د . محمد حبش – الناس نيوز ::
إنها إحدى العبارات الإطلاقية التي تعتبر اليوم من بديهيات التنشئة في المدارس الدينية حيث يتعين أن نقسم العالم باستمرار إلى كافر ومؤمن، وهي قسمة تنتهي بكل بساطة أن المؤمن هو من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر على الوصف الذي حدده السلف، ولم ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة… وأن الآخرين هم الكافرون.
وهذا القدر يتشابه فيه الوعظ الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي، فالأديان الثلاثة تحمل رؤية سوداء عن الآخر الاعتقادي، حيث يتم تعظيم شأن المؤمن فيما يبدو الآخر غوييم، وكريهاً وشيطاناً وليس أهلاً للخلاصولا للدخول في دينونة الرب، أو كافراً موعوداً بسلسلة من سبعين ذراعاً في جهنم.
وهذا الواقع شرحه القرآن الكريم في الآيات المشهورة: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، وهو المرض الذي أصيب به المسلمون تماماً كما قال الرسول الكريم: لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
وفي الوعظ الإسلامي مثلاً فالكافر يشمل أدياناً ومذاهب وتيارات فكرية وممارسات سلوكية وألفاظاً كفرية لا حصر لها، وهو يشمل البرية كلها إلا المسلمين وهم 24% من سكان الأرض، على أن نصف المسلمين أيضاً على الأقل لا تنطبق عليه صفة الاعتقاد الصحيح الذي يحقق النجاة الآخرة، ويمنح العدالة في الدنيا.
ليس في هذا الكلام أدنى مبالغة، هو بالفعل خطاب الهيئات الدينية الوعظية على منابر المسلمين وتؤيده بالطبع التيارات السلفية عموماً.
ويتعين في الكافر هجره وبغضه في الله، ويحرم تكريمه أو احترامه فلا كرامة لمن أهان الله، ومن إهانة الله مثلاً أن تنسب له ولداً، أو تحتفل بمولد ابن الله، وقد فعل ذلك نصف سكان الكوكب من مسيحيين وهندوس، على أن الإهانة والتحقير والبغض ليست المطلب الشرعي بل هي أضعف الإيمان، فإذا ملكنا القدرة والقوة وجب علينا قتالهم وقتلهم حتى تشتفي الصدور، وسيكون أعظم الناس أجراً هو من أثخن سيفه في نحور الكافرين.
بالطبع معظم المسلمين لا يقبلون هذا، أو أنهم يقبلونهنصاً ويشككون في مدلوله، ويختارون تفسيراً منطقياً ولا يقبلون لازمه من الأمر، ولكن رجال الدين عموماً لا زالوا يعتمدون موقفاً واحداً من تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وعلى أساس ذلك تجري الأحكام عليهم وهي الأحكام القائمة على احترام المسلم واحتقار الكافر.
ولا يقبل رجال الدين أن يكون هذا الأمر ثانوياً أو هامشياً، بل العقيدة أولاً، وكل ذنب سوى العقيدة مغفور، وليس بعد الكفر ذنب.
فهل هذه الحقيقة النهائية التي يتبناها الإسلام؟
من المؤسف أن رجال الدين يفتقرون إلى الوعي بالواقع، وأن يدركوا أن الإسلام اليوم هو دين في حديقة الديانات المنتشرة في العالم، وهو مطالب أن يعيش مع الآخرين باحترام حتى يضمن لأتباعه أن يعيشوا مع الآخرين باحترام.
في كلمة مشهورة للشيخ علي الطنطاوي وهو رجل من اصحاب الثقافة الواسعة والحضور الإعلامي المميز، والعلم الشرعي الغزير قال في حدى حلقاته بعد ان خصصها للحديث عن الزعيم السوري البارز فارس الخوري الذي ولي رئاسة الوزراء السورية ورئاسة البرلمان فأثنى عليه الشيخ علي بكل ما يمكن أن تجد به الكلمات حيث أثنى على فضله وعلمه ووطنيته وذكائه وإخلاصه، ولكنه قال بعد ذلك، ومع هذا فإن أجهل مسلم في شرق أندنوسيا أقرب إلي وأحب إلي من فارس الخوري!!!
واشتهرت هذه الكلمة على الألسنة وكان أساتذتنا يروونها للطلبة باستمرار في إشارة إلى صلابة المسلم وتقديمه شأن العقيدة على أي شأن آخر.
