سلوى زكزك – الناس نيوز ::
تتوارد الأخبار عن السوريين اللاجئين الذين شكلوا أكبر موجة لجوء في السنوات العشر الماضية، لكن الأخبار محددة في إطارين اثنين بشكل عام، الإطار الأول مشكلتهم كلاجئين منتشرين على أبواب السفارات والمطارات وهائمين على وجوههم، وعالقين على المنافذ الحدودية ، الإطار الثاني متميزين ومبدعين ورواداً على كافة الأصعدة.
وفي زحمة التناقض ما بين الخطين الإعلاميين السابقين تغيب صورة اللاجئ/ة في حيواتهم اليومية الاعتيادية ويمكن القول الطبيعية أيضاً، لأنها أخبار لا تهم أحداً، وبلا عائدات مربحة، ولا تثير الضجة الإعلامية، ولا صخب الإعلانات الصادمة ولا اهتمام المؤسسات الرسمية والأممية.
للاندماج معنى مختلف عما تقدمه جلسات الدعم النفسي ومحاضرات المختصين النفسيين، لا مقياس للاندماج فهو نسبي ومختلف جداً ما بين شخص وآخر، لكن المبالغة واضحة وجليّة، ثمة من يتهم غيره بالعزلة وثمة من يعظّم من قيمة نمط حياته الجديدة كشكل بليغ يدعو للاحتذاء والتقليد من فرط اندماجه.
تعيش سراب في مدينة فرنسية صغيرة، وتعمل في مطبخ أحد المدارس، تعتز كثيراً بأن صداقاتها في هذه المدينة تقتصر على الفرنسيين فيها، رغم وجود عائلات سورية عديدة تقتصر علاقتها بهم على التحية وتبادل المجاملات الكلامية في الأماكن العامة ومراكز التسوق، والأكثر مدعاة للذكر بأنها تعلن وبشكل فج بأنها لا تقترب أبداً من أفراد الجالية المغاربية، وهم الجالية اللاجئة الأقدم في المدينة، والتي ولد أبناؤها فيها، وصار أحفادهم جيلاً ثالثاً يتمتع بالجنسية الفرنسية، وربما لا يعرفون بلدانهم الأصلية ولا لغتها، لكنهم موصومون بوصمة تترفع سراب عن الاختلاط بهم جراءها.
بغض النظر عن النظرة الفوقية ( ربما سلوك بعض المغاربة يدفعها لاتخاذ هكذا موقف ) لسراب حيال مجموعة تعاني لأسباب موضوعية وذاتية من وصمة ما، يشكل نموذج سراب مثالاً لنجاح النساء السوريات، فقد أتقنت مستوى اللغة الفرنسية المطلوب للقبول في العمل، وتحسن مستواها اللغوي بصورة ممتازة بعد انخراطها في العمل، وبسبب علاقاتها الواسعة مع الفرنسيين، في حين مازال زوجها يعاني من مشاكل كبيرة في التواصل، بسبب عدم إحرازه أي تقدم على صعيد اللغة، وضاعف من تثر تقدمه اللغوي عمله منفرداً في نقل المفروشات بشاحنة كبيرة تنتقل ما بين المدن، وهذا العمل كما يقول الزوج لا يتطلب سوى برنامج gbs ثبته زوجها باللغة العربية، وقصاصة ورقية مكتوب عليها العناوين.
والمضحك في الأمر أن الزوج همام يسخر من تقدم زوجته باللغة الفرنسية قائلا: (أصلا أنتو النسوان مو شاطرات غير بالحكي).
في بلاد اللجوء تتعدد الأحلام وتتنوع وتتوسع، حلم شراء سيارة أولا، ومنزل ثانيا، والبعض وخاصة من المتقاعدين/ات يحلم باستئجار قطعة أرض زراعية من البلدية، ببدل إيجار رخيص لتبديد الوقت الطويل بعمل محبب، وللاستمتاع بمنتجات قد تكون قليلة الكمية لكنها مفرحة ولها خصوصية بالغة، توازي عبارة من خيرات الوطن، أو من منتجات الأرض التي باتت بعيدة (هي الخضراوات من أرضنا).
إذن يبدو الاندماج عملية تدرجية حسب الإمكانية، وحسب المتاح وحسب الصدفة أيضاً، وكل الأحاديث المشتركة بين اللاجئين/ات السوريين والسوريات عن قوائم الطعام الجديدة ونمط الحياة الغريب والمستجد وبين الفروقات الطارئة والحادة في التفاصيل اليومية، ما بين يسر بالعيش وتوفر للأساسيات ولمقومات الرفاهية أيضا، وضمان صحي واجتماعي، وما بين الشوق وأحوال الأهل والبلد، هي روابط أولية للارتباط بالواقع الجديد المفروض.
