سلوى زكزك – الناس نيوز ::
العاشرة صباحاً، رجل يتدثر بغطاء صوفي مستهلك وشبه مهترئ، المكان شارع العابد، قدما الرجل محشورتان في حذاء أسود عتيق وضيق وبلا جوارب، لا ملامح واضحة للرجل، لأن الغطاء الرث يغطيه من رأسه حتى قدميه، لكننا فجأة نسمع صوته: “بدي شاي بسكر”! فجأة يرتجف الغطاء وينسحب عن جسد الرجل، نتعرف إلى رجل سبعيني، نحيف الجسم، يعاود الصراخ: “أي شيء سخن! سأموت من البرد”.
اعتاد الجميع على رؤية الرجال والنساء كبار السن وحيدين في الشوارع، متعبين وجائعين ويرتجفون من البرد، والأصعب أنهم ينامون في الشوارع.
على زوايا الأرصفة نجدهم، وقد مدوا قطعاً من الكرتون تحت أجسادهم وتغطوا بأغطية لا ترد البرد، يضع المارة ما يتيسر لهم، بسكويت، فطائر، نقود وعصائر، لكن المأوى يبقى حلماً غير قابل للتحقق والراحة مستحيلة.
في البرامكة ( وسط دمشق ) رجل مقطوع الساق، يصرخ بأطفال مشردين يحاولون سرقة عكازه، يشتمهم، لكنهم يضحكون، يرميهم بحجارة صغيرة وضعها بجانبه تحسباً لهذه اللحظات، يرفض صحن غزلة ويقول لطفلة وضعته أمامه: “ما فيني آكل حلو، بدي دوا”، تترك الطفلة صحن الغزلة وتمشي خائفة، تتقدم سيدة عابرة، تأخذ الصحن وتقول للرجل سامحنا! يصرخ “خديه أحسن ما ياكله النمل”.
هل نكتفي بسرد الحكايات وتصوير كبار السن في منافيهم المتوحشة؟ لا السؤال يكفي ولا يفيد، ماذا بوسعنا فعله، ودور الرعاية لا تتجاوز عدد أصابع الكف الواحد وممتلئة أو أنها مكلفة جداً، حتى دور الإيواء باتت حلماً تعجز عنه الغالبية، وقد وصلت أجرة الغرفة الواحدة في أحدها إلى 300 ألف ليرة سورية شهرياً.
وقد يضطر بعض الأبناء وخاصة المسافرين إلى وضع أهاليهم في دور العجزة مع مرافق نتيجة حالة مرضية معينة ما يضاعف الكلفة الشهرية التي قد تتجاوز المليون ليرة.
في القصاع ( حي سكني في دمشق ) امرأة محنية الظهر، صوتها حاد لكنه عال ويقطع نياط القلب، تطلب مالاً لرعاية أحفادها كما تقول، وتضع كل ما يمنحونه لها في كيس معلق على ظهرها، تجر نفسها وتمشي بطريقة تظنها أنها ستقع في كل لحظة، ليس مهما صدق روايتها، ولا مبرر تسولها أو سبب ترنح جسدها، المطلوب أن تجد مأوى كريماً وآمناً وصحيا، حتى لو كانت تمتهن التسول! فمن يقبل بوجود سيدة سبعينية في الشارع في مساء بارد وثقيل ومعتم.
حكاية فقدان المأوى باتت مألوفة، لكنها رغم ذلك تشبه الطعنة العميقة في القلب، هل جربتم مجالسة كهل يفترش الرصيف وسؤاله عن حاله، سيقول لكم قبل أي سؤال: “كان عندي بيت ومستور” سيبكي مفتقداً أغراضه ولون باب بيته ورائحة مطبخه وضجيج عائلته، البيت يوازي الروح والملكية تعني الكرامة! ستسمع كل هذا وأكثر، والحقيقة أنك في هذه اللحظة تصير مشرداً مثله، يجمعكما عبء الخذلان وذل الحاجة، وقساوة الحرمان من سقف وجدران وباب، يقول أحد كبار السن: “أشتهي الاغتسال وثيابي النظيفة”، يحصي لك طبقات الملابس التي يرتديها، ويقول: “كلها شحادة وأقرف منها”!
