عمر قدور – الناس نيوز ::
حدث ذلك في منتصف رمضان، ربما أتذكره الآن لأنه شهر رمضان الآن أيضاً. زوجة حسن في القصر، بعدما قبلتُ طلبها مقابلتي، أو بالأحرى الرجاء الذي تضمنه الطلب. لم أوافق عليه مباشرة، قلت للقصير مدير مكتبي أن يذكّرني به بين الحين والآخر، ثم طلبت منه أن يتوقف عن تذكيري وأن يحدد لها موعداً بعد سبعة شهور، بحيث لا تصلها الموافقة قبل ستة شهور.
طلبت من “القصير” أن يصدر توجيهاتي بمراقبتها خلال الشهور القادمة، ومراقبة المقربين منها، خاصة شقيق زوجها المتثاقف المتشاعر. أردت معرفة ما قد تقوله وهي في الانتظار، هل ستشتمني بسبب تأخر الجواب؟ هل ستصفني بالجاحد الذي نسي الخبز والملح؟ الجاحد الذي قتل زوجها، ثم اعتقل ابنها؟ هل ستقول شيئاً مما تود قوله أم ستعض على جروحها وتصمت من أجل ألا يلقى ابنها مصير أبيه؟
نجحتْ في الامتحان، لم تقل طوال الوقت سوى أن غايتها استعادة ابنها من المعتقل، وأن ما حصل لأبيه قد مضى وانقضى ولا تريد الخوض فيه. لم تتحدث عني بسوء أو بخير، كانت تقول لمن يسألها أن المهم هو قبولي مقابلتها، فإذا قبلتُ فذلك يعني الإفراج عن ابنها. تؤكد على أملها بتصميم: في هذه المقابلة لن يتكرر ما حدث مع أخيه رفعت.
أقول لنفسي: هذه المرأة تستحق استعادة ابنها لسببين، سعيها الذي لا يكلّ من أجله، ونجاتها من عقاب رفعت بعد تلك المقابلة.
اتفقت زوجة حسن وشقيقه على الذهاب إلى رفعت الذي كان يزور الضيعة في ذلك الصيف، ليتوسط من أجل إطلاق سراحه. كان مفهوماً أن اعتقاله لا يمكن حدوثه إلا بأوامر مني، وكنت قد أمرت بذلك بعد أيام قليلة من مجيئه منهياً بعثته الدراسية في الاتحاد السوفيتي. وهو قد عاد مطمئناً، وكأنه لن يلقى جزاء شتائمه لي هناك، أمام أصدقائه وغير أصدقائه.
علمت لاحقاً أن تلك الروسية أصرت على الذهاب مع حماتها وعم زوجها، بعدما وافق رفعت على استقبالهما. حاول العم إقناعها بعدم الذهاب، ربما بسبب صيت رفعت كمهووس بالنساء، وهي على كل حال لا تعرف العربية لتشارك في الحديث أو تفهم ما يُقال. في حديقة الفيلا، في الضيعة، راح رفعت يستمع إليهما يشرحان ما أتيا من أجله، بينما عيناه تنظر إلى الروسية أكثر مما تنظر إليهما.
بصرف النظر عما سمعه أو لم يسمعه حقاً، وعدهما خيراً وهو ينظر إليها، فنطقت بالعربية: كذّاب. إذا كانت تعرف معناها فهي بالتأكيد لا تعرف عواقبها، ومن المؤكد أن رفعت كان في أفضل مزاج له، فاكتفى بإشاحة وجهه عنهم مشيراً بيديه أن “اذهبوا فوراً وإلا”. جرّتها حماتها ليسرعوا بالخروج قبل أن يغير رأيه.
سيأتي وقت يُقال فيه أنني قتلت حسن بسبب قصيدة له، وأثناء التعذيب قطعوا له لسانه بسببها! لا أذكر جيداً، ربما قلت لهم أن يقصوا لسانه من دون أن أقصدها حرفياً، وبالتأكيد ليس بسبب قصيدته السخيفة تلك. أنا لم أطلب قتله، هو الذي لم يتحمل الاعتقال، وهو الذي فضّل التعذيب على كتابة رسالة اعتذار مني. فيما بعد بسنوات طويلة حدث هذا لمنير أيضاً، أخذوه فور وصوله إلى المطار بناء على توجيهاتي، المفروض أنها “شدة أذن” خفيفة، لكن جسده خذله. توسل الضباط إلى أطباء المستشفى كي ينقذوه، فأبى أن يعيش.
أرسل لي حسن رسالة يوبخني فيها بسبب تدخلي في لبنان، هذه هي خطيئته النكراء. لست بلا قلب كما يُشاع عني، وكنت لأسامحه لو أبدى رأيه بأدب، لو على الأقل لم يكتب بتعالٍ وتكبر لم يُظهرهما لي على هذا النحو أيام جمعتنا الصحبةُ ورفقة الحزب. بل أذكر كم كان لطيفاً ومتواضعاً معي، هو ابن العائلة الكبيرة المعروفة، وكم كان هو وزوجته كريمين عندما كنت أزوره في بيته.