معن فنان موسيقي سوري ويعمل في اختصاصه، اصطحبه زميله في العمل ذات يوم إلى قرية صغيرة جداً وبعيدة عن مركز المدينة ولا يمكن الوصول إليها إلا بالسيارة، لغياب طرق الترام والمترو وبعد خطوط الباص عنها، في القرية قصر موهوب للبلدية من مالكه الأصلي وأسموه بقصر الفنون، تحولت القرية إلى مكان خاص بتجمع فنانين من كافة أنواع الفنون، مع الوقت دأب معن على التدرب وتأليف مقطوعاته الجديدة في القرية الهادئة، وتوسعت أحلامه ليشتري قطعة أرض صغيرة بمبلغ قليل استطاع توفيره، قطعة أرض لا تزيد عن مساحة لركن كرفانة مستعملة اشتراها من صديقه ينام فيها وصارت بيتاً له، بيتاً وملاذاً لإبداعه وموسيقاه في قرية هادئة عدد سكانها قليل وأغلبه من المتقاعدين/ات أو المتقدمين/ات في السن، الذين يقدمون الخضار والفاكهة ومعلبات المربى المنزلي للفنانين/ات الذين ضخوا حياة شابة وإبداعية في القرية شبه المنسية.
على المقلب الآخر ثمة قصص تعثر أودت بأصحابها نحو العزلة، أو نحو الحاجة لجلسات العلاج النفسي، وإن بدا أن جلسات العلاج النفسي تعتبر حاجة طبيعية في المجتمع الفرنسي، ولا تسبب للخاضع لها أي خجل أو وصمة من المجتمع إلا أنها مكلفة ولا يقوى الكثيرون/ات على اللجوء إليها، خاصة وأنها غير مغطاة من الضمان الاجتماعي بعد الجلسة الرابعة، ما يدفع العاجزين/ات مادياً عنها إلى العزلة أو متابعة العلاج الدوائي غير الكافي فقط، ما يتسبب بشروخ نفسية عميقة وتعب يعيق التواصل والاندماج بشكل فعال وإيجابي.
مازنة سيدة سورية بلغت الخمسين من العمر في أول يوم لوصولها إلى فرنسا، بعد انقضاء الأشهر الستة الأولى اكتشف الأطباء إصابتها بسرطان الثدي، وفاقم انتقال ولديها إلى باريس لمتابعة الدراسة من ألمها العاطفي والوجداني، رفضت بشكل حاسم كل اقتراحات الأصدقاء لمتابعة برنامج علاج نفسي أو زيارة جمعيات خاصة تقدم الدعم للناجيات من سرطان الثدي.
تعيش بعزلة شبه تامة، تزور طبيبتها في موعدها المحدد، تلتزم جيداً بمواعيد الدواء وطبيعة الطعام الصحي، لكنها تقضي وقتها إما نائمة أو تتواصل مع أهلها وصديقاتها وجاراتها في مدينتها الأم بريف حماة.
تقول أنا بخير طالما أن ولدي في مكان آمن ويدرسان ما كانا يحلمان به دوما، تعترف بعدم اندماجها وتعيش كل يوم بيومه، بانتظار الشفاء الذي تعلن أنه سيكون موعد انطلاقتها نحو الحياة الجديدة، أو أنها ستعود إلى مدينتها لتموت هناك بين أهلها وفي بيتها.
تهتز الصورة، والرقم المسجل في الإحصائيات الرسمية هو حياة من لحم ودم ومشاعر وخيبات ونجاحات، وكل يرى نفسه كما يريد أن يراها لا كما هي على الحقيقة، ولا حسب التصنيفات الملحقة بالأرقام الإحصائية.
وفي زحمة الانغماس في الخلاص الفردي والرؤية الضيقة للذات، تصاب النظرة للآخر بضبابية مقلقة وحذرة، فيبدو الحذر طقساً يومياً يعيشه اللاجئون/ات مع أنفسهم أولاً، وينقلونه للآخرين بصورة قد تكون مُرضية وقد تعمق الشروخ الوجودية فيتحول اللجوء إلى موت بطيء أو حالة انتظار مقلقة وطويلة، وفي أحسن الأحوال تتفاقم أحلام اليقظة فيبهت الحاضر ويتعثر المستقبل.