غزلان أمجود – الناس نيوز :
كثيرة هي الروايات العربية التي تناولت الشخصية اليهودية في موضوعاتها، التي ظلت محصورة بقضية الصراع العربي الإسرائيلي منذ ما يزيد عن سبعين عاماً.
وسواء أكان هذا التناول في سياق التركيز الفردي على جوهر الشخصية اليهودية بهويتها الإسرائيلية، أم سياق في الإطار الجمعي لشرائح شتى من المجتمعات اليهودية التي ما تزال تعيش في بلدان المهجر، لأن الشذوذ عن
ذلك المسار التقليدي قد يعني جنوح الكاتب في اتجاه سياسي معين قد لا ينتهي بإطلاق تهم العمالة والخيانة والتطبيع، وبالتالي فقدان الرصيد الأدبي والشعبي والدخول في معارك أدبية مفتوحة مع النقاد والأدباء.
فالروائي التائق إلى تصدير روايته بأقل قدر من الضجيج والصخب، يلازمه الشعور بالمسؤولية دائماً، لأنه بغنى عن ذلك، لذلك كله ظلَّ هذا الهاجس يؤرق وجدان معظم الروائيين العرب عند تناولهم للشخصية اليهودية، فهم لا
يريدون السير في حقول الألغام مثلما درجت العادة عند الكتاب والمثقفين الآخرين، لكن عصر ما بعد العولمة الأدبية، إن جاز القول، ليس كما قبله، فالخوف والقلق من أي تهمة بالخيانة والعمالة لإسرائيل أو لليهود لم يعد
دارجاً اليوم عند الكثير من الناس.
ولعل هذا الحس الجريء بالقفز على الحواجز، وكسر نمط القوالب الأدبية الكلاسيكية قد بدا واضحاً في الاتجاه المباشر الذي سارت عليه رواية قمر أورشليم الصادرة حديثاً للكاتب السوري ثائر الناشف، فقصة شالوم بن عزرا
التي تدور أحداث الرواية حولها، لا يمكن اعتبارها مجرد قصة مستهلكة من قصص الواقع أو الخيال، لأن خوضه العميق في دقائق الحياة اليومية للمجتمع اليهودي الشرقي قدّم تصورا كاملاً للقارئ العربي عن تفاصيل ذلك
المجتمع وطرائق تفكيره، فالغموض الذي كان ولا يزال يكتنف حياة العديد من الأسر اليهودية الشرقية أو الغربية، يمكن القول إن الكاتب كشف الغطاء عنه بالكامل من خلال الحوارات ذات البعدين التاريخي والديني، فضلاً عن
الحوارات ذات البعد النفسي، والتي يظهر فيها غوص الكاتب في ثنايا النفسية اليهودية.
فالقارئ المتمعن لهذه الرواية لا ينتابه ذات الشعور المسبق لأي قارئ آخر، بأن الكاتب أجاد لعبة التماهي فعلاً مع شخصياته التي برع في رسمها وتحركيها ضمن رقعة الأحداث، بل سيجد أن الكاتب ذهب بعيداً في تحليل
انفعالات الشخصية اليهودية، لذلك كله، جاءت الحوارات منسجمة مع تلك الانفعالات، وليست سبّاقة
عليها.
فغوص الكاتب في سمات الشخصية اليهودية بعيداً عن مفردات الصراع التقليدي أو الانجرار وراء مفردات الخطاب الديني، أتاح له المقدرة على قولبة الشخصية اليهودية في خضم النسق الإنساني البحت، دون أن تظهر
ملامح التأثر العاطفي على نفسية الكاتب، سوى للمآل الذي آلت إليه حياة بطله شالوم بن عزرا، وكأن الكاتب قد أعلن عن موقفه للرأي العام أنه طرف ثالث لا يعنيه جوهر الصراع، بقدر ما تعنيه الحياة الإنسانية المحضة لقصة
ذلك الطفل السوري، الذي عثر عليه الجنود الإسرائيليون في حرب الأيام الستة. “حرب النكسة” أمَّا الوصف فقد اعتمد الكاتب على خياله الواسع في رسم معالم مدينة القدس/القدس، غير أن الوصف الأدق الذي قدّمه في
الرواية نقل التفاصيل الدقيقة لحياة المتدينين اليهود داخل الكنيس، وإضافة إلى الطقوس المصاحبة لإقامة الصلوات والتراتيل والأناشيد التوراتية، فضلا عن تضمين بعض القصص التاريخية في متن النص، كقصة النبي عزرا
وقورش ملك ملوك الفرس، على أن ذلك التضمين لم يكن دون غاية وهدف أو لمجرد التعريف بالتاريخ اليهودي من وجهة نظر الكاتب، بل جاء بغرض إسقاط ذلك التاريخ كله بمسار حياة بطل الرواية “شالوم” الذي ظل متأثراً
إلى حد بعيد بالشخصيات التاريخية، فما كان من الكاتب إلا أن أخذ ذهن القارئ إلى الماضي السحيق متتبعاً حركة البطل في سياق الخط السردي.
قارئ الرواية لا بد أن يقع ضحية التأثير العاطفي، فيما يتعلق بالمصير المرير الذي انتهى إليه شالوم عندما اشتد عوده، سواء لجهة صراعه النفسي المحتدم بسبب الشكوك والأوهام التي بذرها خاله يوسف في ذهنه، أو
لجهة وقوعه في دوامة الخوف بعدما أصبح فريسة لأحلامه وكوابيسه، وكأن الكاتب أراد أن يقدم لنا تعريفاً جديداً للخوف في جوهر الشخصية اليهودية من خلال التقلبات التي تعرّض لها البطل.
ولعل وقوع شالوم في علاقة غرامية مع فتاة عربية هو الفصل الأهم الذي اختتم الكاتب روايته فيه، لكن الحب في النص يبدو من نوع آخر، حبٌّ لا حدود له، مثلما هي هوية شالوم ذات الأصول المتعددة، فهل هي الصدفة
إذن؟ أم أنها مشيئة الأقدار؟ أم رغبة الكاتب في التلميح من وراء هذه المسألة إلى هدف معين؟ ربما قصد من ورائها أن الحب لا يعرف حدوداً بين الأمم أو الأصدقاء، ولا حتى بين الأعداء أنفسهم.