في بغداد، تُطارده رؤى ليلية مرتبطة بأيام خدمته الأخيرة في قاعدة سطامو الجوية، جنوب اللاذقية، حيث قضى أيامه الأخيرة في سلاح الجو. في واحد من أحلامه، وقف أمام قاضٍ يرتدي نظارات سميكة، وحُكم عليه بالشنق مئة مرة، مرة واحدة عن كل طلعة جوية نفذها فوق سوريا. وفي آخر كوابيسه، وجد نفسه ممسكًا ببرميل متفجر، أُلقي من طائرة على مروحيته الخاصة، متوقفة على مدرج اسطامو.
عندما بدأت عملية “ردع العدوان”، التي تُوّجت بإسقاط الأسد، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، لم ينتظر الدوري الأوامر. ارتدى بدلة الطيران وتوجه مباشرةً إلى “قاعدة سطامو” الجوية، مقر اللواء 63، حيث خدم آخر مرة. كان يتوقع أن تعود أيام الطلعات الجوية المتواصلة، حين كانت المروحيات لا تغادر سماءها، تقصف خطوط المواجهة من دير الزور إلى إدلب.
خلال الحرب، تحوّلت “قاعدة ستامو” من مهبط طائرات هليكوبتر متواضع إلى منصة إطلاق للعديد من المروحيات المحملة بالبراميل المتفجرة. لم تكن الوحيدة. فقد شهدت قواعد مماثلة، من اللاذقية إلى درعا، ومن دمشق إلى ريف حلب، التحول المروع نفسه.
لكن عندما وصل الدوري، وجد المطار شبه مهجور. تناثرت المروحيات على المدرج، بينما تراكمت البراميل المتفجرة في المستودعات وحتى في العراء.
كشف تبادل سريع مع صديق أن قائد القاعدة، العميد نديم الجردي، فرّ إلى جهة مجهولة. علق الدوري قائلًا: “يا للأسف”. دفع الجردي 300 مليون ليرة سورية لشراء منصبه في حزيران/يونيو 2023 (ما يعادل نحو 120 ألف دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي آنذاك). مع ذلك، أصرّ الدوري على موقفه. أمر الجنديين المتبقيين بتسليح طائرته، ليُقال له إنها مُجهزة ببرميل متفجر. مُجهّز وجاهز للاستخدام.
توجّه نحو مروحيّته المفضلة، التي لطالما طار بها في السنوات الماضية. كان يحفظ رقمها عن ظهر قلب: 2816. مروحية مي ــــ 17 روسية الصنع قديمة، تُصدر هديرًا كأنه يشق السماء. لكن عندما حاول تشغيلها، لم يحدث شيء. حدّق في مؤشر الوقود؛ كان الضوء الأحمر مضاءً. فارغة. اتصل بأحد الجنود، الذي أكد له نفاد وقود أيٍّ من المروحيات المتوقفة. باع الجردي كل شيء، هو ورئيس أمن المطار ورئيس المخابرات الجوية في اللاذقية. اقتنعوا بأن الحرب على وشك الانتهاء وأن الغارات الجوية قد انتهت، فباعوا الوقود والذخائر، ولم يبقَ لهم سوى البراميل المتفجرة.
اجتاحه الغضب، لكنه أحس في أعماقه بالحقيقة: لقد حانت النهاية. نزل من المروحية، يلعن كل شيء، ولم ير سببًا للبقاء. ركب سيارته “بي إم دبليو” وعاد وحيدًا إلى منزله في جبلة، غارقًا في شعور بالانهيار ــــ الجيش، والقيم، والمبادئ التي ناضل من أجلها، كلها تنهار أمام عينيه.
كان يراقب بصمتٍ أنباء سقوط المدن السورية الواحدة تلو الأخرى في أيدي قوات المعارضة كأحجار الدومينو، حتى سقط النظام أخيرًا في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024.
جمع الرجل الحزين أمتعته وأوراقه العسكرية، وأحرق ما استطاع. وبعد شهر، استخدم بطاقته العراقية التي احتفظ بها، وتسلّل عبر الحدود برًا إلى بغداد، مستغلًا الفراغ الأمني، وتاركًا وراءه أفراد عائلته الذين غادروا لاحقًا إلى لبنان بعد انتهاء العام الدراسي.
