ثائر الزعزوع – الناس نيوز ::
اللوحة الرئيسة للفنان السوري بطرس المعري .
حديثَ سنِّ كنت، ربما في الخامسة عشرة من عمري، حين اصطدمت بصوت يقرأ شعراً، عبر إذاعة دمشق، لم أعلم وقتها لمن تلك القصيدة التي كان يقرؤها ذلك الصوت الرخيم، لكن بيت شعر علق في رأسي، بدا وكأنه نداء موجه لي… رددته، وكأني أردد مزموراً أو آية: أيها الغر قد حبيت بعقل فاتبعه فكل عقل نبي…
جلس ذلك الفتى، الذي كنته، محاولاً أن يفهم معنى أن يكون العقل نبياً! أوليس ثمة أنبياء ورسل يتبعهم الناس، ويسيرون على خطاهم، وينفذون تعاليمهم كاملة غير منقوصة؟
تلك أسئلة يطرحها فتى مسكون بالشعر على نفسه، فتغير ترتيب حياته، وربما تغير حساباته كلها، يظهر العقل في صورة كائن حيٍّ، فرد متفردٍ، قادر على أن يسير وعلى من يحمله أن يتبعه.. ولكن كيف؟
فكر لتكون موجوداً..
هكذا سوف يكتشف الفتى حين سوف يصبح شاباً، فيقرر ألا يصدق ما يقال له، عليه أن يفكر ويفكر، ويمنح السلطة الكاملة لعقله كي يقرر…
يبدو الأمر صعباً في مجتمعات أُسست أصلاً على أساس أن تسير مع الجماعة، وهي تردد كي تقتل النزوع الفردي: من خرج على الجماعة فاقتلوه.. ولكن كيف تكون ضمن جماعة ألغت المعرفة، وغيبت العقل، فيما الصوت في رأسك يتنامى: كل عقل نبي.. كل عقل نبي.
هذه استقلالية ما بعدها استقلالية، وهي حرية ليس كمثلها حرية، فهي تمنح كل عقل تلك النبوة الخالصة ليقرر، ولا ينقاد. كي ينبذ الاتباع الأعمى للأوامر والتعليمات، هي إذاً تمرد، وهل الحرية سوى تمرّدٍ على البنيان ونقده.
عام 2003 اتخذت الجملة المدهشة “كل عقل نبي” عنواناً لمقالة أسبوعية كنت أكتبها في جريدة كنت أعمل فيها، أي محاكمة قد تضعها أسبوعياً تحت هذا العنوان؟ وإلى أي مدى يمكن أن تطلق سراح العقل لتعلق على ما يحدث حولك، متخذاً من منهج الشك الذي اقترحه قبل ألف عام أبو العلاء المعري، وقد حورب وكُفِّر عندها، فكيف تطرح أسئلة محرّمة؟
لم يتأخر الرد طويلاً، إذ وردني بريد إلكتروني يخبرني صاحبه الذي لا أعرفه أنني مرتدٌّ بسبب عنوان مقالتي الأسبوعية، أيصل الخوف من العقل إلى هذه الدرجة حقاً؟ لماذا تخشى شعوبنا العقل، ويجعلها تسير على غير هدى، تصيغ لكلام الشيوخ، الذين ستبين تجاربنا المتلاحقة، أنهم ليسوا سوى أدوات سلطة، وطلاب سلطة، تآمروا على وعينا ورغبتنا في التحرر والحرية باسم الدين، ووضعوا الدين ستاراً يحجب العقول، ألم يقل لنا المعري: لا إمام سوى العقل؟ .
ألا يفعل منظرو السياسة في بلادنا الأمر نفسه؟ ألا يصادرون عقول الجمهور ويبيعونه أوهاماً وأكاذيب، ألا يبدو الحاكم العربي وكأنه راعٍ يسوق أغناماً إلى الذبح، يطعمها، ويسجنها، ويجود عليها بهباته ومكرماته… يسوسون الأمور بغير عقل وينفذ أمرهم ويقال ساسة؟
ما يؤلم أن شعوبنا ورغم مرارة ما عاشته وما تعيشه وما سوف تعيشه، ما زالت تسير وراء شيوخ، وأئمة ومُدّعي سياسة، تسير ولا تكاد تستخدم عقولها، تؤخذ بالشعارات الفارغة والعنتريات الجوفاء، وتستدعي في مناماتها ماضياً ناصعاً تتغنى به، لكنها تحذف منه وبكل قسوة صوت المعري يناديها من جوف ذلك التاريخ: أيها الشعب: كل عقل نبي.
في الخامس عشر من مارس/آذار، وبالتزامن مع ذكرى انطلاقة الثورة السورية، يحل تمثال المعري، الذي أنجزه النحات السوري عاصم الباشا، لاجئاً في ضاحية مونتروي في العاصمة الفرنسية باريس، وسوف يبقى منفياً مثل ملايين السوريين، ما دام النظام المستبد قائماً.