دمشق ميديا – الناس نيوز ::
موقع تلفزيون سوريا – عبد الناصر القادري – عند الهبوط في مطار دمشق “الدولي” سترى مجموعة من الطائرات المتهالكة التي لا تعمل تقريباً، مثل كل مؤسسة مدنيّة أو عسكرية في سوريا كان تحت سيطرة النظام “الأسدي” المخلوع.
وخلال 14 عاماً تحول مطار دمشق إلى كراج أو متحف للطائرات ذات الطراز القديم، مع خروج عن الخدمة بسبب نقل السلاح الإيراني من فينة إلى أخرى، إثر القصف الإسرائيلي المتكرر لمرافقه الحيوية.
بين سرب الطائرات المعطلة، توجد طائرتان (إيرباص) كانتا تستخدمان لنقل الركاب ونقل البضائع و”بشار الأسد” إلى بعض البلاد العربية التي زارها عام 2023، أما رحلات الرئيس المخلوع إلى روسيا وإيران والصين فقد كانت جميعها بطائرات عسكرية أو مدنية من البلد المُستضيف ومن دون إعلان رسمي، وفق الشهادات التي جمعها موقع تلفزيون سوريا.
لم تكن سوريا واقعة تحت استبداد سياسي وطغيان عسكري ودولة بوليسية فقط، بل كانت بلداً منهوبة وينخر الفساد بكل مؤسساتها، بما في ذلك الخطوط الجوية السورية (السورية للطيران).

وتعد “السورية للطيران” هي الناقل الوطني الحكومي السوري، أسست عام 1946، وله أهمية كبيرة باعتباره الوسيلة التي يمكن تأمين النقد الأجنبي إلى سوريا من خلالها، كما أنها من الشركات القليلة الرابحة في ظل حكم النظام السوري، رغم إشاعة أنها خاسرة ولا تدر أي ربح، لكن السرقة كانت تحرم البلاد من منافعها.
وكانت “السورية للطيران” واحدة من أهم 50 شركة في المنطقة، تقدم خدماتها لأكثر من 48 وجهة في آسيا، أوروبا، الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا فضلاً عن الرحلات الداخلية في سوريا، وبعد العام 2011، والعنف الذي واجه به النظام الشعب السوري، اقتصرت رحلاتها على بعض دول الخليج والدول الإفريقية والآسيوية عبر مكاتب وكلاء.
استخدم بشار الأسد إحدى الطائرتين في رحلاته القليلة إلى الإمارات وسلطنة عُمان والسعودية، وكانت تُستبدل الكراسي ويوضع مكانها كراسِ مناسبة للطيران الرسمي.
في تحقيقنا اليوم، سنتطرق إلى صفقة غير قانونية دفع مسؤولين في القصر الجمهوري ووزارة النقل لتنفيذها رغم المحاذير القانونية التي صدرت من العاملين في المؤسسة، وسنضع بين يدي قرّاء موقع تلفزيون سوريا الوثائق التي تثبت كارثية الوضع في قطاع الطيران، واستخدامه من قبل النظام لمصلحة ما يعرف بالمكتب الاقتصادي في القصر الجمهوري.
يعتمد تحقيقنا على عدة مصادر بعضها علني وآخرون فضلوا عدم كشف هويتهم لأسبابه الخاصة، مع التحقّق من كل المعلومات ونسبها إلى مصادرها الأصلية.
كيف بدأت قصة “إيلوما”؟

في الشهر الأول من عام 2023، تم تعيين عبيدة أديب جبرائيل مديراً عاماً للخطوط الجوية السورية وبقي في منصبه 11 شهراً فقط إلى أن أقيل مع مجموعة من المديرين في الشركة وأحيلوا جميعاً إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بتهم متعددة.
في دمشق التقينا مع عبيدة جبرائيل -المدير السابق لشركة السورية للطيران- حيث يؤكّد أنه أقيل من منصبه مع مجموعة من أعضاء مجلس إدارة الشركة لأنهم رفضوا بيع “السورية للطيران” إلى شركة خاصة تحمل اسم “إيلوما”، في عملية خصخصة معقّدة شملت عقود تشغيلها وعملياتها في كل مطارات سوريا، بشكل غير قانوني وبمبالغ رمزية بالنسبة لمدخولات شركة بحجم “السورية للطيران”.