كانت تلك الهوية عرضًا من صديق في ميليشيا عراقية شيعية قاتلت في سوريا إلى جانب النظام عام 2018. في بغداد، كان هذا الرجل جهة اتصاله الوحيدة، وهو من رتّب له لقاءً مع الوسيط. وهكذا، في انتظار رحيله الطويل، بدأ الدوري يروي لي قصة حياته، عبر محادثات عدة، وجهًا لوجه، وعبر الهاتف، وتطبيقات المراسلة.
يعرف المدن من أسطح منازلها :
بالكاد يتعرف الدوري على نفسه اليوم عندما ينظر في المرآة. قبل سقوط النظام، كان وجهه ممتلئًا، ابتسامته سريعة، وروحه المرحة سليمة. أما الآن، فقد انتشرت التجاعيد على جبينه، ونادرًا ما يخرج دون نظارة شمسية لإخفاء اضطرابه.
وُلِد الدوري عام 1975 في قرية منسيّة تقع في قلب جبال الساحل السوري المعروفة بـ”جبال العلويين”. يرفض ذكر اسم مسقط رأسه خوفًا من انتقام حكام سوريا الجدد. في سبعينيات القرن الماضي، لم تكن قريته تعاني من انقطاع الكهرباء، ولا من نقص البنية التحتية، بل عاشت شتاءً قارسًا وحلمًا مُلحًا بالهروب. لم يكن طالبًا موهوبًا، ونادرًا ما لاحظه معلموه. أنهى دراسته الإعدادية والثانوية في جبلة، ومثل العديد من أبناء الجبال، التحق بالكلية الحربية في حمص. ومن هناك، التحق بكلية الدفاع الجوي في قرية مسكنة، جنوب شرق حمص، حيث تخرج بعد ثلاث سنوات من التدريب كضابط في القوات الجوية، وبدأ في تسجيل ساعات الطيران التي سترفع رتبته العسكرية.
حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، عندما كان قائد القوات الجوية ناجي جميل يتمتع بنفوذ، لم يكن يُسمح إلا للضباط السنّة بالطيران. أصر جميل، الصديق المقرب من حافظ الأسد والمنحدر من دير الزور، على أن شباب الساحل معرّضون لمشكلات في الجيوب الأنفية تجعل الطيران مستحيلًا. عندما علم الأسد بذلك، طرد صديقه على الفور. لا تتعارض هذه الرواية للأحداث مع روايات أخرى تشير إلى أن جميل كان يخطط أيضًا لانقلاب ضد الأسد الأب. على أي حال، فتح هذا الطرد المجال الجوي للطيارين العلويين.
كانت أولى طلعات الدوري الجوية في أواخر التسعينيات، عندما كان ملازمًا أول حديث التخرج. يتذكر ذلك الصباح البارد كأنه كان بالأمس: كان يحلّق فوق حمص وريفها، ويرى معالم المدينة لأوّل مرة من الجو. يتذكر قائلًا: “رأيتُ نهر العاصي يتدفق بهدوء شمالًا، بعكس مجرى أنهار العالم. كنت سعيدًا جدًا”.
بعد نحو ربع قرن من الطيران، يلخص مسيرته المهنية بوضوح: “عرفتُ مدن سوريا وقراها من أسطح منازلها، ومن طائرات الهليكوبتر التي قدتها. اليوم، لم يعد ذلك ممكنًا. لم تعد تلك المدن موجودة”.
في أوائل عام 2011، ترقّى إلى رتبة نقيب. كانت ساعات طيرانه ــــ وهي مقياس أساسي لتقدم الطيار السوري، وتُسجل بدقة في سجلات الطيران ــــ قد تجاوزت الحد الأدنى المطلوب للترقية.
بعد اندلاع الانتفاضة السورية في آذار/مارس 2011، وتحوّلها سريعًا إلى صراع مسلّح مع ظهور جماعات المعارضة في ذاك الصيف، انغمست البلاد في صراعٍ دامٍ. مُتجاهلًا الواقع ومتشبثًا بالعناد، اختار نظام الأسد مواجهة الجميع بأدواتٍ وحشيةٍ وغير تقليدية.
يروي محقق سابق في فرع الأمن السياسي باللاذقية أصول البراميل المتفجرة: “جاءت الفكرة من اللواء جميل الحسن، ونقلها إلى بشار الأسد خلال اجتماع في دير الزور صيف عام 2012”.
وكان الحسن، المولود في حي الخالدية في حمص، يُعتبر غير فاسد، وأُسندت إليه مهمة قيادة الوحدة 739 (المهام الخاصة) لحماية السيدة الأولى وعائلة الأسد.
