“فإنّي أوقّع هذا المحضر متحفّظاً. والله أسال أنْ يبدّد في المستقبل تشاؤمي”. كلماتٌ قالها خالد العظم أثناء توقيعه محضر الجلسات التي تمّتْ بموجبها الموافقة على الوحدة, وكان حينها وزيراً للدّولة والدّفاع الوطنيّ.
منذ الانقلاب العسكريّ الذي قاده حسني الزّعيم في 30 ماس/آذار 1949، تورّط الجيش السّوريّ في لعبة الانقلابات, وصار متحكِّماً في مفاصل السّياسة قبل الوحدة وبعدها.
كانت فكرة الوحدة بين سوريا ومصر مطروحةً منذ عام 1955, لكنّ الرئيس عبد الناصر كان يطلب التريّث مبْطناً مخاوفه من الاتحاد مع سوريا، التي كانت تعيش ديمقراطيّةً حزبيّةً, بينما كانت مصر تعيش نظام حكم الرّجل الواحد “الأحد”.
بدأ التدخّل المصري في شؤون سوريا من خلال تعيين السفير المصري في سوريا محمود رياض, الذي وقع البعثيّون في أحضانه منذ الوهلة الأولى, حتّى صار الوزراء البعثيّون، على حدّ تعبير خالد العظم، يلعبون معه دور التابع, و”ينقلون إلى السّفير المصريّ ما يدور في مجلس الوزراء ويلتزمون الرأي الذي يمليه عليهم”.
وفي إحدى الليالي (12 يناير/كانون الثاني 1958)، اجتمع في دمشق ضبّاطٌ سوريّون متحمّسون للوحدة, وقرّروا أن يسافر منهم 17 ضابطاً إلى القاهرة, برئاسة رئيس الأركان اللواء عفيف البزري، دون استئذان رئيس الجمهوريّة آنذاك شكري القوّتلي, ولا رئيس الوزراء صبري العسلي؛ وأن يعرضوا على عبد الناصر قبول الوحدة بالشروط التي يريدها, والتي سيكون من شأنها إنهاء الحياة السياسيّة في سوريا بحلّ الأحزاب نفسها, أو بالأحرى إلغاء الكيان السوريّ من أساسه. ويذكر خالد العظم في مذكّراته ما يأتي: “ذات ليلةٍ اجتمع عددٌ كبيرٌ من الضّباط وتناقشوا وتجادلوا. فلمّا أعياهم أمر إيجاد حلٍّ يتّفق عليه الطّرفان؛ قالوا: لنذهب إلى القاهرة ونسلّم أمورنا إلى عبد النّاصر وليعمل ما يشاء. فكتبوا على الفور مذكرةً بهذا المعنى, أيْ بإقرار الوحدة الكاملة, متخطّين بذلك مرحلة الاتحاد… هكذا كان مولد الوحدة, بعد حملها المصطنع ووضعها السيزاريّ (القيصري)!”.
أحدثت هذه الزّيارة زلزالاً سياسيّاً في سوريا, قوّض ما تبقّى من تماسكها بعد مسلسل الانقلابات التي سادت في السّنوات العشر السّابقة. وأمام هذا التخبّط في هيئات الدّولة ومفاصل الحكومة؛ كان البرلمان السّوريّ في حالة ضياعٍ تامّ, إذ كان رئيس مجلس النوّاب، أكرم الحورانيّ، يؤجّل الجلسات مرّةً تلو مرّةٍ, ولم تعقدْ أيّة جلسةٍ طوال هذه المدّة, “فكأنّ الخور وضياع الأمل سادا أفكار ممثّلي الأمّة، فكانوا يشاهدون النزْع الأخير لبلدهم, وهم فاغرو الفم… مشدوهون”.
وليت عبد النّاصر احترم الضبّاط السوريّين السّبعة عشر بمقدار التنازلات التي قدّموها له. فقد نقل أكرم الحورانيّ في مذكّراته عن مصطفى حمدون، أحد الضبّاط الذين سافروا إلى القاهرة؛ أنّ عبد النّاصر استقبلهم في اليوم الثالث أو الرابع من وصول وفدهم إلى القاهرة. فكان لقاءً ذا طابع دراميٍّ؛ حيث برزت مساومات الزعيم المصريّ أن يقبل بالوحدة مقابل أن تحلّ الأحزاب السياسيّة السوريّة نفسها.
بعد أن صار الضبّاط في القاهرة, أبلغ زملاؤهم المتبقّون في دمشق الحكومة السوريّة، التي كانت آخر من يعلم، أنّ وفداً عسكريّاً صار في القاهرة، ليعرض الوحدة على عبد النّاصر. ويقول الضابط أحمد عبد الكريم: “وفي الصباح نقلت المذكّرة أنا وأمين النفّوريّ للحكومة السوريّة على تكليف مجلس القيادة, فما كان من الحكومة إلّا أن قرّرتْ إرسال صلاح البيطار إلى القاهرة، ليكون مع الوفد العسكريّ في مقابلة الرئيس (يقصد عبد الناصر)”.
وهكذا شعرت الحكومة السوريّة بالحرج من موقف الضبّاط الذين فرضوا مشروع الوحدة على أركان الكادر السياسيّ السوريّ. وفي صباح 31 يناير/كانون الثاني عام 1958، توجّه رئيس الجمهوريّة شكري القوّتلي والطاقم الوزاريّ إلى مطار المزّة العسكريّ كي يستقلّوا طائرةً تأخذهم إلى مصر لإعلان الوحدة. كان خالد العظم واحداً من المسافرين, فسجّل في مذكّراته: “وعندما حلّقت الطائرة، لاحظتُ أنّها تطير باتّجاه الشّرق الجنوبيّ, وليس الغرب, حيث الطريق الجويّ المألوف. فسألت عن السبب فقال البزْري: إنّنا نخشى أن يتعرّض اليهود لطائرتنا بسوءٍ, فيقضون على الحكومة السوريّة بأسْرها. فقلت في نفسي: ليتهم يفعلون!”.
المراجع:
– العظم, خالد. 1973، مذكرات خالد العظم, بيروت: الدّار المتّحدة للنشر. الجزء الثّالث.
– الحورانيّ, أكرم. مذكّرات أكرم الحورانيّ، نسخة إلكترونيّة.
– عبد الكريم, أحمد. 1991، أضواء على تجربة الوحدة. دمشق: الأهالي للطباعة والنّشر. ط 2.