د . أحمد برقاوي – الناس نيوز ::
لا شك بأن الوجود المادي أو الحي في جوهره ليس سوى عبث المصادفات التي لا تٌحصى، الوجود كل الوجود مولود من عبث المصادفات، ونحن البشر نخلق الغايات لنعطي لحياتنا معنى، سواء كانت الغايات وضيعة أم سامية، بل ونخلق تصور قوى تمنحنا المعنى.
غير أن تعيينات العبث تتفاوت في أشكالها، فمنها الصارخة ومنها العادية، منها الجميلة ومنها القبيحة، ومنها الأخلاقية ومنها غير الأخلاقية، منها الخيرة ومنها الشريرة، بل ومنها العقلانية ومنها غير العقلانية.
ولكن أليس من التناقض أن نميز بين أشكال العبث وبخاصة، بين العبث العقلاني والعبث غير العقلاني.
في حين بأن العبث يطيح بالعقلانية أصلاً؟
فوجود سلطة قانونية هدفها منع البشر من ممارسة الشرور بحق بعضهم البعض كالقتل والسرقة والاعتداء وما شابه ذلك من سلوك عبث عقلاني، لماذا هو عبث بلاني، لأنه لن يقتلع الشر من الوجود البشري، إنه نوع من العبث العقلاني الذي يحاول أن يقلل من الشر. لكنه لم يمنع الحروب من أن تحصد الملايين. فكل أحكام قوانين الأمم المتحدة قوانين هادفة للحد من الشر، ولكن كل اجتماعات مجلس الأمن والجمعية العامة هي لمناقشة الشرور وإدانتها، بل وهناك من الدول التي تؤيد الشر نفسه.
فيما الموت من أجل حاكم يسعى للبقاء على كرسي الحكم عبث لا عقلاني. فالموت من أجل هدف كبير هو أيضاً حالة لا عقلانية، إنه عبث، فالذي مات من أجل الأهداف العظيمة، لن يرى الأهداف التي مات من أجلها.
تأملوا معي حاكماً عسكرياً متخلفاً، جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري، وراح يحكم بالقوة العسكرية والأمنية والعصبية الطائفية شعباً بكامله، ويعلن نفسه رئيساً إلى الأبد، ثم يموت. هذه صورة من العبث غير العقلاني. يرثه ابنه، بوسيلة القوة الحاكمة نفسها، وهو الذي لا تتوافر فيه أية شروط بشرية للحكم، ويخالف دستور والده، يبدأ باستعادة سلوك والده العبثي دون أن يرث صفات الخبث من والده، يقود البلاد كطفل يملك لعبة، ويخلق شرط الثورة عليه، يأتي بالدول والمليشيات الطائفية لتحميه، يموت من أنصاره خلق كثير، وفي النهاية تتحول دماء مئات الآلاف من الشباب إلى نقود في جيوب أغنياء الحرب. إنه عبث ما بعد اللامعقول.
تأملوا في الأوهام المنتجة للسلوك التي تعبث بالبشر، والتي أنتجها عقل البشر بوصفها معانٍ لحياتها، وبخاصة الأوهام التي يستعجل فيها المؤمن بإله الموت من أجلها.
أما أكثر مظاهر العبث عبثية هي تلك النهايات التي ليس بعدها بدايات، وأشد النهايات عبثية هو الموت، الموت الذي يطيح التفكير به عقلياً، بكل المعاني المخلوقة من قبل البشر كي يعيشوا حباً بالحياة.