د . غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
أعلن مؤخراً عن القائمة المرشحة لجائزة “الكونكور” الفرنسية العريقة، والتي تعد أهم وأقدم الجوائز الأدبية في الثقافة الفرانكوفونية، تحصلت عليها الكثير من الأقلام المؤثرة في الرواية والفكر عموما كسيمون دوبوفوار ورفيقها الفيلسوف جون بول سارتر، كما صاحب جائزة نوبل باتريك موديانو، وكذا المغربيين الطاهر بن جلون وليلى سليماني، واللبناني أمين معلوف.
الجائزة التي كثيراً ما تثير النقاش حول استحقاق هذا القلم أو ذاك، عرفت السنة الماضية حصول السنغالي محمد مبوغر سارر عن رائعته “ذاكرة البشر الأكثر سرية”، والتي ما زالت لم تتح للقارئ العربي في لغته.

عرفت هذه السنة وصول عملين يمكن أن يصنفا في فئة “السيرة” يتناولان بلدين من المنطقة العربية.
الأول للكاتب الفرنسي ذي الأصول اليهودية الجزائرية إيمانويل روبن أستاذ التاريخ والجغرافيا ، والذي أصدر رواية يحتفي فيها بنسوة “قسنطينة” ( 400كلم شرق الجزائر العاصمة) اللاتي ربينه وترعرع بينهن.
يبني انطلاقاً من القصص التي روينها له صغيراً عالماً لروايته، هكذا سيكون الشمعدان الذي كان لجدته “باية”، لا تستغني عنه في أي من تنقلاتها، متوهمة أنه كان يوماً ما ملكاً للكاهنة البربرية وقبلها للنبي سليمان هو المادة الأساس لحبكته التي ستنتقل بين عدة أماكن وعدة بلدان، ولكن سيدور جلها في قسنطينة والمدن المجاورة لها، حيث كان يعيش أسلافه.
يحكي روبن في “المتوسطيات” قصة الجزائر منذ قدوم الإسلام وحتى سنة 2019، لكن من وجهة نظره هو، يهودي من بلد يبقى لليهود فيه وجود سوى في اللغة، كما يصف تعايش المسلمين واليهود جنباً إلى جنب قرون قبل قدوم الاحتلال الفرنسي والتفريق بين الطائفتين، المجازر والاقتتال الذي تلا بينهما، كما تلك التي عرفها “أهالي الجزائر” على يد المعمرين، وبعدها التغريبة التي عرفها أسلافه ستينات القرن الماضي هروبا من جحيم أصبح اسمه الجزائر في سنة جن فيها العنف (1962)، ثم التكيف في بلد وثقافة وضفة لا طالما حلم بها أسلافه، قبل أن يضطروا للرحيل إليها مرغمين، وكل ما تبعها من عنصرية هو الذي سيتوقف عند ملامحه البربرية طويلاً وكل ما يجعل منه مختلفاً على الرغم من كون والده فرنسياً أصيلاً.

