د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
خلال رحلة علاجه المضنية في مستشفى مايو كلينيك الأمريكي سنة 1999، وقبل وفاته بأسابيع، علم الملك حسين بأن شقيقه ووليّ العهد، الأمير الحسن بن طلال، يحضر لشيء ما في الأردن.
الإذاعات كانت حبلى بالإشاعات القادمة من عمّان، وكذلك الصحف العالمية، فقد قيل يومها أن الأمير الحسن حاول التخلص من قائد الجيش، وأن زوجته الأميرة الباكستانية ثروت قد بدأت ترتيب أثاث منزلها تمهيداً لتنصيب زوجها ملكاً على عرش الأردن.
هل كانت هذه الإشاعات كافية للإطاحة بالأمير الحسن؟ ذهنية الحكام العرب لم تكن تختلف بين عاصمة وأخرى، وبين حاكم وآخر على الرغم من الفروقات الكبيرة بين الملك حسين والرئيس العراقي صدام حسين.
في إحدى مقابلاته مع الصحفي البريطاني روبيرت فيسك، سؤل صدام عن أحد الوزراء الذي أدين بجرم “قلّة الولاء”، فكان جوابه: “قطعنا رقبته. نحن لسنا في حكم أبيض هنا في بغداد…الشك يكفي لإدانة أي شخص”. وكان الشك كافياً لإدانة الأمير الحسن سنة 1999، بعد أربع وثلاثين سنة من توليه ولاية العهد (منذ عام 1965). علماً أن قصة الأميرة ثروت كانت ملفقة بالكامل، كما تبين لاحقاً، لأنها كانت تُعيد ترتيب أثاث منزلها… منزل السفير البريطاني الأسبق أريك كيركبرايد…وهو من حقها، ولم تتدخل في أثاث منزل الملك المريض، كما لم تقترب من زوجته، الملكة نور.
أما عن السبب الحقيقي للإطاحة بالأمير حسن، فهو نشاطه المتزايد بين العشائر، ورفع صوره وصور نجله في مجالسهم، على حياة الملك حسين. عاد الملك الهرم إلى بلاده فوراً لترتيب البيت الداخلي، ظناً منه أنه تغلّب مرض السرطان، وبعد لقاء مجاملة مع شقيقه في مطار الملكة علياء الدولي، توجه إلى وسط العاصمة وحده، دون مرافقة وليّ العهد، كما تجاهل نجله الأمير راشد تجاهلاً تاماً.
يُقال إن الأمير الحسن أخرج مسدسه ووضعه أمام شقيقه الملك قائلاً: “لو بدر مني ما يُسيء لجلالتكم، اقتلني ولكن لا تهينني”. ولكن الملك طلب من شقيقه أن يُعيد المسدس إلى جعبته وقال له: “لا تخف، أنت تبقى ولياً للعهد”. بعد هذا اللقاء، دعي الأمير الحسن إلى منزل شقيقه في منتصف ليل 20 يناير/كانون الثاني 1999، حيث تسلّم رسالة إعفائه من ولاية العهد.
لم يقرأها الأمير الحسن، وقد عرف مضمونها من الإذاعة وهو في طريق العودة إلى منزله. توفي الملك حسين بعد ثمانية عشر يوم من هذا اللقاء، في 7 فبراير/شباط 1999، ووقف الأمير الحسن في مجلس عزائه، بعد مبايعة نجله عبد الله، ملكاُ على الأردن.
هكذا كان الملك الراحل الحسين بن طلال، صارماً بقراراته، صلباً في حروبه الشخصية وقاطعاً في شكوكه، منذ توليه عرش المملكة خلفاً لأبيه الملك طلال سنة 1952.
ولعل أولى تلك قراراته الحاسمة كانت عند تخليه عن قائد الجيش جون باغوت غلوب (غلوب باشا)، الضابط البريطاني الشهير الذي ورثه عن جده الملك عبد الله الأول. كان الملك حسين في الواحد والعشرين من عمره عندما أصدر أمر إعفاء غلوب باشا من منصبه سنة 1956، ضارباً بعرض الحائط ما قد يسببه هذا القرار من توتر بينه وبين الإنكليز.
وعندما اجتمع مع رئيس الحكومة سمير باشا الرفاعي، طلب الملك الشاب أن تنفذ أوامره “فوراً” ومن دون أي تردد. هذه القصص لا تزال حاضرة، وتعود إلى ذاكرة الأردنيين اليوم وهم يشاهدون الصراع الدائر بين الملك عبد الله الثاني وأخيه غير الشقيق، ولي العهد السابق الأمير حمزة بن الحسين.