لا يُعرف أين خطرت له الفكرة أولًا. مع ذلك، يُشير الضابط السابق إلى أن مقر المخابرات الجوية في حرستا، قرب دمشق، تعرّض لهجوم مُنسّق من “جبهة النصرة” في خريف عام 2012، باستخدام سيارات مفخخة وانتحاريين. انتشرت شائعات عن مقتل الحسن. كانت هذه الشائعات كاذبة، لكن الهجوم ربما دفعه نحو مزيد من التطرف ضد المعارضة، واستخدام البراميل المتفجرة ضد ما وصفه بـ”البيئة المُضيفة” للمتمردين.
رواية أخرى تنسب الاختراع إلى العميد سهيل الحسن، الملقب بـ”النمر”، من قرية بيت عنا قرب جبلة، ويُقال إنه موجود الآن في موسكو. ووفقًا لهذه الرواية، فقد عُرضت عليه الفكرة من قائد مجموعة حُرمص، إحدى ميليشياته المتمركزة في إدلب. وقد عقد معظم مقاتليها، وهم متطوعون من ريف إدلب، صفقات لاحقًا مع السلطة السورية الجديدة. فعلى سبيل المثال، دفع قائدها مؤخرًا 300 مليون ليرة سورية لتأمين تسوية قبل مغادرة البلاد. وتبدو هذه الرواية أيضًا معقولة.
لم تكن الفكرة بحد ذاتها جديدة. ابتكر عميخاي باجلين، قائد عمليات ميليشيا “الإرغون” الصهيونية، البراميل المتفجرة لأول مرة خلال حرب التطهير العرقي في فلسطين عامي 1947 و1948. وفي سوريا، عادت هذه الأسلحة للظهور منتصف عام 2012. لم يعترف النظام بها رسميًا، بل كان يُخلط أحيانًا بين استخدامها والذخائر الروسية الضخمة. ولكن بحلول خريف عام 2012، كان النشطاء قد وثّقوا استخدامها بالفعل.
أُلقي أول برميل متفجر موثّق من مروحية سورية في 19 آب/أغسطس 2012، على حي الحميدية بحمص. وكان الطيار، اللواء عماد النافوري، من النبك في منطقة القلمون. وفي 28 تموز/يوليو 2025، أفادت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية اليومية أن النافوري أُلقي القبض عليه في حلب أثناء محاولته تزوير وثائق للفرار من البلاد.
كان النفوري، المنتمي إلى الطائفة السنيّة، صديقًا للدوري سابقًا. في عام 2015، قاد غارة جوية على مسقط رأسه النبك، مما أسفر عن مقتل ستة من أبناء عمومته. بعد فترة وجيزة، شغل منصب رئيس أركان الفرقة الجوية العشرين لمدة ستة أشهر. في عام 2019، رُقّي إلى رتبة لواء وعُيّن مديرًا لإدارة العمليات الجوية، وهو أقوى منصب في سلاح الجو، حيث تُمرر جميع الأوامر العملياتية. وبحلول عام 2021، رُقّي إلى منصب رئيس أركان سلاح الجو.
كان رد فعل الدوري على سقوط صديقه القديم صريحًا: “يا أحمق! لقد انتظر طويلًا. كان عليه أن يعبر إلى العراق ويختبئ هنا”.
لماذا استخدم النظام السوري البراميل المتفجرة؟
ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال. يمكن تقديم تفسيرات عديدة، لكن الخيط الذي يربط بينها واضح: بث الرعب في نفوس السوريين وكسر إرادتهم في القتال. عندما بدأ النظام باستخدام البراميل المتفجرة عام 2013، وبعده، لم تكن دمشق تعاني من نقص في الذخيرة أو القدرات العسكرية.
برغم قدرته المُثبتة على تنفيذ ضربات دقيقة، مستندة إلى معلومات استخباراتية، ضد أهداف عسكرية، واصل النظام إطلاق ذخائر غير دقيقة وغير مُوجهة على المناطق المأهولة بالسكان. ولم يكن النظام وحده، بل لجأت جميع الأطراف المتحاربة، بما فيها تلك التي تحكم سوريا الآن، إلى التكتيك نفسه. وكان الضحايا، في غالبية الأحيان، من المدنيين.
بدأ إنتاج البراميل المتفجرة عام 2012 في منشآت تابعة لمصانع الدفاع العسكري الحكومية، المنتشرة في مواقع متعددة في أنحاء سوريا لسهولة تصنيعها. من بينها مصنع المواقد والمراجل في مصياف، قرب حماة؛ وموقع اللواء 107 في البصة، قرب غابة جبلة الصنوبرية؛ وقاعدة المزة الجوية، خارج دمشق. كانت هذه الورش بدائية لكنها فعّالة، وتقع بالقرب من مواقع عسكرية رئيسية للجيش السوري السابق.
