سوزان المحمود – الناس نيوز ::
تتقاطع السوشيال ميديا مع الكتاب في أمر مهم جداً ومثير، وهو كسر حواجز الزمان والمكان، فما تفعله هي اليوم فعله الكتاب منذ قديم الزمان، وربما ما وصلنا إليه اليوم هو خلاصة رحلة طويلة قام بها العقل البشري، وأحد الأدوات الهامة في هذه الرحلة هي القراءة والكتاب، أي الخيال البشري الجبار الذي حول القصص والحكايات الخرافية إلى علم عالي التقنية، إذاً ما وصلنا إليه اليوم بفعل التجربة المستمرة والبناءة كنا قد قرأنا عنه قديماً وبنينا عليه .
واليوم تلاقي السوشيال ميديا إقبالاً هائلاً، بل تكاد تكون هي الإعلام المؤثر في الرأي العام ( من حيث الانتشار الشعبي … ) وهي تتناول القصص والفيديوهات التي تلاقي انتشاراً واسعاً (فيسبوك، توتير، انستغرام، يوتوب)، بينما تتراجع القراءة الورقية ويتراجع معها عمل دور النشر التقليدية خاصةً في العالم العربي .
أما عمل الناشر المستقل الذي لديه هم ثقافي ومعرفي ، أصبح أكثر صعوبة من ذي قبل في صناعة وتقديم كتاب جيد مع انتشار طرق نشر متعددة الوسائط لها مالها، وعليها ماعليها، من حيث جودة المحتوى وفائدته أو العكس، لو نظرنا إلى الجانب المضيء من علاقة الناشر التقليدي بالسوشيال ميديا، لرأينا أنه ربما يستفيد كلٌ من الآخر، فالناشر أصبح لديه وسائل عديدة وجديدة لعرض منتجه على جمهور القراء الذين هم جزء مهم من عملاء السوشيال ميديا ( الإعلام الاجتماعي ) ، فهو يقدم لها غنى معرفي وهي تقدم له الانتشار، فأصبح القراء المهتمون يعرفون بالكتاب أول صدوره عن دار النشر، وهناك عدد من الناشرين المهمومين بالكتاب يقدمون نبذة عن الكتاب المنشور، ما يحفز القراء لشراء الكتاب بنسخته الورقية أو الإلكترونية، لكن بالتأكيد القراءة الورقية تراجعت كثيراً بسبب السوشيال ميديا، وربما أحد الأضرار التي تسببت بها هي أنها تقدم كماً هائلاً من المعلومات السريعة والعشوائية وغير الدقيقة أحياناً، وتستهلك معظم وقت العملاء، على حساب الفائدة الحقيقية التي تقدمها لهم، بينما القراءة الواعية تحتاج إلى هدوء ووقت كافٍ، ليتمكن العقل من استخلاص نتائجه الفردية الخاصة.
طالما تنقلت بنا الكتب عبر البلدان والأزمان المختلفة، تماماً كما تفعل الآن الوسائط والفيديوهات والأفلام، وساعدتنا على الاطلاع على حياة و ثقافة الآخر المختلف .
وبحسب الناشر السوري فايز علام ، صاحب دار النشر ” سرد ” فإن مهنة النشر الورقي وهمومها، تبقى شغوفة بمعرفة الآخر وتقديمه للقارئ العربي ويحاول علام كما يقول في حواره مع جريدة ” الناس نيوز ” الأسترالية الإلكترونية أن يبتعد فيما يقدمه عن الرائج والسائد، وربما يُدخل “سرد” في مسارات نشر جديدة في تقديم كتب مترجمة عن الآداب البلغارية، الصينية، الهنغارية، الهولندية، النرويجية، الفارسية، بالإضافة إلى أعمال كتاب من إثنيات مختلفة، يكتبون باللغات السائدة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وكتب لكتاب عرب .
وهنا تجدر الإشارة إلى فوز أحد الكتب التي صدرت عن دار ” سرد ” وهي رواية “الحب في القرن الجديد” لتسان شييه والتي ترجمتها عن اللغة الصينية يارا مصري فازت بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها السابعة 2021.
وفيما إذا اختلفت مهمة الناشر بين الأمس واليوم؟ يقول علام ” للناس نيوز ” أعتقد أننا ما زلنا حتى اليوم في العالم العربي نحاول وضع تصوّرات فردية وخاصة لمهمة الناشر أو مسؤوليته.