بدأت القصة عندما تم استدعاء عبيدة جبرائيل بعد أسبوع من التعيين، إلى مكتب وزير النقل زهير خزيم، الذي أخبره بأن “السورية للطيران” مطروحة للاستثمار من قبل شركة خاصة “إيلوما”، وهو ما استغربه “جبرائيل”، وفق قوله، لأنّه كان يعد خطة لتطوير وضع الشركة، خصوصاً بعد التطبيع مع السعودية والوعود بفتح رحلات جوية متبادلة.
في عام 2022، أسست شركة “إيلوما” بشراكة بين ثلاثة أشخاص هم: (علي محمد ديب، راميا حمدان ديب، رزان نزار حميرة)، وهم واجهات لأشخاص نافذين في القصر الجمهوري وليس لديهم أي خبرة سابقة بالطيران.
أشهرت الشركة في تشرين الثاني من العام 2022، برأسمال معلن قدره 100 مليون ليرة سورية (مبلغ لا يتجاوز الـ7 آلاف دولار بسعر الصرف حينها)، بهدف إدارة واستثمار المنشآت السياحية وخدمات المطارات، عبر دخول مناقصات ومزايدات في القطاع العام السوري.
في النقاش الأول مع الوزير يقول عبيدة جبرائيل إنّ “الوزير لمّح إلى أن الإمارات كانت هي من تحرك الصفقة، وستتمكن من الالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية، وتُحسّن من عمل (السورية للطيران) التي لا تمتلك سوى طائرتين في الخدمة”.
وأضاف “جبرائيل” أنه “عند التدقيق في وضع الشركة، تبيّن أنها سورية مسجّلة بالكامل لدى وزارة الاقتصاد، وليست شركة إماراتية، أما الحديث عن التمويل الإماراتي، فبدا لي أنه مجرد وسيلة للتسويف أو الترويج، وربما للضغط أو التلميح بأن هناك دعماً إماراتياً، لكن، عند النظر إلى النتائج فيما بعد، لم يكن هناك أي تمويل أو إنجازات ملموسة على مدى عشرة أشهر؛ لم يتم استقدام أي محركات أو طائرات، ولم يُحسنوا وضع الأسطول”.
وتابع: “أما بالنسبة للعقد، فقد كان يفتقر إلى أي أساس قانوني صحيح، والطيران يُدار وفق منظومة عالمية، خاصة أنني في الأصل مفتش سلامة طيران، أي أن خلفيتي قانونية في هذا المجال.. لا يمكنني توقيع عقد يمنح جهة ما السيطرة على كامل الخدمات بينما الإطار القانوني غير سليم لأني سأتعرض للمساءلة فيما بعد”.
ووفق القانون السوري، هناك طريقتان فقط لاستثمار القطاع العام من قبل القطاع الخاص:
القانون رقم 2 لعام 2005 (قانون الشركات): يسمح للقطاع العام بمنح بعض الخدمات للقطاع الخاص بموجب عقد واضح.
القانون رقم 5 لعام 2006 (قانون التشاركية): يتيح للقطاع الخاص إدارة واستثمار كامل المرفق وفق إجراءات صارمة، تشمل تقديم ثلاثة عروض، واختيار الأفضل في مناقصة علنية تخضع لإشراف رئاسة الوزراء واللجنة الاقتصادية وهيئة تخطيط الدولة، نظراً لحساسية إدارة المرافق العامة بالكامل.
وبيّن “جبرائيل” أنه “عندما طرحت خيار التشاركية وفق القانون، رفضوا وأصروا على استخدام قانون الشركات، لكنهم في الوقت نفسه أرادوا كامل الخدمة، مما يعني تناقضاً قانونياً واضحاً، عرضت العقد على 17 جهة مختصة كل في مجاله للتقييم وقدّموا مذكرة تحمل رقم 828، وتتضمن أربع صفحات من الملاحظات التفصيلية، رفعناها إلى الوزارة”.
