عبد الله أمين الحلاق- الناس نيوز :
كانت إيطاليا واحدة من أخطر البؤر الساخنة على سطح هذا الكوكب على صعيد تفشي فيروس كوفيد-19 فيها، ووفاة الكثيرين نتيجة إصابتهم به، إلى جانب أعداد الإصابات الكبيرة. وقد ركّز الإعلام العربي والعالمي عليها من زاوية متابعة الإصابات والوفيات يومياً لأكثر من ثلاثة أشهر، وأيضاً من زاوية تعامل الحكومة الإيطالية مع الجائحة التي هزت البلاد وأفقدتها توازنها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
يمكن لمن يعيش في إيطاليا أن يغامر بالكتابة عن مسألة تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها، وهي مسألة المهاجرين واللاجئين وعلاقتهم بالجائحة وبالإيطاليين، وعلاقة الإيطاليين بهم على خلفية الجائحة نفسها، خصوصاً وأن مسألة المهاجرين واللاجئين في إيطاليا هي مسألة ذات بعد سياسي هام اليوم، مع تنامي صعود حركات اليمين المتطرف المعادي لهؤلاء والساعي إلى إفراغ البلاد منهم، ضمن برنامج “سياسي” يذكّر بالفاشية التي أفل “نجمها” قبل سبعة عقود في إيطاليا.
مع حالات الإغلاق العام التي فرضتها الحكومة على البلاد، استثنت حكومة السيد جوزيبي كونتي من الإغلاق المخازن الكبرى ومحلات البقالة وكل ما يتعلق بالمواد الغذائية، من دون أي تغيير في أسعار تلك المواد. لكن، كانت ثمة مبادرات لافتة من قبل الكثيرين ومن بينهم أشخاص من أبناء الجاليات العربية، وهي مبادرات شكلت حالة إنسانية وإعلامية مؤثرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام الإيطالي.
كان من بين هؤلاء الشاب سامح (34 عاماً)، وهو شاب مصري وصل إلى إيطاليا قبل أعوام ويعيش في إقليم لومبارديا شمال البلاد. سامح هو صاحب محل لبيع الخضار والفواكه، وقد عرض بضاعته كالمعتاد ولكن مع لافتة كتب عليها باللغة الإيطالية:
“لقد رحبتم بي قبل عشرة أعوام والآن أريد أن أشكركم. كل شيء سيكون على ما يرام. خذوا ما تحتاجونه من الخضار والفاكهة مجاناً، مع الحب.. سامح”.
تأتي هذه المبادرة ومبادرات أخرى شبيهة بها من قبل عرب وإيطاليين في ظل أزمة اقتصادية أفقدت الكثيرين أعمالهم ووظائفهم، بسبب إغلاق البلاد لأكثر من شهرين ونصف.
وفي 27 آذار 2020، وانطلاقاً من الكلمة التي أطلقها البابا فرنسيس والتي دعا فيها المؤمنين إلى “الصلاة لإبعاد فيروس كورونا”، أصدر جامع روما الكبير بياناً قال فيه: “تواصلاً مع لحظة الصلاة التي دعا إليها البابا فرنسيس جميع المؤمنين عصر اليوم، ندعو جميع المؤمنين المسلمين في إيطاليا الى التضرع لله العليّ، الرؤوف والرحيم، للاتحاد كلنا معاً روحياً، والإعراب عن مشاعر العطف والأسى نحو الأموات، والقرب من المرضى”.
أيضاً، قام المركز الإسلامي الثقافي في مدينة موتزاني بالمساهمة بمبلغ مالي وبالتبرع بالكمامات وبالمواد الأولية للعائلات المحتاجة. لقيت تلك المبادرة صدىً طيباً في أوساط سكان المدينة، وردّ عمدة المدينة برسالة شكر للمركز.