لا أحد يعرف بالتحديد ما هو جرم الأمير حمزة، الذي أدى إلى عزله وتجريده من صلاحياته قبل وضعه مؤخراً قيد الإقامة الجبرية. هل هي فعلاً محاولة انقلاب، أم شكوك الملك بمحاولة انقلاب؟ هل كان الأمير حمزة فعلاً مرتبط بأجهزة مخابرات عربية، يحاول خلق معارضة منظمة لحكم أخيه، مستغلاً شعبيته الكبيرة بين العشائر وفي أوساط الشباب؟ وهل يوجد علاقة مباشرة بين زيارة الملك الأخيرة إلى واشنطن، حيث قدم نجله الأمير حسين إلى دائرة صنع القرار في إدارة البيت الأبيض، وبين قراره الأخير بالتخلي عن حمزة؟ هل حصل عبد الله الثاني على ضوء أخضر للإطاحة بأخيه كما حصل والده على ضوء مماثل للإطاحة بالأمير الحسن؟
لا أحد يملك أجوبة مقنعة على كل هذه التساؤلات، إلا الملك عبد الله ذات نفسه. بعض المراقبين يعتبرون أن الأزمة الأخيرة “هزّت” عرش الأردن، وهو كلام فارغ، ناتج عن عدم معرفة حقيقية لا بصلابة الملك الأردني، أو بتاريخ أسرته. البعض من كتاب محور الممانعة ( محور الشعارات الفارغة والمرتهنة في معظمها لإيران ) يعتبر أن شخصيته ضعيفة، وأن قراره ليس بيده بل مرتبط عضوياً بالغرب، وتحديداً ببريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. هو أيضاً كلام غير دقيق ، متناسين أن الأميركيين لم يعودوا قادرين على حماية حلفائهم كما كانوا يفعلون في الماضي، والدليل طبعاً هو في مصير زين العابدين بن علي وحسني مبارك وأشرف غاني، رئيس أفغانستان السابق الذي فر من بلاده قبل أقل من عام، بعد أسابيع قليلة على زيارته للبيت الأبيض ، فضلاً عن ذلك أن التحالف مع الكبار أمر مرتبط بمصالح الدول .
الملك عبد الله اليوم “عميد الحكام العرب” وأكثرهم طولاً من حيث ديمومة العهد، فمن يحكم بلاداً مثل الأردن طيلة ثلاثة وعشرين سنة لا يمكنه أن يكون ضعيفاً أو خفيفاً، أو غير جدير بالحكم. هو بنهاية المطاف، ابن أبيه الذي كان أحد دهاة العرب في العصر الحديث، تمكن من الحفاظ على عرشه بلاده سبعة وأربعين سنة، على الرغم من كل محاولات الاغتيال، وكل المؤامرات التي رتبت ضده، من جمال عبد الناصر أولاً ومن ثم من ياسر عرفات وكل الزعماء العرب.
وذلك فعل الملك عبد الله الذي نجا من تداعيات 9-11 سبتمبر/أيول، والانتفاضة الثانية، حرب العراق، والربيع العربي.
يبقى الملك عبد الله قارئاً جيداً للتاريخ، وتحديداً لتاريخ أسرته الهاشمية، التي تعودت على الغدر، من الداخل والخارج معاً، ما يجعل منه رجلاً قوياً وجاهزاً لكل التحديات.
غدرتهم بريطانيا العظمى أولاً عند الإطاحة بشقيق جده الأكبر الملك فيصل عن عرش سوريا سنة 1920، ثم عند تسليم الحجاز إلى سلطان نجد، الأمير عبد العزيز آل سعود، والإطاحة بالشريف حسين بن علي، قائد الثورة العربية الكبرى. وبعدها، غدرتهم الولايات المتحدة سنة 1958، عندما لم تعترض الانقلاب العسكري الذي أطاح بالعائلة الهاشمية في بغداد، وأدى إلى ذبح الملك فيصل الثاني مع كل أفراد أسرته.
أي أنهم خسروا سوريا أولاً ومن ثم الحجاز وبعدها فلسطين، والعراق. وعندما قرر الملك حسين الوقوف مع مصر سنة 1967، جاءت خسارة الضفة الغربية والقدس الشرقية، التي أي أنهم وخلال قرن من الزمن، خسروا كل ما كان مخصص لهم من دول وإمارات، ليكون الأردن وحدهم لهم، على ضعفه وصغره وقلّة موارده.
الملك عبد الله متمسك بعرشه، وهذا من حقه، ويريد تأمين انتقال سلسل لنجله، ليبقى الحكم مع سلالة الملك حسين من زوجته البريطانية “منى الحسين” لا من أولاد الأردنية علياء أو الأميركية – السورية ليزا الحلبي (الملكة نور).
وكما تقول الأسطورة اليونانية القديمة: “كل شي مسموح، في الحب والحرب”…وفي السياسة أيضاً.