ماذا يتضمن عقد “إيلوما”؟
يتضمن عقد “إيلوما”، الاستحواذ على تشغيل كامل “السورية للطيران” بقيمة 295 مليون دولار لمدة 20 عاماً، ستحصل “السورية للطيران” على 546.5 مليون دولار خلال العقد، مع نسبة 25% من الإيرادات في أول 10 سنوات (حد أدنى 20.5 مليون دولار سنوياً)، ترتفع إلى 32.5% ثم 38.5% في السنوات التالية.
تلتزم “إيلوما” باستثمار 77 مليون دولار في أوّل عامين لصيانة الطائرات وتحديث الخدمات، ثم 132.5 مليون دولار على مراحل لإضافة 14 طائرة وزيادة القدرة التشغيلية، كما تشمل التزاماتها إصلاح طائرة “إيرباص 340” في إيران وإدارة عقود الوكلاء الخارجيين.
“وقعوا من دون نقاش”.. صفقة يقودها القصر الجمهوري
في السياق، يوضح جبرائيل أنه “عند مناقشة الأمر، جاء رد الوزير مفاجئاً: (أنتم لا تدركون أهمية هذه الشركة، هذه الشركة مرتبطة بالقصر الجمهوري.. نحن لم نُحضركم هنا للنقاش، بل للتوقيع)”.
ويضيف: “كان ذلك خلال اجتماع المديرين، بحضور زملائي الذين شهدوا الواقعة.. رددت عليه قائلاً: (سيادة الوزير، نحن نناقش لمصلحة القطاع العام، وليس لمصلحة شخصية)، إلا أن الوزير قاطعني بلهجة حادة: (ليس مطلوباً منكم المناقشة، المطلوب هو التنفيذ)”.
في الواقع، حين يُقال القصر الجمهوري، فالمقصود تحديداً هو المكتب الاقتصادي الجمهوري الذي كان يديره يسار إبراهيم، هذا الشخص هو المسؤول الأول عن الملفات المالية، بينما يتمثل الضغط القانوني والسياسي في منصور عزام، الذي يُعد صاحب سلطة أكبر في الشأن الاقتصادي مقارنة بالوزير نفسه.
وللحصول على شهادات أخرى، اتصل موقع تلفزيون سوريا، مع أعضاء في مجلس الإدارة الذين رفضوا التوقيع على عرض “إيلوما” وهم يشاطرون المدير عبيدة جبرائيل رأيه بأن العرض كان مجحفاً ويسرق المال العام السوري لصالح شركة ناشئة تتبع للمكتب الاقتصادي في القصر.
وشملت الشهادات كل من ميسون شخاشيرو مديرة التخطيط والتعاون الدولي في “السورية للطيران”، الحارث العلي مدير الرقابة الداخلية، سهيل نصر المدير القانوني، وأشخاص آخرين ضمن الخطوط الجوية السورية والطيران المدني السوري ومطار دمشق الدولي، وقد أقيل جميع هؤلاء الأشخاص بعد عبيدة جبرائيل، بتهم متعددة تبعها إنذارات خطية وتهديد من قبل وزير النقل.
وعقب ذلك، عيّن وزير النقل، حاتم كباس مديراً عاماً للمؤسسة السورية للطيران (كان معاوناً لعبيدة جبرائيل) والذي قبل بدوره العقد، واطلع موقع تلفزيون سوريا على الوثيقة التي يوقّع فيها كباس على الاستحواذ.
تقول ميسون شخاشيرو لـ موقع تلفزيون سوريا: “سبب إقالتي مرتبط بشكل مباشر ووحيد، برفضي للعرض المقدم من شركة إيلوما، لسبب عدم قانونيته وللثغرات المالية الكبيرة فيه، كمثال عدم صحة البيانات المالية الواردة فيه (ايرادات-نفقات-اهتلاكات-خطة تشغيلية…)، والأهم هو رفضي لنسبة حصة المؤسسة من الإيرادات التي تضمنها العرض والبالغة 20-25% على مدى 20 عاماً.