لم يكتفِ بالرسالة، فراح يهاجمني في جلساته، ويتحدث عنها، أو يقرأ عبارات منها، كي يُظهر أمام مستمعيه جرأته، واحتقاره لي. لست أنا، هو من نسي الخبز والملح، وعندما أخبروني بموته في السجن لم أفرح لأنه نال جزاء التطاول عليّ. أخيراً، لم أنسَه عندما أصدرت مرسوم تعويض ضحايا الإخوان المسلمين ببيت وخمسين ألف ليرة، فغششت لتستفيد عائلته باعتباره قتيلاً من ضحايا الإخوان.
ذلك التعويض لم يملأ فم ابنه حيث كان يدرس، فراح يشتم ويقول إنني قتلت أباه. يتشدق خاصة ببيت من قصيدة أبيه: “علا برتبته لص ورتبته.. من سوئه انخفضت، ولتخجل الرتب”. يتحدث عني بفوقية ابن العائلة الكبيرة، غير مدرك انقضاء زمنهم، وزمن حزب البعث الذي تحدث أبوه غيرة عليه، وها هو الابن يرث منه تلك الشعارات القديمة المضحكة. حسناً، لتكن تهمته إذن الانتماء إلى “البعث العراقي”، وليدفعْ ثمنها الباهظ.
كانت أمه جالسة منطوية على نفسها قليلاً في صالون القصر الشاسع، تأخرت عليها قرابة الساعة من دون أن يكون لدي ما يشغلني. وقفتْ عندما دخلتُ، ولم تعد إلى الجلوس إلا لما طلبت منها ذلك، هذه بداية مشجعة. رحت أسألها أولاً عن الضيعة، وكيف صارت أحسن من قبل حكمي، فأثنت على التغيرات وعلى عدم نسياني أهل ضيعتي.
عزّيتها بزوجها، فأطرقت برأسها بصمت، ثم تمتمت بأن ما مضى قد مضى. اعتذرت منها لأنهم لم يقدّموا لها الضيافة، ذكّرتها بأنه شهر رمضان، وليس من اللائق فيه تناول الشراب أو الطعام في مبنى للدولة. ذكّرتها بأيام زمان، عندما كنت أزورهم وآكل من يدها طبخات مثل “الهريسة” أو حتى “البرغل المنقّع” الذي كان يحبه زوجها. تمنيت لو أن اللقاء في بيتي كي أستضيفها بما يليق بكرمها الماضي. كنت أطيل الحديث عمداً قبل الوصول إلى ما جاءت لأجله، بينما أرى شفتيها تجفّان في انتظار تلك اللحظة.
سألتها: ألم يدرس ابنك في مدارس هذه البلد؟ أجابت: أي والله.. بفضلكم. ألم يأكل من خيراتها؟ – أي والله.. بفضلكم. ألم ترسله الدولة بعثة يتمناها آلاف الطلاب؟ – أي والله.. بفضلكم. أسألها: لماذا إذن بعد كل ما فعلته الدولة من أجله يهاجمها؟ وكيف تسول له نفسه التعاون مع الأعداء ضد بلده الذي أكل من خيراته؟ تجيب بأنه شاب طائش أخرق، وربما وسوس له أناس يريدون الشر للبلد. تتمنى عليّ الرأفة به، إن لم يكن به فبها هي، وتكفيها مصيبتها بمقتل حسن. أنظر إليها ببط، أحدق في عينيها فتخفضهما وتنتظر ما تظنه دهراً حتى أنطق بحكمي الأخير.
“اللي متل ابنك مات”، ما أن نطقت بها حتى انتفضت فاقدة صوابها وهي تصرخ: أيليييييه.. تزعق بها من فم ناشف وهي تندب: مات؟ مات؟ هُرع الحراس والخدم، وقد ظنوا أن مكروهاً حلّ بي، ولا أدري ماذا ظنوا وقد رأوني أحاول تهدئتك، وهي لا تستوعب الفرق بين “ابنك مات” و”اللي متل ابنك مات”! طلبت لها كأس ماء، وأعدت الشرح لتفهم أنني سأعفو عن ابنها من الإعدام لا من السجن فحسب.
كانت تنظر إلي بعينين زائغتين، وكنت أتهيأ لإنهاء اللقاء. هل تخطر في بالكم الآن، بعدما تلاعبتُ بأعصابها، نهايةٌ من تلك النهايات السعيدة؟ كأن أكون قد أتيت بابنها وهو ينتظر خارجاً؟ أو أنني سأرسل من يصطحبها إلى المعتقل كي تستلمه؟
هذا ليس أسلوبي البتة، قلت لها: في العيد سيكون عندك. نظرت إليّ وكأنها غير واثقة مما أقول، فأكدت لها: بعد أسبوعين، في العيد، سيكون عندك.
فقط في الأفلام تحدث تلك النهايات السعيدة. في الواقع لا ضير، بعد كل ما قاستْه، في أن تتعذب أسبوعين إضافيين، وهي غير واثقة من وفائي بوعدي.