كانت المواقد، وهي عبارة عن حاويات أسطوانية من الصفيح، يتراوح ارتفاعها بين قدم ونصف وقدمين، تُستخدم سابقًا من قِبل الجنود للتدفئة بوقود الديزل. أما الغلايات، ذات الشكل المماثل، فكانت مخصصة لتسخين الماء للاستحمام في الثكنات. كانت تُعبأ بالمتفجرات وتُجهز بقطع معدنية خشنة من مخارط وزارة الدفاع، ثم تُغطى بصاعق يُفعّل عند الاصطدام بالمباني أو الأرض، فتحولت هذه السخانات البدائية إلى قنابل بدائية ضخمة.
أطلق مقاتلو المعارضة على المروحيات التي أسقطتها لقب “الركاشة” (الطائرة الدوارة)، نسبةً إلى صوت محركاتها القديمة المزعج. هذه الطائرات القديمة، التي لا تخضع لصيانة جيدة، جعلت كل طلعة جوية تبدو أكثر خطورة، إذ أضافت خطر الأعطال الميكانيكية إلى خطر نيران العدو. قال لي الدوري: “كنتُ أخشى سقوط المروحية بسبب عطل مفاجئ أكثر من خوفي من إصابتها بصاروخ تاو [ذخيرة مضادة للدبابات]. كنا نحلق على ارتفاعات تزيد عن كيلومترين، مما زاد من احتمالية سقوط المروحيات”.
بحلول منتصف عام 2017، ومع ندرة الذخائر، يُقرّ الدوري قائلًا: “بدأ الجيش باستخدام فواصل الشوارع ــــ ألواح خرسانية كبيرة. جمعناها من حماة ومصياف. كُلّف عمال في هاتين البلدتين بتحميلها على شاحنات، ونقلها إلى قاعدة حماة الجوية لاستخدامها كذخيرة بديلة”.
يؤكد صديق من ريف إدلب هذه القصة: “سقطت إحدى تلك الألواح على مبنى عائلتي المكون من خمسة طوابق. اخترقت السقف حتى الأرض، فشطرته نصفين. لحسن الحظ، لم يكن أحد بالداخل. لكُنّا لم نبق على قيد الحياة”.
الأكثر غرابة هو التقارير المؤكدة عن إعادة استخدام الألغام البحرية المضادة للغواصات كبراميل متفجرة. سُحبت هذه الألغام من مخازن البحرية وأشرف عليها ضباط بحريون، ثم رُفعت على متن مروحيات وأُسقطت جوًا. والسبب: بحلول منتصف عام 2015، سُحب أسطول الغواصات السوري وكاسحات الألغام التابعة له من الخدمة، وأصبحت سفن الدوريات التابعة له عديمة الفائدة. ومع عدم وجود سفن لزرع الألغام أو إزالتها، أُضيف مخزون البحرية إلى حرب البراميل المتفجرة. كان وزن كل لغم 2000 رطل، وكان مُعبأً بمادة C-4. استُعيدت هذه الألغام من مستودع سقوبين التابع للبحرية، برفقة ضابط بحري ركب المروحية لتجهيزها وإطلاقها.
بحلول نهاية عام 2013، لم يُلقَ سوى عدد قليل من البراميل المتفجرة، ستة أو سبعة إجمالاً. ولكن بحلول عام 2014، توسّعت العمليات. انضمّ المزيد من الطيارين، وأصبحت طلعات المروحيات روتينية، حيث كُلّفت كل طائرة بإلقاء برميل واحد.
يستذكر الدوري مهمته الأولى: “أتذكرها بوضوح. انطلقنا من قاعدة بلي الجوية العسكرية عند الساعة التاسعة صباحًا، 25 شباط/فبراير 2014. كنتُ أقود طائرة مي ــــ 16 روسية الصنع، وعلى متنها اثنان من أفراد الطاقم”.
في تلك الطلعة، وفي طلعات عديدة تلتها، همس بآية من القرآن الكريم: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلنَّاسِ”. كان يقصد البراميل المتفجرة. وفعل كثير من الطيارين الشيء نفسه، متمسكين بالآية كنوع من الطمأنينة، مُقنعين أنفسهم بأنهم ليسوا وحوشًا، بل محاربون يُقاتلون “الوحوش المتمردة” التي جلبت الخراب على البلاد.