وتابعت: “احتسبت النسبة الصحيحة وبينتُ أن حصة المؤسسة يجب أن تبلغ 62% من الإيرادات، وذلك بموجب كتب رسمية وجهتها للوزارة، ما دفع الإدارة الجديدة لإقالتي من منصبي في شهر نيسان عام 2024 قبل عيد الفطر السعيد بيوم واحد، إمعاناً في إزعاجي والانتقام مني دون وجود أي خطأ مهني أو إداري طوال مسيرتي المهنية”، بحسب وصفها.
من جانبه، قال الحارث العلي مدير الرقابة الداخلية في “السورية للطيران”، إنهم وضعوا مديراً نفذ لهم رغباتهم وقبل توقيع العقد مع إيلوما مقابل إغلاق ملفات مفتوحة ضده، فحاتم كباس أحيل للتحقيق في عدة ملفات، أبرزها: “ملف المحركات المرسلة الى طهران وأصبحت خردة وضياع ملايين الدولارات، وملف قطع الغيار المرسلة إلى طهران 727 و747، كما تسبّب أيضاً بضياع ملايين الدولارات، كذلك ملف MMR والتزوير في عمليات الشراء وغيرها”.
وأضاف العلي في حديثه لـ موقع تلفزيون سوريا، أنه عمل على تحويل حاتم كباس إلى “الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، إلا أن ملف إيلوما أدى إلى نجاته لأنه قبل بالتوقيع عليه”.
وترى ميسون أنه في فترة استحواذ “إيلوما” على المؤسسة، يمكن تقدير المبلغ الذي دخل حساب “إيلوما” من مبيعات المؤسسة بأكثر من 50 مليون دولار، وهي فترة لا تتجاوز عام واحد فقط من التشغيل ما يدلل على حجم كارثية الاستحواذ.
أما عبيدة جبرائيل فيقول إنه “إذا أجرينا معادلة حسابية صغيرة نجد أنه كل 4 شهور تحقق السورية للطيران قرابة الـ100 مليون دولار إيرادات وليس صافي أرباح، ومنذ توقيع العقد وحتى سقوط النظام يوجد 100 مليون دولار ذهبت من الخزينة العامة مقابل هذه الشركة التي لم تقدم لا طائرة حديثة ولا قديمة ولا حتى محركات، فكانت عملية إستيلاء ونهب وسرقة إلى جيوب الفاسدين”.
ماذا قال مدير السورية للطيران الحالي حاتم كباس؟
حرصاً من موقع تلفزيون سوريا على الموضوعية وتقصي الحقيقة، اتصلنا بحاتم كباس مدير السورية للطيران الحالي، الذي رحب بنا وشرح من وجهة نظره تفاصيل العقد مدافعاً عنه، ومؤكداً أن الشركة كانت بصدد التوقّف عن العمل وعقد “إيلوما” أنقذها.
واتهم “كباس” الإدارة السابقة بإقالته من منصبه كمدير فني مع عدد من المديرين، ثم استدعي ليصبح معاوناً للمدير بعد 7 أشهر.
يقول كباس إنّ الوزير لم يهدد إنما قال: “الشركة موصى بها من رئيس الجمهورية حينها (المخلوع بشار الأسد) وأن فريق الإدارة درس العقد، إلا أن جبرائيل أقيل بتهم فساد ومشادات مع وزير النقل وصلت إلى حد الإساءة”، مدّعياً أنه “تم اختلاس مبلغ يقدّر بمليون و200 ألف دولار من السورية للطيران بين آذار وأيلول 2023″، من دون أي دليل يثبت صحة ذلك.
وأضاف كباس أنه وقّع العقد بعد دراسته بشكل مهني مع فريق ذي خبرة اختاره بنفسه، وألغى شرط الظروف القاهرة (حرب أو وباء أو عقوبات غربية)، الذي يسمح للفريق الثاني التملّص من الالتزامات، وتم رفع رواتب جميع العاملين بنسبة 100%، مشيراً إلى أن الطيارين وصلت رواتبهم إلى 11 ألف دولار بالشهر منعاً لتسربهم بما يشمل مهندسي الطيران والفنيين الجويين.
وشدّد كباس على أنه لا يعرف يسار إبراهيم ولم يلتق به بحياته، وأن واجبه بعد سقوط النظام كان إجراء اجتماع مع شركة “إيلوما” وفق شروط العقد، وذلك من خلال إرسال خطاب بريدي لموقع الشركة إلا أنهم لم يستجيبوا.
