نحن الصحافيون نعرف تماماً، اللحظة أو الحادثة الأبرز في حياتنا المهنية، التي جعلت منا صحافيين، حادثة ولحظة بذاتها لا تمحى من ذاكرتنا، قذفت بنا بعيداً في لجة المهنة، إنها لحظة تشبه حال شخص كان يمشي في طريق مستقيم ويعتقد أنه هو الطريق الطبيعي والسليم، ثم لسبب ما يجد نفسه مجبراً على المشي بطريق آخر، فرعي ربما، لكنه سيكتشف بعد حين أنه الطريق والقرار الصحيح.
هذا ما حصل معي حرفياً حين تخرّجت من كلية الصحافة بمعدل وعلامات جيدة، ومثلي مثل بقية زملائي خريجي الدفعة الثانية في الكلية، التي كانت مجرد “قسم الصحافة” تابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق؛ لم يكن أمامي سوى الصحف الحكومية الرسمية، أما التلفزيون العربي السوري، فهو حلم وهدف صعب التحقيق والمنال لخريج مثلي قادم من محافظة بعيدة ومنسية اسمها إدلب.
لم يكن لهذه المحافظة من ضابط كبير في الاستخبارات أو حزب البعث نذهب إليه من أجل واسطة وتوظيف، وحتى لو كان موجوداً، فكيف سيصل إليه أهلي، ومن أين سيأتون بثمن ما يمكن حمله من هدايا ورشوة؟ لأجل كل ذلك، تواضعت قليلاً وحلمت باختراق محدود، مجرد وظيفة في صحيفة حكومية من بين الصحف الثلاث: البعث، تشرين، الثورة. لم لا وقد استطاع جلّ زملائي الخريجين حجز مكان لهم في هذه الصحيفة أو تلك، وبعضهم حطت به الأقدار والواسطات في وكالة سانا للأنباء.
حاولت وتقدّمت بكل براءة، كأي خريج بعلامات جيدة، كأي مواطن له حق في الوظيفة لكن دون أي نتيجة.
خلال محاولاتي تلك، عادت بي الذاكرة للسنة الجامعية الأولى حين تقدمت باستمارة للسكن الجامعي، كانت كل الشروط متوفرة، فسكن طلاب كلية الصحافة مؤمّنْ لسكان المحافظات البعيدة، وأنا طالب صحافة أتيت من محافظة بعيدة ومنسية اسمها إدلب، لكن فيما بعد لم يردّ أحد على استمارتي، وكنت أنظر كل أسبوع بحسرة لكل قوائم المقبولين بالسكن الجامعي، عشرات القوائم صدرت ولم أرَ اسمي بينهم، فيما بعد، أدركت أن السبب قد يكون إدلب ذاتها.
شرحت لأهلي ما يجري، كنت محبطاً جداً، فما كان من أحد إخوتي المتطوع في الجيش إلا أن تفتّق ذهنه عن فكرة طلب المساعدة والواسطة من “أبو فراس” المساعد أول في القصر الجمهوري، هكذا أخي قال، إنه مساعد أول في القصر الجمهوري من مدينة الدريكيش في طرطوس.
ذهبت مع أخي المساعد أول أيضاً، والذي يخدم في أحد المطارات الصحراوية، إلى منزل “أبو فراس” في ضاحية قدسيا، محمّلين بتنكات الزيت والزيتون وصابون الغار والزعتر الحلبي والشعيبيات الإدلبية، يعني ما قيمته مصروف أسرتي لشهر أو شهرين، ثم تلت تلك الزيارة لـ”أبو فراس” زيارة ثانية وثالثة، كنا نحمل له فيها ما يمكن حمله، إلى أن حصل الاختراق الرائع وتم قبولي بالسكن الجامعي، مثلي مثل أي مواطن وطالب تخرّج بعلامات جيدة ويستحق السكن كونه من محافظة بعيدة.
الفيلم ذاته يتكرر بعد التخرّج، لكن هذه المرة القصة أكثر تعقيداً، إنها مؤسسات صحافية أخطر من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سي آي إيه، إنها صحف البعث وتشرين والثورة ووكالة سانا والتلفزيون العربي السوري.
وما زاد الوضع تعقيداً ويأساً أنه لم يعد بإمكان الأهل مالياً حمل تنكات الزيت والزيتون وأكياس صابون الغار والزعتر الحلبي وشعيبيات إدلب، كان أهلي بعد تخرّجي في حال من الفقر الشديد. عدا عن ذلك، لم يكن لنا نحن أهل إدلب ضابط في المخابرات، ولا مسؤول في الحزب يمكننا طرق بابه، كانت مشكلتنا نحن أهل إدلب أننا من إدلب.