في سوق الخجا تطلب سيدة متقدمة في العمر كيس نايلون سميك، يسألها الشاب عن طلبها بشكل تفصيلي، تجيبه لهذا؟ وتريه ما تحمله بين يديها، كيس مهترئ يضم كفنها، تخيلوا أن تسير امرأة في الشارع وهي تحمل كفنها، وكل ما تتمناه أن تجد كيساً سميكا يبقي الكفن نظيفا وصالحا للاستخدام، يمنحها الشاب كيساً واسعاً ومتماسكاً وآمنا، تشكره بشدة وتبكي عندما يرفض قبض ثمنه، ويضيف: “الله يطول بعمرك يا أمي”، فنبكي جميعنا.
ربما تظهر الشوارع الحالات المرة لكبار السن، لكنها ليست الحالات الوحيدة، فكم تخفي الجدران والأبواب المغلقة قصصاً لمتقدمين في العمر وخاصة من النساء، يستجدين لقمة ساخنة، أو رفقة تؤنس وحشة الوحدة، أو معالجة المرض أو آلاماً تداهم أجسادهن مجتمعة بصورة قاسية ومؤلمة.
من واجهة أحد المنازل الأرضية ألمح سيدة تقلّم أظافر والدها، يبدو مذعوراً وممتناً في الوقت نفسه، أتذكر والدي وكيف كان ينتظرني لقص أظافره، أتذكر حديثه الأخير مع ابني المسافر حين قال له: “وجهي يشتاق أصابعك لتلتقط منه الشعيرات البيضاء”!! تبدو المشكلة إذن ليس جحود الأبناء ولا قسوة الآباء، هي في الحقيقة مأساة خارج قدرة البشر على تأمينها بالحد المطلوب، والأهم متى سيحين الوقت أو يتنبه القادرون على حماية كبار السن من نهايات مأساوية، كما الرجل الذي مات متجمداً من البرد في كراج القدموس منذ حوالي الأسبوع.
والموت ليس النهاية المأساوية الوحيدة، فقد كانت امرأة ستينية تجلس على حافة رصيف في ساحة العباسيين تترجى الموت لترتاح، كانت بشعر أشعث ومعطف يوازي ضعف حجم جسدها وبحذاء بيتي بلاستيكي، تبكي وتخمش وجهها بأظافرها القذرة والجارحة.
يطول الحديث عن كبار السن، بعضهم محاط بالعناية والاهتمام والبعض الآخر مرمي في ظروف لا تليق بالإنسانية، يفترشون الطرقات ويخافون دبيب النملة، اليوم ومنذ ساعات كتبت سيدة مناشدة لأصحاب الخير والهمة لمساعدة رجل مسن ينام في حديقة عرنوس ويشكو من التهاب حاد في قدميه، وبعد ساعتين طمأنت اًصدقاءها وأعلنت أن مستشفى الطلياني استقبل الرجل وهو يحتاج علاجاً طويل الأمد لشفاء قدميه، والأهم بعد الشفاء الذي نرجو أن يتم سريعاً، نعيد طرح السؤال المؤرق، إلى أين سيعود هذا المسن؟ إلى الرصيف حيث لا دفء ولا نظافة ولا طعام ولا عناية طبية أو اهتمام عاطفي؟؟
حين تتناسل الأسئلة الموجعة دون أجوبة، يضيق المكان ويتلاشى الأمان، وكل ما ترجوه البشرية ضماناً للشيخوخة، عيشاً بلا تشرد وجدراناً غير قابلة للزوال، وسقفاً حامياً، وبشرياً يسأل ويتابع، نظام تكافل اجتماعي أو ضمان صحي، أو على الأقل غرف مجانية في دور الإيواء مرتفعة الأجور.
دمشق
3 فبراير/شباط فبراير 2022