وبيّن كباس أن “السورية للطيران” لم تخسر أي ليرة سورية أو دولار لوجود حسابات مشتركة للسورية للطيران و”إيلوما” في البنوك السورية الخاصة.
ودافع كباس عن نفسه معتبراً أنه لم يخطأ لذلك لم يهرب، مشدداً أنه لا يعلم سبب اختفاء مالكي شركة إيلوما من سوريا ولا يوجد أي تواصل مباشر معهم.
أين هي “إيلوما” بعد سقوط النظام؟
في 8 كانون الأول 2024، سقط النظام وهرب بشار الأسد، لكن السؤال أين هي “إيلوما” وماذا حل بالعقد المكتوب بينها وبين “السورية للطيران”؟
حملنا هذا السؤال وبعد البحث اكتشفنا اختفاء ممثلي شركة “إيلوما” تماماً، وحصلنا على وثيقة تثبت أنه بتاريخ 15 كانون الأوّل 2024 أصدر مدير المؤسسة السورية للطيران حاتم كباس قراراً إلى مديري “السورية للطيران” في المحطات الخارجية والممثلين التجاريين والمندوبين الماليين ووكلاء المبيعات إلى عدم تحريك الحسابات المصرفية الخارجية أو البنوك الفنية المتعاقدة في الخارج لصالح أي من مفوضي أو ممثلي شركة “إيلوما” للاستثمار، إلى حين البت في الحقوق المالية المستحقة لصالح المؤسسة.
وورد في الوثيقة إلى أنه إشارة إلى العقد بالتراضي رقم /13/ الموقع بين مؤسسة الخطوط الجوية السورية (الفريق الأول) وشركة إيلوما (الفريق الثاني) المساهمة المغلفة الخاصة، المتعلق باستثمار وتطوير وإدارة وتشغيل مؤسسة الخطوط الجوية السورية، نطلب اتخاذ الإجراءات التالية من قبلكم: “عدم تنفيذ أي تعليمات واردة من قبل ممثلي شركة إيلوما، مهما كان نوعها، لحين إعلامكم من قبلنا بأي إجراءات جديدة، على أن يتم وضعنا في صورة تلك التعليمات فوراً”.
التنسيق مع المؤسسة لاستثمار دورها في تقديم خدمة النقل الجوي، وسط غياب دور الشركة المستثمرة في تسيير الرحلات الجوية من وإلى مطارات القطر، وتطوير الخدمات الأرضية والفنية للطيران العربية والأجنبية وفقاً للعقد الموقع معهم، وبالتالي سيتم إعلامكم بإجراءات التشغيل اللاحقة من قبلنا، ما يعني أن “إيلوما” بإدارييها وشخوصها ومستثمريها اختفوا مع هروب الرئيس المخلوع وعائلته والذي اصطحب معه منصور عزام ويسار إبراهيم.
لم يكن مالكو “إيلوما” سوى واجهات لشخصيات أمنية، حيث علي وراما ديب من محافظة اللاذقية وعلى صلة باللواء “ناصر ديب” الذي كان يشغل منصب نائب وزير الداخلية، وأحد مؤسسي شركة “سند للحماية الأمنية” ولديه نشاطات تجارية أخرى، بحسب مصدر في مطار دمشق.
أمّا رزان حميرة المنحدرة من اللاذقية أيضاً، فهي على صلة مع علي نجيب إبراهيم أبرز المقربين من يسار إبراهيم، الذي كان يملك نصف أسهم شركة “وفا تيليكوم” التي تملكها إيران، إلى جانب شراكة رزان حميرة وراما ديب في شركات متعددة أخرى، وفق مصادرنا.
من هو يسار إبراهيم؟
لم يهرب بشار الأسد وحيداً، وبالطبع لم يأخذ الذين رخصوا “إيلوما” معه أيضاً، الرئيس المخلوع فر بصحبة عائلته المصغرة ومنصور عزام ويسار إبراهيم، وهما بيت سره المالي، بحسب صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية.