في دار “سرد”، ودار نشر مستقلة، يمكن لنا وضع ثلاثة أدوار أساسية نراها من صلب عمل الناشر. الأول، دور معرفي، يتعلق باختياره لنشر كتب جيدة فيها محتوى معرفي وجمالي، وهذه من أصعب المهمات لأنها تتطلب من الناشر متابعة دائمة وحثيثة، ومحاولة تثقيف نفسه وتطوير قراءته باستمرار.
الثاني، هو دور مقاوم ومواجه لما تسميه الكاتبة والناشرة الأسترالية سوزان هاوثورن “خطر سيطرة لون النشر الذي تفرضه مؤسسات النشر العملاقة”، وهو بهذا المعنى لديه دور في حماية ذائقة الناس من التشوّهات التي تصيبها، أو دور في تطوير هذه الذائقة.
الثالث، هو دور تقني، ويتعلق بالشغل على الكتاب نفسه، أي محاورة الكاتب أو المترجم وتعديل ما يحتاج تعديلاً إن وُجد، ثم عمليات التحرير والتدقيق وتجويد الكتاب، في محاولة للوصول إلى كتاب مصنوع بشكل جيد.
وما الذي ترغب في تقديمه للقارئ العربي من خلال سرد؟
أعتقد أن من أبرز أدوار الأدب عموماً، أنه يقرّبنا من فهم ذواتنا بشكل أفضل، عالمنا الداخلي ووجودنا ومصيرنا.
وهو يقرّبنا أيضاً من فهم الآخر المختلف، وكيف يرى هذا الآخر العالم، وما هي التشابهات بيننا وبينه، وما هي الأسئلة التي تؤرقه وتؤرقنا. وكيف يمكن لنا أن نفهم أنفسنا من خلال فهم هذا الآخر. ولذلك فإن من ضمن أولوياتنا في “سرد” أن نكتشف مع القارئ آداب اللغات التي لم يترجم عنها كثير في السابق.
ولأننا نؤمن بالاختلاف بكل معانيه ومستوياته، فإننا نرى أن الاختلاف في أسلوب الكتابة نفسه هو مطلب لنا، لذلك نحاول أيضاً اكتشاف التجارب الجديدة، تقنيات الكتابة الجديدة، والتنويع في اختيار أعمال مختلفة عما هو سائد ومرغوب في العالم العربي.
وأحب هنا أن أضيف شيئاً اكتشفت مؤخراً، أنني طوال الوقت منشغلٌ بالبحث عن معناه، كما اكتشفت أنني أحاول في الكتب التي أختار نشرها أو حتى قراءتها البحث عما يقرّبني من فهمه وفهم أبعاده، الفن. بالتحديد أكثر، الكتابة بوصفها فناً.
ما هو السبب في اختيارك تقديم المختلف؟
سؤال الحرية هو السبب. إذ لطالما أرّقني سؤال: هل يمكن أن نكون أحراراً دون معرفة؟ ما معنى الحرية إن لم يكن متاحاً أمامي خيارات لأختار من بينها ما أقتنع به أو يناسبني؟
جزء من مهمتي بصفتي ناشراً أن أتيح للقارئ أن يكون لديه خيارات أكثر. لأنه هكذا سيتمكّن من أن يكون حراً أكثر (إذا أراد).
كيف ترى واقع القراءة اليوم والنشر ؟
في هذا الزمن أعتقد أن “سوق القراءة” يطلب روايات تحوي ألغازاً محبوكة بشكل جيد، يكشفها الكاتب شيئاً فشيئاً، لاعباً على وتر تشويق مبتذل، وعلى تكرار سمج لحبكة معروفة، لكنه يغيّر عناصرها ويجري عليها التعديلات المطلوبة، لإبعاد خطر أن يكتشف القراء التشابه.
وهذا السوق يطلب أيضاً روايات تفوز بجوائز، أو تصل إلى قوائمها، وما يؤسف حقاً أن كثيراً من الأدب المهم والجريء والمبتكر يكتب بعيداً عن كل هذا. بعض الناشرين اليوم صاروا يختارون قائمة منشوراتهم بناء على متابعتهم للجوائز في العالم.
