ملاذ الزعبي – الناس نيوز ::
ليست المجدّرة أكلة حديثة في قاموس المطبخ السوريّ، الذي استقى الكثير من مفرداته من نظيره المصريّ الأغنى بالطّبع، ولا هي أكلة ضاربة في القدم كذلك، بل تعود بدايات ظهورها في بلاد الشّام إلى وقت ما خلال القرن التّاسع عشر. كانت نتيجة جانبيّة هامشيّة لحدث سياسيّ وجيوستراتيجيّ عظيم.
كانت مصر تشهد نهضة سياسيّة وعسكريّة تحت قيادة محمد علي باشا الذي اعتمد نظام المركزيّة الإداريّة وطوّر الأسطول على نمط الأساطيل الحديثة، وأرسل البعثات التّعليميّة إلى أوروبّا واهتمّ بالتّعليم عموماً، وسعى لبناء صناعة حديثة وخاصّة في مجالي النّسيج والأسلحة، في وقت كانت دولته تتوسّع وتحقّق انتصارات على أكثر من محور.
فبعد نجاح الحملة العسكريّة الثانية في شبه الجزيرة العربيّة بالقضاء على الدّولة الوهّابيّة الوليدة وتدمير عاصمتها الدرعيّة، تمكّن محمد علي من ضم السّودان، ثم توجه ببصره إلى الشمال، فكانت حملة ابنه القائد العسكريّ إبراهيم باشا للسيطرة على بلاد الشّام التي شكّلت حاجزاً بين مصر والإمبراطوريّة العثمانيّة.
كان قوام الحملة نحو ثلاثين ألف جنديّ موزعين على ستّة ألوية للمشاة وأربعة للفرسان مجهّزة بالذخيرة والمؤونة، وتحرّكت في أواخر أكتوبر/تشرين الأول من العام 1831.
دخلت القوات المصريّة إلى غزّة بعد فرار الجنود العثمانيّين، وتابعت طريقها إلى يافا، قبل أن تضرب حصاراً في نوفمبر/تشرين الثاني استمر أشهراً على عكّا المنيعة.
كانت المدينة قد اكتسبت سمعة تدلّ على قوتها وحصانتها منذ أيّام صمودها أمام الحصار الذي فرضه عليها الأسطول الفرنسيّ بقيادة الجنرال الأشهر نابليون بونابرت، فيما بات واليها أحمد باشا الجزّار رمزاً للقيادة والطموح.2
لكن جزّار مين وعكّا مين.. بالعزيمة المصريّة التي بنت الأهرامات والسدّ العالي والطريق الساحليّ والعاصمة الإداريّة الجديدة، وبالذهنيّة المبدعة التي مكّنت المصريين من عبور خط بارليف في حرب أكتوبر بخطة بسيطة وعبقريّة في آن واحد، وبالروح الخلّاقة التي صنعت ميدان التّحرير وأنجبت سيد درويش وأمّ كلثوم ومحّمد عبد الوهاب، وبرجال من أحفاد رمسيس الثاني وأجداد جمال عبد النّاصر ومحمد صلاح، نجحت الحملة المصريّة في اقتحام عكّا بخطة غاية في البساطة والإدهاش: طالما كان قائد الأعداء جزّاراً فلماذا لا نقاومه بأكلة نباتيّة تضعضع مقاومته وتحطّم شهوة جنوده؟ وهكذا كان.
وضع الجيش المهاجم المدافع جانباً ونصب بدلاً منها قدوراً وأواني ضخمة، وبدأ جنوده ينفّذون مهامّهم ببراعة منقطعة النّظير، وبينما كان جنود المشاة يعملون على تقطيع البصل إلى شرائح وتحميره في كميّات من الزّيت إلى أن يكتسب اللون الذهبي مع تقليبه المستمر حتى يصبح مقرمشاً، عملت ألوية الفرسان بدأب على نقل أكياس الأرزّ والعدس والحمّص والمعكرونة، ورست قوارب من الأسطول المشارك في الحصار للتّفرّغ لمهمتين، الأولى فرم الثّوم مع الملح قبل تحمير جزء منه في الزّيت السّابق )
وإضافة عصير الطّماطم والملح إليه، والثّانية سلق العدس والحمّص مع إضافة الثّوم وقليل من الملح والكمّون.
أما صفّ الضّبّاط من العائدين من البعثات العلميّة إلى أوروبا فكانوا الأنسب للتّعامل مع المعكرونة، ولهم الفضل أساساً في إدخالها إلى المطبخ المصريّ المعروف بتنوعه وتفاعله مع مختلف التّأثيرات استلهاماً وتصديراً على عكس مطبخ بلاد الشّام الجامد والمكتفي بنفسه، فجعلوا يسلقون المعكرونة ويقلّبونها وقد أضافوا لها قسماً من زيت قلي البصل مع حرصهم على أن لا تلتصق بقاع القدور الضّخمة.
