د . ممدوح حمادة – الناس نيوز :
لم يكن الأستاذ ديميتري بافلوف مدرساً فقط للمجموعة 113 من طلاب السنة الأولى في قسم اللغة الإسبانية، بل كان كذلك مشرفاً على هذه المجموعة، وهذا أمر ليس جديداً على ديميتري، فهو يعمل هنا منذ عشرين عاماً. ولم يختلف هذا العام عن بقية الأعوام، ولم تختلف هذه المجموعة عن بقية المجموعات التي مرت عليه سوى في أمر واحد فقط، هو أن تانيا، إحدى طالبات المجموعة، تعاني من إعاقة في النطق والبصر تركت بدورها أثراً في سلوكها الذي تبدو العقد واضحة فيه. وهذا أيضاً كان أمراً طبيعياً، فتانيا ليست الطالبة الأولى التي تمر عليه من هذا النوع؛ لقد كان بين طلابه وطالباته في السنين السابقة أكثر من ثلاثة أشخاص يعانون من إعاقة ما.
ولكن الأمر المختلف في هذا العام هو وجود فانيا، وهو طالب في المجموعة نفسها يمكن وصفه باختصار بأنه قليل التربية، فقد كان فانيا هذا يستغل كل مناسبة لكي يسخر من تانيا التي كانت بكل بساطة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وكان هذا يزيد من عقدها.
لاحظ ديميتري ذلك وقرر أن عليه كرجل و كمربٍّ وكمشرف على هذه المجموعة أن يدافع عن تانيا، ولكنه لم يعرف الطريقة الملائمة لذلك؛ فإذا ما وبخ فانيا علناً سيجعل تانيا محط أنظار الجميع ويزيد عقدها عقدة، وربما يجعل ذلك فانيا يشعر بالحقد على تانيا فينتقم منها في أثناء غياب ديميتري. وإذا أخذه جانباً وطلب منه أن يكف عن مضايقة تانيا فربما يجد فانيا ذلك مناسبة لكي يتلاعب بالأستاذ، فهو من ذلك النمط من الطلاب الذين يحاولون إثبات شخصياتهم عبر الشغب في الصف ومحاولة تحدي المعلم. وديميتري الذي خلع أسنانه في هذه المهنة، يعرف ذلك جيداً، ولذلك عدل عن هذه الفكرة وقرر إيجاد طريقة ربما تكون ذات جدوى. وسرعان ما تبادرت قصيدة مكارينكو التربوية إلى ذهنه، فقرر أن يؤثر في فانيا عن طريق التلميح الأدبي.
وهكذا كتب ديميتري قصة تشبه أحداثها ما يجري بين فانيا وتانيا، وقد جعل ديميتري من بطل تلك القصة شخصاً سافلاً يجعل كل من يقرأ عنه يشعر ناحيته بالاحتقار والكراهية. أعاد ديميتري قراءة القصة القصيرة تلك عدة مرات، وفي كل مرة كان يعدلها، وكانت دهشته كبيرة جداً عندما اكتشف أن في داخله كاتباً لم يكن يعلم به، فقد أعجبته القصة جداً لدرجة أنه فكر في إرسالها إلى إحدى الصحف لنشرها، ولكنه تكاسل بسبب انشغاله الكبير.
في اليوم التالي أعطى القصة لفانيا لكي يترجمها من اللغة الروسية إلى اللغة الإسبانية على أساس أنها وظيفة منزلية، ثم أخذ ينتظر النتائج، وبالفعل فإن فانيا على ما يبدو فهم المضمون، أو على الأقل رأى في بطل القصة شخصاً يشبهه فتوقف عن مضايقة تانيا، وكانت فرحة ديميتري كبيرة جدا للتأثير السحري الذي تركته القصة. ولكن هذا الفرح لم يستمر طويلاً لأن فانيا كان سافلاً، والعادات السيئة لديه كثيرة، فقد تبين للأستاذ بعد فترة أن لودا، وهي طالبة أخرى في تلك المجموعة، تعاني من الاكتئاب ولا تركز في أثناء الدرس وتعجز عن الإجابة على أبسط الأسئلة بعد أن كانت أفضل طالبة في المجموعة، وبطريقته الخاصة قام ديميتري بالتحري عن الموضوع، فتبين له أن هذا السافل فانيا أوقعها في حبه وأخذ يتلاعب بمشاعرها بشكل فج، واكتشف في نفسية فانيا جانباً سادياً هو الذي يجعله يفعل ذلك مع لودا. وفي هذه المرة لم يفكر ديميتري طويلاً، وبعد أن نامت زوجته وابنه