المريع في الأمر بالنسبة لي أن هذا صار معيار النجاح للناشر، بدل أن يكون المعيار هو الاكتشافات التي يقدّمها، والتي لن يستطيع القارئ متابعتها أو معرفتها لوحده. لماذا أخشى من هذا؟ لا لأني أفرض نوعاً محدداً من القراءة على الناس، ولا لأني ضد النوع السابق، ولكني ببساطة أرغب بأن يبقى هذا النوع في حدّه الطبيعي، لأن ازدياد حجمه بشكل كبير، يعني تغوّله وابتلاعه للأنواع الأخرى، وهذا برأيي يهدد قيم الاختلاف والتنوّع، ويصنع قراء يفكّرون وفق قوالب معيّنة، وتسود ثقافة اللون الواحد، وهذا في اعتقادي يهدد وجودنا الإنساني كله على المدى البعيد.
تقدم السوشيال ميديا منصات للكتاب الإلكتروني والصوتي، هل لديك نية للانتقال للنشر الإلكتروني؟.
أنا شخص تقليدي في هذه النقطة. أنا أحب الكتاب الورقي، لأنه بالنسبة لي “حالة” لا مجرد كلمات لقراءتها. أحب شكل الكتاب في المكتبة، وأحب أن تقع عيني في أي وقت على كتاب هنا أو هناك في منزلي أو مكتبي. أحب الأغلفة، وتقليب الصفحات، وشكل الخطوط على الورق. إضافة إلى كل ذلك أنا شخص يكره توحّش الآلة على حياتنا، والكتاب الورقي يمكّننا من قضاء بضع ساعات بعيداً عن هذا التوحّش.
لهذه الأسباب لا أظن أنه سيأتي يوم وأنتقل كلياً إلى النشر الإلكتروني، لكن الزملاء في الدار مقتنعون بأهمية النشر الإلكتروني وضرورته ومؤمنون بحقّ القارئ في أن يجد كتبنا إلكترونياً إذا ما كان يفضّل ذلك، ولذلك فإن كتبنا موجودة بصيغة إلكترونية وصوتية.
وما رأيك بالكتاب الصوتي؟
تجربة الكتاب الصوتي ما زالت جديدة، وأعتقد أن من المبكر الحكم عليها. شخصياً لا تغريني ولا تمتّعني. أنا أحب فعل القراءة نفسه. وأرى الكتاب عالمي الحميم الذي أفضّل دخوله لوحدي من دون شريك.

عندي مأخذ وحيد على الكتاب الصوتي، هو أن معظم الكتب التي استمعت إلى أجزاء منها بدافع التجربة والفضول كانت تحوي أغلاطاً كثيرة في النطق. وأعتقد أن هذه مشكلة بالإمكان حلّها إذا ما عيّنت الشركات المنتجة خبراء لغويين لضبط جميع حروف الكلمات، قبل أن يعطوا النصوص لمن سيقرؤها بصوته.
كيف ترى مستقبل مهنة النشر؟
باختصار ومن دون يأس مبالغ به، أو توقعات كبيرة. كنت دائماً أقول إن صناعة النشر في العالم العربي ستنقرض قبل أن تشهد ازدهاراً، وأعني بالازدهار الوصول إلى مرحلة متقنة في صناعة الكتاب، لا الازدهار المتعلّق بازدياد القراء مثلاً، لأن ازدياد القراء هو مؤشر لازدهار القراءة، والازدهار المتعلّق بازدياد عدد الجوائز، لأنه مؤشر على ازدياد اهتمام الحكومات أو المؤسسات بالقراءة، برأيي أن صناعة كتاب جيد هو المؤشر الحقيقي لازدهار “صناعة” النشر.
المعطيات في مشهد النشر العربي اليوم لا تبشّر بخير، فالفوضى تزداد والقراء النوعيّون يقلّون، والمساحات المخصصة لمراجعات الكتب في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية تقل، المكتبات تغلق أو تصغر أو تتخذ وجهات جديدة، اختيارات الجوائز العربية تنحدر، وثمة الكثير من المتطفلين على الكتابة، وعلى الترجمة، وعلى النشر. وكل ذلك لا يبشّر بمستقبل جيد للمهنة.
مع كل ذلك، وكي لا أكون متشائماً أكثر من المطلوب، أقول: إن “سرد” نشأت في لحظة شجاعة نادرة، وبعض حماس وتشجيع من الأصدقاء، وتحوّلت إلى شغف لي ولمعظم المؤسسين لها، أو المشاركين في أعمالها، ولذلك فجلّ ما أتمناه الآن أن يكون كل ما قلته مجرّد تشاؤم مبالغ فيه، وأن غداً سيكون أفضل.
الأكثر شعبية


الضمير الثقافي…

نموذج سوري: الخلاف حول اتحاد الكتاب العرب