في لجّة اليأس اقترح أحد أقربائي أن يتحدث مع خاله، وهو ضابط آشوري كبير، هذا الضابط وقبل أن يصبح ضابطاً كبيراً؛ كان خالي قد تزوج أخته قبل عشرات السنين. ومن حسن الحظ أنه صار لنا ضابطاً كبيراً نحن أهل إدلب، حتى لو كان آشورياً، وحتى إن لم يرد أو لم يشأ ذلك الضابط أن نذكر اسمه ونتبجّح بما لا يحبه ولا يريده، فإدلب لعنة.
باختصار، تحدّث قريبي مع الضابط الآشوري الكبير عن قصتي ومأساتي، بوصفي خريج من قسم الصحافة بعلامات جيدة ويبحث عن عمل، ووافق على لقائي معه وشرح مشكلتي وحاجتي.
التقيته في منزله بدمشق، شرحت له كل شيء وقلت له ما معناه إن ليس لي ولأهلي أحد سواك في دمشق، وعدني هذا الضابط خيراً، وأخبرني أن تركي صقر، رئيس تحرير جريدة البعث، هو صديقه الشخصي، وجاره في البناية، وطلب مني أن أذهب إليه في اليوم التالي بعد أن يتحدث معه.
ذهبت إلى السيد تركي صقر بعد نحو يومين، سُمح لي بالدخول إلى مكتبه، قطعت مسافة طويلة بين الباب وبين مكتبه الذي يجلس خلفه، شعرت بالرهبة، رحّب بي وطلب مني الجلوس. سألني ما هو سبب طلبي اللقاء، فشرحت له وتحدّثت له عن حاجتي للعمل كوني طالب جيد وخريج بعلامات جيدة، وأطمح للحصول على وظيفة أسوة ببقية وغالبية زملائي الخريجين!
سألني رئيس التحرير تركي صقر عن علاقتي بالضابط الآشوري الكبير، فتجنّبت الخوض في التفاصيل، وقلت له إنه من معارف أهلي، ثم عاد وسألني أنت من أي محافظة؟ قلت له من محافظة إدلب!
عند تلك اللحظة لاحظت أن لون وجهه قد تغيّر، امتقع قليلاً، صمت لبرهة ثم أخبرني معتذراً: في الحقيقة لا يوجد شواغر الآن، لكن قد يكون ذلك في المستقبل.
سألته إن كان ممكناً أن أكتب بالقطعة ونظام الاستكتاب دون أن أتوظّف رسمياً، لكنه عاد وأعتذر، ثم وقف وطلب أن أضع اسمي وهاتفي وعنواني عند السكرتيرة في الخارج!
أدركت في لحظتها أن لا أمل يرجى من هذه الوظيفة، وها هي إدلب تحضر ثانية وثالثة وعاشرة لتقف حاجزاً بيني وبيني أحلامي وطموحاتي.
قبل أن أمضي من مكتبه قررت رمي هذه الجملة الدرامية أمامه، لقد أدركت في ثوانٍ قليلة سر كل شيء، سر هذا النظام، وهذا البلد الذي أعيش فيه، فقلت له: هل يمكن أستاذ تركي أن تسمح لي بالدخول فقط إلى مبنى دار البعث لأساعد أو أتعلم أو أعمل في مطبعة الصحيفة بشكل مجاني، فقط أريد أن يفرح أبي وأمي، وأقول لهم كذباً أني حصلت على عمل، هما ينتظران خبراً مفرحاً مني بعد كل هذه السنوات من الدراسة والعلم؟ ثم أدرت وجهي وخرجت، كانت دمعة محبوسة في عيني على وشك أن تُذرف، منعتها، استبدلتها بقسم أمام الله ونفسي أن لا أعمل بأي صحيفة ومؤسسة إعلامية حكومية حتى لو طلبني تركي صقر ذاته من جديد، وبراتب مضاعف عن كل الموظفين عنده.
بعد أسبوع من هذه الحادثة نشرت في صحيفة النهار اللبنانية أول مقالة لي بين كبار الكتاب فيها، ثم تتالت المقالات، حينها أدركت أني طالب جيد، وشكرت تركي صقر؛ لأنه سدّ كل الأبواب في وجهي، ولم يأبه بحال أمي وأبي.
شعبان عبود