وعلى الصعيد ذاته، ومن ناحية المبادرات وتبادل الرسائل، نشر عمدة مدينة بارما الإيطالية فيديريكو بيزاروتّي، نص الرسالة التي وصلته من عشرة مهاجرين أفارقة من جمهورية توغو، تبرعوا بمبلغ من المال وشاركوا بجمع تبرعات إضافية. جاء في الرسالة: “مرحبا إيطاليا الغالية، بلد السلام. إليكم أنتم الذين أنقذتم حياتنا، ورحبتم بنا، أنتم اليوم في أزمة ضد عدو غير مرئي، وليست لدينا القوة لمحاربة هذا الوباء. لكنّ خير إيطاليا هو خيرنا وألمها هو ألمنا. ولهذا السبب قررنا نحن، مهاجرون توغوليون في بارما، التعبير عن آلامنا من خلال المشاركة في التبرعات.
ننتهز هذه الفرصة لنتمنى الشفاء العاجل للمرضى ونقدم تعازينا الصادقة لجميع الذين فقدوا أسرهم. إلى الأمام إيطاليا! تحيا إيطاليا! معاً سنفعلها”. نشر “الحزب الديمقراطي الإيطالي” المشارك في الحكومة رداً على الرسالة عبر صفحته الرسمية في “فايسبوك”، قال فيه: “نعانقكم يا رفاق. شكراً من القلب. تبرعاتكم أغلى من ذهب العالم”.
في المقابل، تناقلت صفحات وحسابات باللغة العربية على “فايسبوك” و”تويتر”، أخباراً مفبركة كان يبدو من محتواها وطريقة إخراجها وتسويقها أنها بعيدة عن كل منطق، ولا يقبلها من يعرف إيطاليا والقارة الأوروبية عموماً. من تلك الأخبار والمنشورات، أن رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي أعلن فقدان السيطرة على الفيروس وعلى الوضع في إيطاليا، وأنه قال: “نسلم أمرنا إلى السماء”. وفي مشهد آخر، تناقلت صفحات عربية أيضاً صورة لمن قالت إنه الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، ويظهر في الصورة رجل يبكي وقد كتب بجانب الصورة: “الرئيس الإيطالي يبكي ويسلم أمر البلاد إلى السماء”. الصورة كانت في الحقيقة لرئيس البرازيل وليست لرئيس إيطاليا.
ليس واضحاً ما إذا كانت تلك الصفحات العربية هي من أطلقت حملات التضليل هذه، أم أنها نقلتها وترجمتها عن صفحات بلغات أخرى، لكن من المؤكد أن “تسليم الأمر إلى السماء” وضرب العلمانية الأوروبية وإن بِجَرّة منشور على فايسبوك، هو تعبير عن أمنيات الكثير من الإسلاميين داخل أوروبا وخارجها. كان من السهل طبعاً تمييز صورة الرئيس البرازيلي من صورة الرئيس الإيطالي، وبالتأكيد، لم يكن الرئيس البرازيلي يبكي في تلك الصورة وهو يسلّم الأمر إلى السماء. هذا خيال عربي لم يسبق له أن رأى رئيساً عربياً يبكي أو يعبر عن مشاعره بصدق، وهذا سيفضي بالتأكيد إلى دهشة وتأويلات عديدة لبكاء رئيس البرازيل أو أي رئيس آخر ينزل من مرتبة الآلهة إلى مرتبة البشر، ويبكي مثلهم.
هذا كله للقول إنه ثمة حالات يمكن أن تحفر في ذاكرة الإيطاليين والمهاجرين معاً من خلال التفاعل الإيجابي المتبادل في الجائحة، وهي مسائل ذات بعد تراكمي طويل المدى وهامّ، وللتاريخ أن يقول كلمته فيها، وخصوصاً في ظل صعود خطابات الكراهية والبروباغندا والدّجل الذي يتم تعميمه على جماعات وكتل بشرية بأكملها، سواء كانت تلك الجماعات من المهاجرين أو من الإيطاليين.
رفْض التعميم والإطلاق، عن حسن أو سوء نية، هو مسألة بديهية قد لا يكون ثمة حاجة لذكرها، غير أن سيادة “البديهيات” المضادة ومنافاتها ونقضها لكل ما هو بديهي ومنطقي وتحكّمها في الإعلام والسياسة والمجتمع اليوم، قد تجعل مِن شرح المشروح أمراً ضرورياً، ومن تكرار البديهي واجباً فكرياً، على الرغم مما يثيره هذا التكرار من ملل وضجر لدى القارئ، وأيضاً بسبب ما يتركه من أثر في نفوس هواة التقديس أو الشيطنة، على حدٍ سواء.