وعبر السطور، لجأ مقاتلو المعارضة إلى آية مختلفة لتبرير قصفهم للمدن بقذائف الهاون والصواريخ: “وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى”. وفي روايتهم، كانوا مجرد أدوات للعدالة الإلهية، تضرب الطغيان.
يُتابع الدوري: “حلّقنا لمدّة عشر دقائق جنوبًا، باتجاه طفس في محافظة درعا، قبل أن نصل إلى الإحداثيات المحددة. كان الهدف منزلًا قيل إن عددًا من الإرهابيين كانوا يجتمعون فيه. صدر الأمر الشفهي من قائد القاعدة، مصحوبًا بتعليمات صارمة بتنفيذه بسرعة، قبل انتهاء الاجتماع”.
في الساعة 9:08 صباحًا، كانوا يحلقون فوق المنزل على ارتفاع 2600 قدم. ثبّت الدوري المروحية. شغّل طاقمه الفتيل وأخرجوا الفوهة. بعد دقيقتين، في الساعة 9:10 صباحًا، دوّى انفجار هائل في الأرض، يهزّ الطائرة ويملأ السماء بالدخان. “أُنجزت المهمة بنجاح”.
هنا، يتوقف الدوري. “لم أتخيل يومًا أن أرى منازل تنفجر وتنهار هكذا.”
يقول إنه لم يتابع التقارير الإعلامية لاحقًا ليعرف حجم ما فعله. يعلم فقط أن تسعة أشخاص قُتلوا. لم يرَ قط صور الدمار نفسه.
مع مرور الوقت، امتد استخدام هذه البراميل المتفجرة من درعا إلى ريف دمشق، ثم إلى حلب وحمص. بين عامي 2012 و2018، تقول “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إ٫ أكثر من 11 ألف برميل متفجر استُخدم، وقد راح ضحيتها آلاف المدنيين وشُرّد مئات الآلاف. كما استخدم النظام أسلوبًا وحشيًا للغاية يُعرف باسم “الضربة المزدوجة”: يُسقط برميلًا واحدًا، وينتظر بضع دقائق، ثم يُعيد ضرب المكان نفسه، مُصيبًا هذه المرة من هرعوا لإنقاذ الجرحى.
طالت شرق حلب أسوأ الاستهدافات. غطت البراميل أحياء مثل الباب والأنصاري، مخلفةً مئات الضحايا، ودُفنت عائلات بأكملها تحت الأنقاض. كان القصف عشوائيًا، ولم يُفرّق بين المقاتلين والمدنيين. أصبح شرق حلب كابوسًا، جحيمًا بكل ما للكلمة من معنى، مكانًا تُطلق فيه أعتى الأسلحة الحارقة عشوائية ووحشية.
في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2016، أفادت “منظمة الصحة العالمية” بمقتل ما لا يقل عن 377 شخصًا في شرق حلب خلال أيام قليلة، على يد القوات السورية والروسية.
وفي أعقاب هذه الضربات، انسحبت فصائل المعارضة من المدينة، بناءً على أوامر تركية بالانتقال إلى إدلب مع انطلاق عملية “غصن الزيتون” شمالًا.
“ما جعل البراميل المتفجرة في حلب أكثر تدميرًا من أي مكان آخر، هو أننا اضطررنا لإسقاطها من ارتفاعات أعلى لتجنب صواريخ الدفاع الجوي المحمولة التي حصلت عليها المعارضة بعد عام 2013″، يوضح الدوري، في إشارة إلى الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف. “هذا جعل الضربات أكثر عشوائية، وأكثر فتكًا بالمدنيين”.
كانت صورة بلدٍ مُدمّرٍ مُرعبةً. ومع ذلك، وسط الدمار، لا يزال السوريون يجدون مساحةً للفكاهة السوداء. تحكي نكتةٌ من حمص عن رجلٍ أعور ذهب للتجنيد في الجيش السوري. أخبره المُجنّد أنه غير مؤهل: بعينٍ واحدةٍ فقط، لا يستطيع تصويب البندقية. أجاب الرجل: “جئتُ لأتطوّع للقصف العشوائي”.
يستذكر الدوري حادثة وقعت منتصف عام 2013، عندما كان برتبة مقدم: “تلقينا معلومات استخباراتية تفيد بإرسال تركيا شحنة أسلحة إلى فصيل معارض في مدينة سلقين بمحافظة إدلب. اتصل بي العقيد سهيل الحسن وكلّفني بتدمير الشحنة قبل وصولها إليهم”.
