[jnews_post_author]
الضربة الكبيرة التي ألحقها كورونا بالسفر لا يمكن تجاوزها أو احتواء آثارها خلال وقت قصير، وستحتاج البشرية إلى الكثير من الامكانيات والوقت كي تسترجع الحيوية التي تمتعت بها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. لن يكون في وسعنا خلال زمن وجيز أن نسافر كما كنا نفعل قبل وصول هذا الكابوس الرهيب الذي قتل لنا أهلا وأصدقاء ومعارف، وضرب السجون من حول حياتنا بشكل شامل. هدم قسطا كبيرا مما بنته البشرية خلال نصف قرن من أجل التواصل والتقارب من خلال السفر.
واحدة من إنجازات البشرية في النصف الأخير من القرن العشرين كان التقدم في وسائل المواصلات، حين صار بوسع المرء أن يصحو في باريس وينام في بكين أو طوكيو. أن يذهب من باريس إلى لندن بالقطار، وكأنه خارج من منزله لمشاهدة فيلم سينمائي في سينما الحي المجاور، أو يسافر من مونتريال إلى اسطنبول ليقضي إجازة شتوية، هربا من الثلج والبرد الشديد. وكان كل شيء يوحي بأن هناك وسائل مواصلات أكثر تطورا سوف تنزل إلى الميدان خلال الفترة المقبلة، لتشكل نقلة نوعية أكبر في سوق السفر الذي صار يوفر وسائل رفاهية وراحة، ومن ذلك طائرات وقطارات تختصر الوقت أكثر مما هو عليه اليوم، وعلى نحو قد يصل إلى النصف في بعض الحالات.
اليوم تسافر الطائرات والقطارات شبه فارغة إلا من مسافرين قليلين لديهم حاجات ضرورية عليهم أن يقضوها، وصارت المطارات ومحطات القطارات خالية، تلك الصالات التي كانت تعج بالقادمين والذاهبين، بالمودعين والمستقبلين، خاوية. إن حياة كانت تربط العالم ببعضه تأخذ البشر من قراهم ومدنهم إلى قرى ومدن العالم، باتت مشلولة، ولن تستعيد حيويتها إلى بعد سنوات بسبب الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها شركات الطيران والقطارات، والتي بلا شك أفلس قسم منها، ذلك الذي لا يستطيع تحمل الخسائر، وغير المدعوم من دول غنية تحميه من الافلاس. أما شركات النقل الخاصة التي نمت في العقدين الأخيرين، وصارت تنقل الناس بقليل من النقود لا تعادل ثمن وجبة عشاء أو حذاء في وقت التنزيلات، فإنها أغلقت أبوابها، وسرحت موظفيها، ودفعت بهم إلى البطالة.
حياة كاملة كانت تعيش على السياحة والسفر كلها باتت معطلة، ولن تستعيد ديناميكيتها بسهولة، أو خلال وقت قريب. قد ينتهي كابوس كورونا خلال عام، ولكن المؤسسات التي تطورت على مدار عدة عقود لن تتمكن من العودة إلى العمل بين عشية وضحاها بسبب الخسائر الكبيرة التي لحقت بها، واظطرت القسم الأكبر منها إلى حل نفسها وتسريح عمالها. في كل يوم نقرأ أن الكثير من المطاعم والمقاهي واماكن الترفيه والسياحة وحتى المسارح ودور السينما توقفت عن العمل.
حتى لو رحل كورونا في هذا العام لن يعود السفر إلى ما كان عليه قبل أن يتسلل هذا الفايروس من سوق للطيور في ووهان ليغزو البشرية، ويضرب نظام حياتها، ليعطله بنسبة كبيرة جدا. وبالنظر إلى الامكانات المتاحة سيتغير مفهوم السفر نفسه، وربما فقد جانب المتعة التي نماها خلال نصف قرن ليعود حاجة فقط، وبالتالي لن يسافر أحد من بيروت أو الرباط أو اسطنبول إلى باريس من أجل مشاهدة معرض فني لبيكاسو، أو لشراء الثياب إلا من كان قادرا على ذلك، ولن يسافر إلى لندن أو باريس من أجل السياحة وشم الهوا إلا النخب التي تمتلك الامكانات المالية، وعدد هؤلاء سوف يتراجع بشكل كبير. قبل كورونا لم يكن تنفيذ هذه الرغبة يحتاج إلى قدر كبير من المال، ولكنه بعد قليل سوف يغدو صعبا أو مستحيلا، حتى يصبح السفر حلما كما كان عليه قبل نصف قرن.
بشير البكر