قرأت كأي سوري البيان الختامي للمؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار المنعقد في جنيف مؤخراً ولم أجد فيه اختراقاً للغةٍ سياسية سورية صارت، ماركة مسجلة، لمعظم معارضات اليوم، وربما تشبه بعضها شكلاً، بفكر البعث ومنطلقاته النظرية، لكن يشفع لها حقها النبيل في مواجهة نظام يصر على المضي في مواجهة شعبه ولو على حساب خسارة سورية كلها.
لم أجد في البيان خروجاً أو تنازلاً عن ثوابت وحدود دنيا تمسكت بها ولم تتنازل عنها غالب مؤتمرات وندوات وفعاليات أطياف المعارضات السورية، فأهل المؤتمر ما هم (إلا من غزيَّة َ إن غوت … غووا وإن ترشد غزية يرشدوا)..
لم يسوِّق (المؤتمرون) لمؤتمرهم على أنه مفتاح حل العقد السورية، ولا بشَّروا بذلك، على الأقل من خلال تصريحاتهم العلنية المتاحة لعموم السوريين، وبنفس الوقت لم أقرأ في بيانهم الختامي آلية واقعية واضحة ومحددة لتحقيق ما يفترض أنهم توافقوا عليه في مؤتمرهم العتيد، آلية تلحظ خصوصية الوضع السوري بكافة تعقيداته الداخلية والإقليمية والدولية.
الأمر اللافت كان طريقة تعاطي العديد من السوريين مع المؤتمر، والتي شكلت مع الأسف علامة فارقة تضاف إلى سيلٍ من علامات أخرى راكمناها جميعاً كسوريين على طول مسار الأزمة السورية، ربما أضافت إلى تعقيداتها وأطالت في عمرها وقسوتها علينا جميعاً.
من حق كل سورية وسوري أن يتفقوا أو يختلفوا مع أي مبادرة أو نشاط أو فعالية، وأن تكون لهم آرائهم ومواقفهم المختلفة في كل ما يدور على الساحة السورية، ولكن من الممكن أن يتم ذلك دون نداءات التخوين والاتهام بالعمالة للنظام (مع أن النظام لا يوفر زج عيونه وآذانه في كل مكان)، والخضوع لأجندات دول ومحاور إقليمية، وأكثر من ذلك دون إطلاق تهمة (المناطقية) على منظمي المؤتمر!
رغم ذلك فأنا أضع كل هذه الملاحظات (حتى لا أقول الاتهامات) برسم منظمي المؤتمر والمؤتمرين للإجابة عليها وتوضيح مواقفهم حيالها.. وهذا حق السوريين، كل السوريين، عليهم، وعلى منتقديهم أيضاً.
كان مشهداً (سوريالياً) لا يتكرر فعلاً، ويصلح تسجيله كـ (براند) جديد (وطريف) لبعض السوريين أن يشارك في المؤتمر بعض من (مريدي ومحازبي ) أحد التيارات السورية، في الوقت عينه الذي يقوم به مريدون ومؤيدون لنفس التيار بشن حملة شعواء على المؤتمر في محاولة تذاكٍ ملّها وعافها السوريون.
لا أرى في أن يكون بين الداعين للمؤتمر (وربما المتحدث الرئيس فيه) قامة عسكرية مهمة ما يتعارض مع فكرة (المجلس العسكري الانتقالي)، التي ربما كان كاتب هذه السطور أكثر من أسهب في الحديث عنها وبتفصيل شديد، اتفق معي فيه كثيرون، واختلف آخرون، ولم يفسد هذا للود قضية، كنت محدداً وواضحاً فيما كتبته حول شكل ومواصفات هذا المجلس وأوردت دفوعاً ومسببات فرضتها خصوصية الوضع السوري لازلت مقتنعاً بل مؤمناً بها، ولازلت أرى أن هناك جهوداً مكثفة على كل العسكريين الذين رفضوا أن يكونوا جزءاً من آلة الفتك بشعبهم المشاركة بها لتقريب المواقف بينهم لضخ الحياة في شرايين هذا المجلس، ليصبح حقيقةً واقعه تقنع المجتمع الدولي بفاعليتها وقدرتها على الحفاظ على وحدة سورية، ومن ثم ليكون رديفاً لمجلس سياسي يشكلان معاً هيئة حكم انتقالي، وفق قرار مجلس الأمن 2254، تمثل كل السوريين دون استثناء أو إقصاء إلا لمن تلطخت أيديهم بدماء السوريين، تعمل على إخراج سورية من حالة الانهيار السياسي والاقتصادي التي وصلت لها سورية اليوم وتطال كل السوريين، لا أستثني منهم إلا أمراء الحرب، ولا يستطيع كل من لديه نظر أن ينكرها أو يتغاضى عنها.
لا يضير المؤتمر أن يكون من بين منظميه وداعميه من هو محسوب على بلد عربي أو خليجي بعينه، أو أجنبي، على اعتبار ذلك من الواقعية السياسية، شرط أن تكون أية مبادرات أو خطط أو حلول مفصلة على قياس السوريين والسوريين وحدهم، وبعيداً عن محاور لعل آخر هموم السوريين أن يكونوا جزءاً منها أو طرفاً فيها.
ليس سبةً أن يكون بين منظمي المؤتمر من صار همه وديدنه، الوحيد ربما، هو البحث عن ضمانات للجميع تحت سيادة القانون الذي يحمي الجميع، ولكن أن يصبح ذلك (عُصاباً) مبالغاً فيه تحت اسم (حماية الأقليات) فإن ذلك ما يقلق العديد من السوريين وأنا منهم.
السوريون لا يؤمنون بأقليات وأكثريات، ففي سورية أكثرية واحدة هي كل من يحافظ على حقوق السوريين وأمنهم وعيشهم الكريم ووحدة بلدهم، تحت سيادة القانون المدني، وأقلية واحدة هي كل من يقف ضد ذلك، وكلاهما موزع على كافة المناطق والطوائف والاتجاهات السياسية على امتداد التراب السوري.
لمنظمي المؤتمر، وللمؤتمرين، ولمن انتقدوهم، ولمن اندفعوا بعيداً في كيل الاتهامات لهم، أقول وبكل وضوح بأن التحدي أمام جميع من ذكرت هو ألّا يكون قطار جنيف هو قطار درعا، وألا ينظر له بهذا المنظار، بل عربة في قطار سوري موحد جامع للكل، تنضم لعربات أخرى ترفدها على سكة الحل السوري.
أتذكر من كتاب قراءة الابتدائية السورية درساً جميلاً بعنوان (سافر قطار درعا)..
السوريون الذين يعانون اليوم ما لم يعانه شعب آخر بانتظار قطار واحد لا ثاني له، قطار سورية الواحدة الموحدة بكل بناتها وأبنائها، ولكل بناتها وأبنائها.
السوريون، أغلبهم، الذين ضاقوا بمنطق المزرعة والعائلة والعصبة، والذين خرجوا عليها مرةً وإلى الأبد، لا يعنيهم قطار درعا، ولا قطار الجزيرة، ولا قطار الساحل أو حلب أو حمص أو حماة.. بل قطار سورية الواحدة الموحدة.
نشمي عربي