كان الحسن آنذاك القائد الميداني لوحدات العمليات الخاصة في سلاح الجو.
كانت له سلطة على الطيارين، ونظم حملات القصف بالبراميل المتفجرة. كان بالفعل من أبرز القادة الذين برزوا في الحرب، حيث قاد معارك رئيسية على جبهات متعددة. في أواخر عام 2015، رُقّي إلى رتبة لواء، بعد أن رفض سابقًا ترقية إلى رتبة عميد.
يصف الدوري الطلعة الجوية قائلًا: “انطلقتُ من قاعدة حماة الجوية العسكرية ببرميل متفجر، وحلقتُ باتجاه سلقين. كانت رحلة قصيرة، نحو عشر دقائق. وبينما كنتُ أقترب من المدينة، رأيتُ قافلة من المصابيح الأمامية تسير على طريق جانبي. كانت ليلة صافية، وكانت لديّ إحداثيات مكان تفريغ الأسلحة. حلقتُ حول المكان من بعيد، ثم تراجعتُ للانتظار .
بعد أربع دقائق، صعدتُ مرة أخرى، ووصلتُ إلى الإحداثيات، وألقيتُ البرميل. كان الانفجار مرعبًا.
دمّر الحمولة والمقاتلين والمستودع بأكمله. بمجرد أن تأكدتُ من نجاح المهمة، عدتُ إلى القاعدة”.
عند الهبوط، كان الحسن بانتظاري. “حييته قائلًا: “في خدمتك يا سيدي!”. عانقني وقال: “أنت سيدي، وسيد سيدي”. ثم ناولني ظرفًا. كان بداخله 50 ألف ليرة سورية ــــ نحو 250 دولارًا أميركيًا آنذاك، أي أربعة أضعاف الراتب الشهري للطيار”.
كانت كل طلعة جوية تُكافأ بمبلغ يتراوح بين 25,000 و50,000 جنيه إسترليني. وبحلول عام 2012، خلق النظام منافسة شرسة بين الطيارين الراغبين في الانضمام إلى المهام تحت قيادة الحسن، إذ كان هو الوحيد الذي يملك صلاحية إصدار أوامر الإقلاع.
بحسب الدوري، وضع رامي مخلوف، ابن خال الأسد ورجل الأعمال، حسابًا مصرفيًا بملايين الليرات تحت تصرف الحسن عام 2013. ومن هذا الحساب، وزّع الحسن أموالًا، وهي مبالغ طائلة مقارنةً برواتب الدولة الزهيدة، على الطيارين. ويتذكر الدوري: “حتى أن أحد طياري المروحيات اشترى سيارة كيا سيراتو من مكافآت سهيل فقط”. ويضيف: “بالمناسبة، كان الطيارون من جميع الطوائف في سوريا”.
بعد أسبوع من مغادرته بغداد إلى موسكو، حذف الدوري قناة “التلغرام” التي تواصلنا عبرها قرابة شهر. كانت رسالته الأخيرة أشبه بالاعتراف: “كنت أقلع من قاعدة ستامو الجوية، وفي طريقي إلى المهمة كنت أمرّ فوق منزل خطيبتي. كانت تنتظرني على السطح، تراقب السماء، وتتابع الرحلات الجوية عندما كنتُ أحمل البراميل في المروحية عام 2014 وما بعده. خمس عشرة دقيقة فقط، هذا كل ما احتجت إليه لأكون فوق منزلها، ثم أتوجه إلى مهمتي مع البراميل”.
واختتم كلامه باعتذار: “اليوم، بعد كل ما جرى، لم يبقَ في قلبي ما يُبرّر الطيران، أو البحث عن العزاء في هذا البلد الذي دمره أهله، ونحن منهم.
أعتذر لكل سوري قتلته أو جرحته. حتى لو لم أكن من ضغط على الزناد، كنتُ جزءًا من آلة الموت هذه. سامحوني.”
-صحافي سوري مستقل، منتج تحقيقات استقصائية، ومهتم بقضايا السياسة والبيئة.
-نُشر هذا التحقيق على موقع “نيولاينز” بالإنكليزية. يُنشر في “أوان” بالعربية بالاتفاق مع الكاتب.



الأكثر شعبية

بيرلا حرب ملكة جمال لبنان 2025


اليمن بين خلافات الداخل وضغوط الخارج