كان بعض الضّباط يجهلون ما هو الهدف من هذا الاستعراض الغذائيّ الضّخم، وفيما بدا أنهم يتململون من سوء إدارة الحملة، كان البصل المقليّ قد صُفيّ من الزّيت جيداً وجُهّزت كميّات ضخمة من صلصة الشّطّة، ولم يبق إلّا تحضير دقّة الكشري، التي ما إن انتهت حتى كانت عكّا كلّها بحاميتها وسكّانها تتجه دائخة ومستسلمة نحو الرّوائح المنبعثة من معسكر الجيش المصريّ. وهنا فقط فهم الضّبّاط نبوغ الهجوم المطبخيّ هذا وفرادته.
بعد سقوط عكا، واصل الجيش المصريّ زحفه شمالاً، فدخل دمشق وحمص وحماة وحلب، وكانت الحملة إن واجهت صعوبة قبل التّقدم إلى منطقة جديدة، لجأت إلى نصب قدورها وتقطيع بصلها وسلق عدسها وحمّصها، فيستحيل الصعب سهلاً وسرعان ما تظهر رايات الاستسلام البيضاء المرفقة بكميّات هائلة من اللّعاب السائل.
لكن ما إن انتصر الجيش الزاحف في قونية وشعر الباب العالي بأنّ الطّريق إلى الآستانة بات مفتوحاً، حتى نظّم السّلطان هجوماّ مضادّاً أبطل مفعول الكشري.
لجأ الجيش العثمانيّ إلى سلاح أكثر تأثيراً وأقوى رائحة، وباستغلال الفضاء المفتوح في سهوب الأناضول، كانت الآلاف من مناغل الشواء تنقل روائح عشرات آلاف الأسياخ من كباب أضنة المصنوع من لحم الضأن المفروم جيّداً والمخلوط بنسب دقيقة من الملح والفلفل الأسود والأحمر والكمّون.
ومهما حاول المصريون الردّ عبر تحمير كميّات أكبر من البصل بالزّيت فإن رائحة الرّدّ هذا لم تصمد أمام قوّة الهجوم العثماني الكاسح والدّخان الهائل المنبعث مع تواصل عمليات الشّي.
تقهقرت الحملة المصريّة بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من إسقاط الإمبراطوريّة العثمانيّة، لكن آثار هذه الحملة رسخت طويلاً في سياسة واقتصاد واجتماع بلاد الشّام، ولم يغب عن أذهان السّكان ذلك المزيج السّاحر من العدس والأرزّ والبصل المقليّ والمعكرونة وعصير الطّماطم، فحاولوا محاكاته كدليل دائم على مكانة مصر ومركزية تأثيرها الثقافيّ في المنطقة ونفوذ مطبخها، إلا أن انغلاق الذّائقة السوريّة على نفسها حال دون معرفة كيف تصنع المعكرونة أو كيف تطبخ، وفيما حلّ البرغل القادم من الأناضول بعد إعادة العثمانيّين سيطرتهم محلّ الأرز المزروع بمصر بكثافة، كان فقدان عصير الطماطم هو الضّربة القاصمة للاستنساخ الشاميّ الفقير للكشري المصري الثري، فالبندورة لم تدخل إلى سوريا إلا في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر عندما جلب القنصل البريطانيّ في حلب بذوراً منها إلى المدينة، إلا أن السّورييّن، كعادتهم، رفضوا أي جديد غذائيّ، بل إنهم نفروا من البندورة وأطلقوا عليها لقب “مؤخّرة الشيطان” وصدرت فتوى بتحريم تناولها 3.
حاول السّكّان إضافة دبس الرّمّان إلى خليط العدس والبرغل والبصل المقليّ كبديل عن غياب صلصة الطّماطم، إلّا أن هذا البدي لم ينجح بتاتاً، ولم يتناغم مع النّكهات الأخرى، فقرروا أخيراً الاكتفاء بما لديهم من مكوّنات فولدت هكذا الأكلة الشعبية المعروفة باسم: المجدّرة، وما هي في الحقيقة إلا كشريّاً مفتقداً لمعظم مكوّناته.
هوامش .
1- شادي لويس كاتب وروائي مصري، صدرت له ثلاثة روايات هي طرق الرب، وعلى خط غرينتش، وتاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة، يكتب مقالات في عدة مواقع عربية، اعتاد أن يكتب منشورات على صفحته على فيسبوك للسخرية مما يعتقده افتخاراً مبالغاً به لبعض سكان بلدان المشرق العربي بمطابخهم وأكلاتهم الشعبية. هذه المقالة هي مماحكة مازحة معه.
2- توفي أحمد باشا الجزار في الحقيقة عام 1804 قبل الحملة المصرية بوقت طويل، وسعى أساساً لأن يكون والياً على مصر قبل أن يتولاها محمد علي باشا.
3- بحسب أكثر من مصدر فإن أهالي حلب فعلاً رفضوا البندورة في البداية بسبب لونها الأحمر ولقبوها بـ”مؤخرة الشيطان” وأصدر مفتي حلب فتوى بتحريمها، إلّا أن الرّوايات تتضارب فيما إذا كانت البندورة قد دخلت إلى سورية قبل مصر أم بعدها.