الرواية الثانية وقعها الشاب اللبناني سبيل غصوب ابن الشاعر والكاتب قيصر غصوب الذي سيحكي الحرب الأهلية في لبنان، ولكن هذه المرة من وجهة نظر لبناني عاشها سماعاً، لم يشهد معاركها، وعلى الرغم من ذلك فقد خلفت ندوباً في روح الصبي وكبرت فيه، ما اضطره إلى العودة نحو بيروت، التي لطالما حلم والداه بالعودة إليها دون أن يفلحا.
لا يكف غصوب طيلة الرواية عن طرح الأسئلة عن أسباب الحرب، ومجرياتها، عما فعل هذا وذاك، مبعثراً بين التوثيق، والتخييل، لا يقف إلى جانب أحد، يحكي تأثره بزياد الرحباني، وأغاني الطفولة، كل ما اتكأ إلى حائط سقط، على الأقل ذلك ما سيحسه القارئ وهو يكتشف ضلوع هذا وذاك في جرائم باسم الدين أحياناً، والسياسة كثيراً، يطرح الأسئلة عن الأبطال والبطولة، يسخر من الجميع ومن نفسه، هو الذي لم يستطع إيجاد إجابات لينتهي بالقول إنه لا يريد خط سيرة حرب بل سيرة والديه فقط.
“بيروت سور سين” احتفاء بفترة كانت فيها باريس مركزاً للنشاط الثقافي والفكري العربي، ومقراً للكثير من التجارب الصحفية والفكرية العربية، كما كانت مسرحاً للحروب “المشرقية”، التي سيكون والدا سبيل شاهدين عليها، هما اللذان ركضا من الحرب لتلحق بهما في إحدى أأمن العواصم.
رواية سبيل غصوب وإن لم تقدم جديدا على صعيد الكتابة الفنية ولكنها رواية مؤثرة، سنبكي خسارات قيصر غصوب الذي سيطرد من الجامعة وتغلق الكثير من الأبواب في وجهه، ثم سنضحك ونحن نقرأ أن سبب فصله “سبه للأديان جميعها”، نعيش حيرة الطفل سبيل الذي اعتقد طويلاً أن والده يشتغل “جاسوسا” وأمه “عاهرة ” نظرا لنمط عيشهما المختلف وسريع الإيقاع.
نعيش مع سبيل أسئلته وهواجسه عن السياسة والدين والطائفة، عن مكانة المواطن في كل هذا، المواطن الذي لم يجد لنفسه مكاناً عقوداً بعد تأسيس الدولة، دولة يسيرها القتلة ذوي الخطابات المنمقة والبدل الأنيقة.
إن ما يجمع روايتي غصوب وروبن هو احتفاؤهما بالسيرة الحميمة، التي يجعل منها الكاتب نفسه بطلاً لروايته، إن منحه روبن اسماً غير اسمه (صامويل) فتصريحاته حول العمل وتتبع سيرته ستقطع الشك حول الأمر، أما غصوب فسيكون أكثر جرأة إذ يشير إلى الأمر مرات بما لا يدع للشك مجالاً.
والعملان وإن اختلفا في حيثياتهما إلا أنهما يشتركان في الاشتغال على ثيمة التاريخ، ومساءلته، يضيع روبن قليلاً محاولاً استثمار مسألة الهوية الشمال إفريقية، وتتبع جذور “يهود الجزائر”، في حين يبدو غصوب أكثر دقة إذ يجعل من “الحرب الأهلية” بداية الكون، ومنتهاه أيضا إذ يربط كل ما عاشه ويعيشه لبنان بها.

العملان اللذان صدرا عن دار النشر ذاتها (منشورات ستوك) يحتفيان رغماً عنهما بما يعرف ب”متلازمة الأم اليهودية” والتي كثيراً ما يتوقف عندها السوسيولوجيون وعلماء النفس، وكثيراً ما كانت مادة للسخرية في الأعمال السينمائية والأدبية لذوي الأصول اليهودية، تدور حول علاقة الفرد بالعائلة وعدم قدرته الانفصال عنها.
هكذا نجد غصوب مهدداً عائلته بأنه سيذهب للاستقرار في إسرائيل حتى لا يتواصلوا معه، هو الذي يقف مذهولاً أمام صلابة العلاقة التي تربط والديه بكافة أفراد عائلتيهما، وارتباطها ب”الضيعة” وأهلها، ثم لا يطيل حتى يجد نفسه هو الآخر يعيد إنتاج النموذج نفسه، إذ يمر على بيت العائلة بشكل يومي ليطمئن على والديه، ويكرر مرات أنه مع كل يوم يمر من حياته يشبه أباه أكثر فأكثر.
أما روبن فلا يبدو واعيا كفاية بها، بل مستمتعا، غائصاً في تشابكاتها، حلمه أن تترجم روايته إلى العربية اللغة التي كانت لا تتحدث سواها “مامي باية”، “بطريركية ” الأسرة، صاحبة الشمعدان .


الأكثر شعبية



الشرع يستقبل عضو الكونغرس الأميركي كوري ميلز والوفد السوري…
