علي صقر – الناس نيوز :
مثلي مثل كل رفقاتي البنات، نتقاتل مع أخواتنا الأكبر منا سناً على من يفوز بملء الجرة من عين الضيعة.
كالعادة كانت شيطنتي تفوز بملء الجرة من العين لأفوز بملاقاة حمودي.. وكانت شيطنته مثلي، كل مرّة يسبق إخوته الشباب الأكبر منه سناً وحجماً بتناول الجرة منهم والركض نحو النبعة.
وعلى النبعة، يتناولني بأعذب الماء، أقصد أعذب الأحاديث..
صحيح حمودي أكبر مني بصفين، إلا أنني سمعت أمي تقول إنني أنا وحمودي وبقرة أبو سالم وعنزتنا ولدنا بيوم واحد …
بقرة أبو سالم كانت آخر واحدة تشرب من العين لبطيء مشيتها لأنها على طول معشرة، يعني حامل.. يعني ما شاء الله ولادة. وبكيتُ، نعم بكيتُ، على البقرة يوم ماتت، بعدما ولدت كثير من العجول، ودَرِّها لمئات الكيلوغرامات من الحليب.
يوم موتها جاءت سيارة كبيرة، إنما بلا مقاعد من الخلف، أي شاحنة صغيرة لا تشبه سيارة لاند روفر أبو شكيب الوحيدة في ضيعتنا.
وتجمَّعَ حول البقرة النافقة شباب ورجال الضيعة، وكانت معهم أم سالم تلوح بمنديلها تلويحة الوداع للبقرة وتمسح به دموعها، ولاحظت أن لون دموعها كلون حليب بقرتها.
أخذوها في سيارةٍ بلا مقاعد إلى المدينة، وسمعتهم يقولون إن أهل المدينة كفار يأكلون الفطائس.
… “عيني ريحة فلطها” (أي روثها)، وتجهش أم سالم بالبكاء.
… بس والله بقرة أم سالم مو فطيسة وما أطيب ريحتها ووقفتها وهي عم تشرب المي من النبعة، وكنا أنا وحمودي نختبئ خلفها ومتل العادة كنت أمنعه من تقبيلي.
وراحت من كانت تخبئ محاولاته لتقبيلي وغبائي المكرر من منعه.. الله معك يا بقرة أم سالم حامية قبلاتنا المؤجلة، يا ريت ما رحتي، وياريتني خليتو يبوسني.
وعن جد، لا تؤجل قبلات اليوم إلى الغد.
وبقيت أم سالم تلوح للبقرة حتى اختفى خوارها الأخير.
وترسل لأبو سالم الشتائم: يا كافر كيف بتبيعها للقصابين؟ كان لازم ندفنها هون تحت التوتة اللي كانت مربطها، واللي كان زبلها ينعش التوتة والجوزة وكل شي، مو حرام عليك تبيعها؟ صرت متلك متك القصابين لا بتحرموا ولا بتحللوا.
… أصلا إنت وِيَّاهم الفطائس.
لمحت حمودة كان عم يبصبص على بزاز البقرة ويسترق النظر لصدري.. يا ويلك يا مديحة شو جاب لجاب؟!
ليك الأزعر ليك!
منيح اللي كانت بقرة مو عجل، كان لمحني أكتر مما لمحته …
أصلا عمري من عمرو ومن عمر البقرة والعنزة، بس أنا بقيت سنتين وما دخَّلوني المدرسة لأنه عيب البنات يتعلموا.
هيك سمعت الشيخ يهمس لوالدي.
إلى أن جاء أبو حامد من الأرجنتين وأجبر أهلي والخطيب المدرس والشيخ بدخولي المدرسة، وكنت أول بنت تدخل المدرسة.
عالنبعة كانت جرة حمودي أكبر من جرتي، على أساس هوي شاب وعليه عضلات، وبشكل لا شعوري تلمست نهدي، وأنا كمان عليّ عضلات.
وكالعادة، أمي وقت تأخري على النبعة تشتمني وتضربي بالبحص أنا والعنزة شبه الوحيدة بالضيعة، والناجية الوحيدة من مجزرة عبد الناصر، على حد قول المختار.
وتتابع شتمها لي ونعتي بالعنزة.
ولك يا أمي ما مليتي من ضربي؟ ما خليتي بحصة بالضيعة.
بعدين أنا بحبها للمسكينة العنزة.
أصلاً لولا اهتمامي بها كان أبو بهجت ذبحها، أو كانت ماتت فقع وباعوها للي اشترا بقرة أم سالم، وأنا الوحيدة اللي بركض وراها وبمنعها من قضم الشجر.
وِلَّا نسيتي إنو أنا والعنزة وبقرة أم سالم وحمودي خلقنا بيوم واحد؟
تصرخ أمي: الله يخليلنا الرئيس عبد الناصر اللي منع ترباية الماعز بضيعتنا، ويا ريته منع ترباية البنات كمان.
لم أكن اعرف من هو عبد الناصر، ولا خلفية قرارة بمنع تربية الماعز بساحلنا السوري. يوم مات عبد الناصر، بكت أمي وأخذت تولول قائلة: أعطانا نحن النسوان حريتنا لأنه ريَّحنا من ترباية الماعز الشياطين.
ماتت بقرة أم سالم، ومات عبد الناصر، وبقيتُ أنا والعنزة وحمودي.
ومن شدة حزن أمي، فشَّت خلقها بالعنزة وفيي، إذ منعتني من الذهاب الى النبعة وملاقاة حمودي، حتى أنها ربطتني أنا والعنزة بساموك البيت.
وبعد أربعين عبد الناصر، سمحت لي أمي وللعنزة بالذهاب إلى النبعة وهي تشتم العنزة.
وفي الطريق ركضتُ وعطشتُ. ومن شوقي ولهفتي لملاقاة حمودي، نسيت أن آخذ الجرة معي. كانت العنزة قد سبقتني إلى النبعة، وكان تمها ع تم النبع اللي حطيت تمي فيه. فعلاً لهلق ما فهمت ليش أمي بتضل تقول عن صديقتي العنزة: “العنزة الجربانة بتشرب من راس النبع”.
ومن بعيد لمحت خواريف حمودي، الظاهر إنو هذه المرة جاء الى النبعة بحجة رعي الخواريف.
وما إن لمحني، حتى ترك الخواريف، ورمى العصى بعيداً، ووقف أمامي، لكن من دون بقرة أم سالم هذه المرة، البقرة التي كنا نختبئ خلفها، بينما كان يحاول تقبيلي.
الآن أنا سأقبله.
هذه المرة كانت العنزة موجودة وليس البقرة، وبسبب حجمها الصغير، لا يوجد مكان للاختباء.
أقترب مني ولهاثه يفض رجفاني، وهمس:
“اشتقتلك كتير”.
بالحقيقة لم يقل ذلك، لأنه عندما كان يراني يتلعثم وتحمر خدوده ونرتجف.
اقترب مني أكتر على غير العادة، وطارت عصافير قلبي، يااا أمي رح يبوسني.
ومد ايدو لبنطلونه ونزل سحابه وشاااال.. ورقة.
وأنا هربت، وبلشت سب علية، يا كلب يا ابن الكلب يللي أمك فرجها مبين للناس كلها متل فرج العنزة.
وصوت حمودي يلاحقني، ما تفهميني غلط! ما لقيت مكان آمن خبي فيه الرسالة إلا جوا سحاب بنطالي، منشان الله استري عليي!
همستُ: الله يستر عليك سترة العنزة.
أنا ومديحة والبقرة وحمودي والعنزة وعبد الناصر..
كنا ستة عالنبعة.