ولكن.. هل يمكن لوعي كهذا أن يعيش في ظروف دولة مواطنة قائمة على التساوي بين الناس وحرية العقيدة؟
يمكنك للأسف أن تطوف على النت بسؤال طبيعي جداً وهو ما حكم حرية العقيدة في الإسلام؟ وفيما تعتقد أنك تسأل عن أمر من بديهيات الدين الذي ينص على قاعدة لا إكراه في الدين، فإنك تفاجأ بإجابات في غاية القسوة والغضب، حيث يطرح السادة السلفية الدخول في الإسلام طريقاً واحداً للجنة في الآخرة وللسلامة في الدنيا، ويقول الشيخ عثمان خميس في شريط منشور بعنوان: كن قوياً في دينك، ولا تخجل… نعم يجب على المختلف مهما كان دينه أن يدخل في الإسلام وإذا أبى فإننا نرغمه على دفع جزية وهو صاغر فإن أبى فإننا سنقاتله!! ويكرر لا تخجل من دينك هذا هو الإسلام، إما أن تأخذه كله أو تتركه كله.
لم يقل أحد لهذا الشيخ الذي يطرح موقفه هذا على يوتيوب ولديه أربعة ملايين متابع إنك تكرر انحراف بني إسرائيل، وتدخلنا في طوفان حروب الكراهية والبغضاء وتنفر الناس من دين الله الذي يرغم الناس بالجزية والقتال، لقد ظل يكرر مثل هذا الوعي العدواني وهو يحسب أنه يدعو للإسلام.
ولكن ستجد هذه المقالة كثيراً ممن ينتقدها، لأنها تهون من شأن العقيدة، ولا تلتفت لمذاهب الأمة في اعتبار العقيدة رأس المطالب وأصل الأصول.
ولكن بعيداً عن هذه الصورة المقلقة فهناك نصف الكأس الملآن والذي يتعين الإشارة إليه وهو تطور الفقهاء وعياً واستنباطاً.
الفقهاء المجددون اليوم يقدوم قراءة محتلفة تماماً، ووأعني بالفقهاء المجددين أولئك السادة من علماء الشريعة والقانون، الذين عملوا في حكومات حقيقية ودخلوا في اللجان التشريعية والدستورية والبرلمانية لإعداد القوانين، وفي الدول الإسلامية 52 من أصل 57 تم النص بوضوح وصراحة على حق الناس في التدين وباتت حرية العقيدة جزءاً من الدستور في هذه البلادالإسلامية فيما لا يزال الواعظون ورجال الدين في مكان آخر تماماً.
هناك نصوص كثيرة في الإسلام يمكن أن تؤسس لأفق محترم من العمل الصالح بحيث يكون الناس مواطنين متساوين، كل نفس بما كسبت رهينة، وإنما تجزون ما كنتم تعملون، وغفر الله ليبغي من بغايا بني إسرائيل رأت كلباً يأكل الثرى من العطش فنزعت خفها فملأت موقها فسقت الكلب فشكر الله لها فغفر لها.
وفي التاريخ الإسلامي ستطاع المسلمون أن يتجاوزوا هذه القسمة السلفية المحنطة، ونجحوا في بناء الحضارة مع الشركاء من نصارى ويهود وصابئة، ووصل النصارى باستمرار وخاصة في الدولة الأموية إلى منصب الوزراء، ولعل أشهر هؤلاء الرجال القديس يوحنا الدمسقي الذي كان وزيراً لعمر بن عبد العزيز، وهو من أشد الناس تمسكاً بصليبه وأيقوناته وثالوثه المسيحي، وقد خاض حرباً ضارية ضد عمر بن عبد العزيز وحتى ضد حليفة الامبراطور البيزنطي ليو الثالث حين قرر الأخير منع الأيقونات في الكنائس المشرقية.
وللعلم فالوزير في الخلافة الأموية والعباسية والفاطمية ليس محض عضو في مجلس الوزراء بل هو رئيس الوزارة أو الوزير الأزل بالتعبير المغربي.
هناك ألف مثال في التاريخ الذهبي للإسلام يجعلك تدرك تماماً أن فكرة العقيدة أولاً هي فكرة غير واقعية، وأنها محض موقف انفعالي لا يعبر عن روح الإسلام المتسامحة، ولا عن قيمه الراسخة، في احترام العمل الصالح.
نعم العقيدة ليست أولاً، وهي شأن بيت العبد وبين ربه، ويمكنني القول دون تردد: المعاملة أولاً، والقانون أولاً، والإنسانية أولاً … وبعد ذلك فلك أن تختار ما تشاء من اعتقاد.