المصادر اعتبرت أن اختيار هؤلاء المرافقين يعكس تركيز “الأسد” على حماية ثروته المهرّبة بدلاً من أفراد عائلته (أخوه وأقاربه)، الذين فرّ كل منهم لاحقاً بطرق مختلفة.
وتصف مصادرنا أن يسار إبراهيم كان ممثل المخلوع بشار الأسد مع شركات إيرانية للاستحواذ على المفاصل الحيوية في سوريا، ويحمل صفة “مساعد بشار الأسد”، وهو من مواليد اللاذقية عام 1982.
بدأ اسم يسار إبراهيم في التداول لأول مرة، منتصف العام 2018، مع تكليفه بمتابعة مكتب “الشهداء” في وزارة الدفاع، الذي يقدم مساعدات لذوي قتلى النظام السوري، وكان يدير إمبراطورية من الشركات بعد الاستحواذ عليها من أصحابها، تمتد على قطاعات اقتصادية عديدة مثل الاتصالات والبناء والعقارات والنفط والسياحة والأمن الخاص، بعضها مسجل في سوريا ولبنان، والبعض الآخر في جزر الكايمان التابعة لبريطانيا.
يمتلك يسار إبراهيم وشقيقته نسرين عشرات الشركات، منها شركة البرج للاستثمار، وشركة زيارة للسياحة، والشركة المركزية لصناعة الإسمنت، وشركة كاسل انفستمنت القابضة، ومؤسسة بازار، وشركة وفا للاتصالات، والعهد للتجارة والاستثمار، وتعمل هذه الشركات في معظم المجالات والقطاعات.
عُيّن يسار إبراهيم مديراً للمكتب المالي والاقتصادي في رئاسة الجمهورية، مع بداية الخلاف بين بشار الأسد وأسماء من جهة ورامي مخلوف من جهة أخرى، وينسب إليه فرض مبالغ على رجال الأعمال الجدد الذين ظهروا في فترة الحرب.
وسبق أن استهدفته العقوبات الأميركية عام 2021، وقال عنه وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، إن استهداف إبراهيم بالعقوبات “جاء لجهوده في منع أو عرقلة حل سياسي للنزاع السوري الذي اندلع عام 2011″، مشيراً إلى أن إبراهيم استخدم “شبكاته في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه لإبرام صفقات فاسدة تثري الأسد، بينما يموت السوريون من نقص الغذاء والدواء”.
في منتصف العام 2024، وتحديداً بعد فترة وجيزة من مقتل لونا الشبل (مستشارة بشار الأسد الخاصة وأحد أجنحة القصر الجمهوري المقربة من روسيا)، نجا يسار إبراهيم من محاولة تسميم.
ما الذي يدفع موظفاً يقبض 20 دولاراً للبقاء في مؤسسة فاسدة؟
بلا شك، ليس جميع الموظفين في سوريا فاسدين أو مرتشين. ومع ذلك، فإن الرواتب التي كان يمنحها النظام للموظفين في مناطق سيطرته لم تكن تكفي سوى لأجرة الطريق أو لبضعة أيام على الأكثر.
هذا الواقع دفع كثيرين إلى البحث عن وظائف إضافية أو أعمال حرة إلى جانب عملهم الحكومي، الذي ينتهي مبكراً، وفي المقابل، لجأ البعض إلى ممارسات غير قانونية، مثل قبول الرشاوى تحت مسميات ملطفة كـ”خدمة” أو “وساطة”، لتأمين مصدر دخل إضافي.
سألنا معظم من التقينا بهم بما يخص هذا التحقيق عن السبب “الذي يدفع موظفاً يقبض 20 دولاراً للبقاء في مؤسسة فاسدة؟”، تباينت الأجوبة، وكانت تؤكد أن الراتب لا يكفي شيئاً، ولكن في “السورية للطيران” يمكن للبدلات الخارجية أن تؤمن مبلغاً شهرياً محترماً قد يصل أحياناً إلى ألف دولار وسطياً بالشهر، ولكن قد يُحرم منها الشخص لأنّه رفض التوقيع على عرض “إيلوما” أو أي عروض شبيهة، بحسب عبيدة جبرائيل.