جلس إلى الطاولة وتناول القلم وتمكن حتى الصباح من كتابة قصة جديدة تحتوي على موضوع يشبه قصة لودا وفانيا، وقد تركت هذه القصة ارتياحاً كبيراً في نفس ديميتري. لقد كانت قصة رائعة قرأها ثلاث مرات كما لو أنه يقرأها لأول مرة، وقال لنفسه: ((بدأت الحرفية تظهر في ما أكتب)). وفي اليوم التالي أعطى القصة الجديدة لفانيا لكي يترجمها إلى الإسبانية، وأخذ ينتظر النتيجة من جديد. ولم يطل ذلك كثيراً، فبعد العطلة راقب ديميتري كلاً من لودا وفانيا، واكتشف الفرح الذي ظهر على وجه لودا. وفي الفرصة شاهد لودا وفانيا في الممر، ولاحظ الاحترام البالغ الذي يتحدث فيه فانيا معها، فأدرك أن القصة أخذت مفعولها وارتاحت نفسه لهذه النتيجة الرائعة. ولكن فانيا لم يتركه في ذلك الشعور طويلاً، فسرعان ما اكتشف ديميتري سيرغيفيتش ناقصة جديدة في سلوك هذا السافل الذي اسمه فانيا، فتابع قصيدته التربوية بقصة قصيرة جديدة كانت أروع وأكثر إتقاناً من القصتين السابقتين، ولم يكن تأثيرها أقل منهما؛ فسرعان ما أقلع فانيا عن تلك الناقصة التي كانت موضوع القصة، فاكتشف ديميتري لديه ناقصة أخرى ليست بأقل سوءاً من نواقصه السابقة، وكتب له قصة جديدة لم يستطع إلا أن يقرأها لزوجته التي لم تصدق أنه هو الذي كتبها، واتهمته بأنه سرقها من الأدب الإسباني. وبقدر ما أزعجه موقف زوجته هذا، بقدر ما أفرحه، فذلك الاتهام الباطل يدل على أن القصة رائعة بالفعل، ويوماً بعد يوم كان ديميتري بافلوف يكتشف عيوب فانيا ويعالجها بالقصص إلى أن وصل إلى مرحلة أصبح ينظر فيها إلى ديستويفسكي وتشيخوف وبولغاغوف وغيرهم كزملاء، وبعد أن كان يكتفي بالشعور بالدهشة عند قراءة أي منهم، أخذ ينظر إليهم بعين النقد، ويفكر: ((لو أنني أنا الذي كتب الأبله لفعلت ذلك بطريقة أخرى. يبدو أن ثقافة ديستويفسكي كانت محدودة بعض الشيء وهذا ما أعاقه على ما يبدو)).
تابع ديميتري تلك المعركة الأدبية مع فانيا كل العام تقريباً، وهو وإن عجز عن تخليصه من كل العيوب التي كانت فيه، إلا أنه خلصه من معظمها.
ولكنه في الصيف، في أثناء العطلة السنوية، اكتشف السفالة الحقيقية لفانيا. لم يكن يعتقد أنه يمكن أن يكون هناك شخص سافل إلى هذه الدرجة، ولكن فانيا أقنعه بذلك.
كان بيت ديميتري قريباً من معرض المنتجات الوطنية، وكان معرض الكتاب في أحد الهنغارات هناك، وكانت لدى ديميتري عادة التجول في ممرات معرض الكتاب كل يوم تقريباً، على الرغم من أنه نادراً ما كان يشتري كتاباً من هناك. وقد لفت نظره كتاب على غلافه الأول صورة طالبه فانيا بألوان زاهية، وعلى شفتيه ابتسامة وسيمة صنعت خصوصاً لهذا الغلاف. ظن ديميتري سيرغيفتش أن ذلك الشخص ربما يشبه فانيا، ولكنه عندما تناول الكتاب وقرأ اسم المؤلف واسم عائلته أدرك بأن هذا هو بالتحديد طالبه فانيا وليس أي شخص آخر.
شعر في البداية بالفرح لأنه اكتشف أن فانيا يؤلف الكتب، لا بل شعر بالفخر لأنه يعرف ويدرس هذه العبقرية الشابة، ولكنه عندما فتح الكتاب كاد يصاب بالإغماء، فقد اكتشف أن قصص الكتاب جميعها، هي تلك القصص التي كان ديميتري سيرغيفتش يكتبها لتربية فانيا.
وهو وإن كان قد تمالك أعصابه ولم يُغمَ عليه عندما اكتشف ذلك، إلا أنه لم يستطع ذلك عندما فاجأته زوجته بأن القصص التي كان يقرؤها لها مدعياً أنها قصصه هي لكاتب شاب اسمه فانيا، وأبرزت له الكتاب لتثبت له ذلك، وعندها فقد الوعي.