ولفت إلى أنه لمنع تسرب الطيارين السوريين من البلد، خصوصاً مع إمكانية تحصيلهم لعقود في الخليج، فالطيّار السوري يوفد إلى شركة “أجنحة الشام” الخاصة لمدة معينة فيقبض بالدولار وقد يصل راتبه إلى 5 آلاف دولار شهرياً.
الحارث العلي، أجاب أن بقاءه في المؤسسة، كان حباً بالبلد، وفي “السورية للطيران” التي هي وطنه الثاني، أمّا ميسون شخاشيرو فقد أوضحت أن السؤال جيد جداً بالنسبة لها، فالمؤسسة كان جهاز الإنعاش الوحيد الذي يضخ الأوكسجين للبلد من خلال القطع الأجنبي من المبيعات الخارجية أو تذاكر السوري غير المقيم.
وأضافت أنها حاولت أن يتخلل العمل إيفادات خارجية مؤقتة لعدة أيام لحضور مؤتمر أو دورة تأهيلية مهنية، وأيضاً يتقاضى الموفد التعويض عن هذا الإيفاد بالدولار مما ينعش دخله المتهالك، مردفةً: “لكن بسبب مناهضتنا لعرض شركة إيلوما، تمت معاقبتنا من قبل الوزير بحرماننا من هذه الإيفادات نهائياً حتى لو كانت من صلب عملنا”.
أين تتموضع “أجنحة الشام” في قطاع الطيران؟
كان قطاع الطيران في سوريا متهالك وقديم ويحتاج إلى قطع غيار، إلا أنه بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على النظام، منذ العام 2004، استمر في خسائره ونزيف القطاع.
وفي عام 2007 سمح المخلوع بشار الأسد لابن خاله رامي مخلوف بتأسيس شركة طيران خاصة، ووضع محمد عصام شموط غطاء له بنسب مالية معينة، وأصبحت “أجنحة الشام” أقوى من “السورية للطيران” في النفوذ والإمكانيات، خصوصاً خلال العقد الأخير.
ويقول مصدر داخل الطيران المدني السوري، إن شركة “شموط” لها نسبة من الأموال المشغلة، إنما الإدارة كانت عند رامي مخلوف، لكن الخلاف بين الأخير وبشار الأسد وسيطرة أسماء الأسد على قطاعات الاقتصاد بعد وفاة أم الرئيس المخلوع أنيسة مخلوف، أدّى إلى الحجز على أموال شركة “أجنحة الشام” بتهمة عدم سداد مستحقاتها للدولة بمبالغ تتجاوز الـ20 مليون دولار، ثم أسندت الإدارة الكلية إلى مجموعة “شموط” التجارية بالتعاون مع المكتب الاقتصادي في القصر الجمهوري.
كانت “أجنحة الشام” ناقل أساسي للميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية بين دمشق وإيران، وفي 3 كانون الثاني 2020، استهدفت الولايات المتحدة موكب قاسم سليماني وعدد من قيادات الحشد الشعبي العراقي التابعين لإيران بينهم أبو مهدي المهندس، كان سليماني قد استقل طائرة “أجنحة الشام” من دمشق إلى بغداد، وقُتل قبل إقلاعها بدقائق.
وتمكنت “أجنحة الشام” من التفرّد بقطاع الطيران الخاص في سوريا، وعرقلة ترخيص أي شركة منافسة أو المضاربة على الشركات التي تمكنت العمل، حيث تم الترخيص لتسع شركات طيران خاصة، بين عامي 2007 و2020، جميعها لم تعمل باستثناء شركة “فلاي داماس” التي استأجرت طائرة مع كوادرها ومشغليها من السودان لمالكها عمار القادري، الذي أُغلقت شركته ولُوحق قضائياً وحُجز على أملاكه بتهم التعامل بالدولار وعدم إيفاء شيكات مالية وغير ذلك، ما جعل حصرية العمل وحده لصالح “أجنحة الشام”، التي فُرضت عليها عقوبات أميركية، عام 2016، بسبب نقلها مليشيات موالية للنظام إلى سوريا، وساعدت المخابرات العسكرية للنظام على نقل أسلحة ومعدات.
وبحسب تقرير صادر عن الخزانة الأميركية، نهاية العام 2016، أسهمت “أجنحة الشام” عبر رحلاتها بين دمشق ودبي، في غسل أموال لصالح المخابرات العسكرية، كما كشف تحقيق لوكالة “رويترز” في نيسان 2018، عن تفاصيل كثيرة لكيفية نقل متعاقدين روس (مرتزقة) إلى سوريا، لمساندة النظام.

كذلك، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات (إجراءات تقييدية) على النظام البائد، في كانون الأول 2021، شملت 17 فرداً و11 كياناً، بينها “أجنحة الشام”، بسبب ضلوع الأفراد والكيانات في تسهيل عمليات العبور غير القانونية للمهاجرين من عدة دول إلى الحدود البيلاروسية- البولندية، واتهمها الاتحاد الأوروبي بزيادة عدد الرحلات الجوية من دمشق إلى العاصمة البيلاروسية مينسك، منذ صيف 2021.
لكن في 18 تموز 2022، شطب الاتحاد الأوروبي “أجنحة الشام” من لائحة العقوبات، وبالتحديد من قسم “الأشخاص الاعتباريين والمنظمات والهيئات”، حيث شطب اسم محمد عصام شموط من قائمة العقوبات الأوروبية.
هل هناك ملفات فساد أخرى؟
عانت “السورية للطيران” من فساد مستشرٍ، وكانت جميع مصادرنا تؤكد أن الفساد في القطاع كان كبيراً، لكن المبشر أن الشركة لم تسجل أي حادث خلال عقود عملها، ما يجعلها جيدة ضمن معايير سلامة الطيران والملاحة الجوية.
وتؤكّد ميسون شخاشيرو أن أبرز ملفات الفساد على الإطلاق هي عقد “إيلوما” مع كل الإجراءات التي تم اتخاذها من قبل الوزارة ومن خلفها، للتسبب بعجز المؤسسة لتسويغ العقد.
وأضافت لـ موقع تلفزيون سوريا: “من خلال معلوماتي خلال فترة عملي كمديرة وعضو مجلس إدارة أنوه لبعض نواحي الفساد، مثل عقد تزويد طائرات المؤسسة بجهاز MMR وهو جهاز ملاحي بقيمة أكثر من 800 ألف دولار في حين أن قيمته الحقيقية نحو 300 ألف دولار، إلى جانب عرقلة الوزارة لاختيار وكيل عام تشغيل للمؤسسة في المملكة العربية السعودية لمآرب الوزارة الخاصة مما أدى لتأخير التشغيل لأكثر من 8 أشهر وفوات المنفعة خلال هذه الفترة”.
وأشارت إلى وجود تعيينات مخالفة للأنظمة وللمعايير القانونية والإدارية لأشخاص بعينهم، يوجد بحقهم تقارير رقابية وعقوبات رقابية، أو لأشخاص موجودين في مفاصل معينة دون كفاءة أو تأهيل وهم أذرع لإيلوما وللوزارة، مع أن البديل المؤهل وفق المعايير موجود، لكنهم يعرقلون وصوله لحقه، بدعم من الإدارة والوزارة، حتى لا يفقدوا مكاسبهم وتسلطهم على المؤسسة والعاملين”.
كذلك، تحدثت عدة مصادر في “السورية للطيران” على أن الإيفادات الخارجية كانت تذهب دائماً إلى غير أصحاب الحق، بل لمن يدفع أكثر للإدارات العليا أو لأجهزة المخابرات التي لها سلطة عليا، مؤكدةً إيفاد موظفين خارجيين في محطات عمل لم تنفذ رحلة جوية واحدة خلال قرابة عقد كامل، وحصلوا على رواتبهم بالقطع الأجنبي.
من جانبه، قال الحارث العلي مدير الرقابة الداخلية: إنّ “الشركة شهدت سرقات كثيرة، في ملفات المطبخ والملف التجاري وملفات الشحن والآليات، ولكن الأكثر فساداً كان في قطع غيار الطائرات، حيث كانت الوزارة والإدارة شركاء في عمليات الشراء المخالفة ولم تسمح لنا المخابرات الجوية بالدخول إلى الشؤون الفنية لمتابعة الملفات، ما يؤكد وجود مخالفات وفساد هائلة”، وفق وصفه.


