نشمي عربي – الناس نيوز ::
عندما أعلن الرئيس الأميركي بيل كلينتون في فبراير/شباط 1993، أن جانيت رينو ستكون مرشحته لشغل منصب المدعي العام للولايات المتحدة الأمريكية، تداولت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة دعابة سمجة، مفادها أن سيدة تترشح لهذا المنصب لابد أن تكون “امرأة، عزباء، بدون أولاد، وبمنزل متسخ”.
حتى بالنسبة لمجتمع منفتح جداً لا حدود فيه لحرية التعبير كانت هذه الدعابة من العيار الثقيل، فهي تشي (عند كثيرين) بتنمر جندري كون المشار إليها امرأة، ستشغل منصب المدعي العام (وزير العدل) لأول مرة في تاريخ المنصب، إضافةً لأنها فعلاً سيدة عزباء، في عمر متقدم نسبياً (55 عاماً عند إعلان ترشيحها) ولم ترزق بأولاد، ليضيف من أطلق الدعابة للصورة النمطية البائسة التي رسمها لها، أنها ليست حتى سيدة بيت ناجحة بدليل بيتها المتسخ.
لم يكن ذاك التنمر هو الوحيد الذي تعرضت له السيدة رينو، فقد سرت إشاعات تصفها بالمثلية الجنسية، ما استدعى منها توضيحاً ( طوعياً ) على الإعلام بأنها ليست كذلك.
منصب المدعي العام في الولايات المتحدة حساس جداً، فهو يمثل الإدارة الفيدرالية كلها من الرئيس إلى أصغر ممثل حكومي في أي نزاع قضائي تكون الحكومة طرفاً فيه، كون القضاء في الولايات المتحدة يمثل سلطة مستقلة تماماً عن السلطتين، التنفيذية (الإدارة)، والتشريعية ( الكونغرس بمجلسيه نواب وشيوخ )، يضاف لذلك أن وزير العدل (المدعي العام) هو المشرف الأعلى على عمل عدة وكالات أمنية واستخباراتية مهمة، كمكتب التحقيقات الفيديرالي FBI، ووكالة مكافحة المخدرات DEA، والـ US Federal Marshal، ووكالات أخرى كثيرة وبميزانية خيالية تتجاوز اليوم 36 مليار دولار.
كان تعامل السيدة رينو مع حملة التشهير والتنمر التي تعرضت لها لافتاً وناجحاً، وبكل شجاعة ظهرت على محطات التلفزة لتقول بابتسامة عريضة: “نعم، أنا هي المرأة العزباء، بلا أولاد، وببيت متسخ”.
ليحصل ترشيحها على موافقة بأكثرية وازنة في مجلس الشيوخ كأول سيدة تتولى هذا المنصب في تاريخ الولايات المتحدة، ولتحافظ على موقعها فيه مع إدارتي كلينتون الأولى والثانية، كثاني أطول وزير عدل خدمةً في تاريخ المنصب حتى تاريخ خروجها منه.
تعامل السيدة رينو الحصيف مع حملة التشهير والتنمر التي تعرضت لها ربما فرضته عدة عوامل، فعلاوةً على ذكائها وقوة شخصيتها، فهي استندت وبثقة عالية بالنفس إلى حقيقة مهمة لا يمكن تجاوزها، وهي أن كل من يختارون العمل في الشأن العام، رجالاً ونساء، يحب أن يدركوا ويتقبلوا حقيقة أنهم صاروا عرضةً للانتقاد من الجميع، وأن هذا الانتقاد قد يكون مزعجاً أو خادشاً في بعض الأحيان، وأنه من اللحظة التي يدخلون فيها مجال الخدمة العامة لن يعود هناك في حياتهم ما هو شخصي، على الإطلاق.
القبول بهذه البديهيات السياسية يجب أن لا يفسر على أنه بالضرورة تأييد مطلق لطبيعة هذه الانتقادات التي قد تتخذ أشكالاً مختلفة وعديدة، ليس الكاريكاتير إلا تعبيراً مركزاً عنها.
هذا التعبير الفني المعقد المسمى بالكاريكاتير والذي يحتاج لبراعة وذكاء لافتين وحضور بديهة استثنائي، قد يعتمد أشكالاً من المبالغة أو الإغراب أو الشطح في تصوير الفكرة التي يرمز إليها.
الأصل المهم جداً في هذا الفن أنه في المبدأ يعنى برسم صورة معينة في ذهن من يراه، وهي غالباً سياسية في حالة الكاريكاتير السياسي الساخر، فلوحة الكاريكاتير وإن حملت في متنها صور أماكن وشخصيات و و و … إلا أن هذه كلها لا تتعدى كونها مجرد أدوات غايتها إيصال فكرة مجردة، كالعدل والظلم والنجاح والإخفاق … الخ.
فنان الكاريكاتير السوري العالمي علي فرزات استطاع أن يثبت حضوره القوي والمهم في عالم الكاريكاتير السياسي، وهو إن لم يكن رسام الكاريكاتير الأهم على الإطلاق سورياً وعربياً، فهو بالتأكيد من القلائل المهمين جداً الذين استطاعوا إثبات موهبتهم الخارقة وقدرتهم الفائقة في إيصال رسائل سياسية ذكية وبارعة من خلال رسومهم الساخرة.
ضاعف من أهمية أعمال علي فرزات مواقفه السياسية الشخصية التي لا تحتاج إثباتاً أو تأكيداً في هذه السطور أو غيرها.
الرسم أو الرسوم التي أثارت جدلاً في الشأن العام مؤخراً كانت قد تم إنتاجها منذ سنين عديدة، وحسب كلام الفنان فرزات فهي من ضمن أعمال شارك فيها في معارض في أوقات سابقة.
ربما ارتأى الفنان علي فرزات إعادة استعمال بعض هذه الصور لينشرها في كاريكاتير سياسي يتعرض لحالة سياسية عامة وهي أداء هيئة سياسية معارضة ما (هي الائتلاف الوطني في هذه الحالة)، حالة الجدل والاختلاف الشديدين التي خلقها كاريكاتير الفنان فرزات استندت إلى أن ما نشره يسيء لسيدة هي عضو في الائتلاف السوري المعارض، علماً أن الفكرة الواضحة من وراء الرسم والذي إن كان قد أشار بالتصريح أو بالتلميح إلى سيدة ( الاحترام لشخصها وإنسانيتها ومكانتها هي غيها من النساء العاملات في الشأن العام ) معينة، إلا أن المستهدف هنا هو أداء قيادة الائتلاف ككل، والتي لن يكون الحديث عن عدم رضى سوري عام عنها هو إفشاء لسر دفين، فحالة الاستياء هذه قائمة وتحظى بدعم أغلب من انتقدوا رسم الفنان فرزات.
اللافت أن العديد ممن انتقدوا الرسوم المذكورة استندوا إلى أنهم في الوقت الذي يشاركون فيه الفنان علي فرزات في انتقاده لأداء جماعة الائتلاف إلا أنهم يختلفون معه في طريقة انتقاده.
هنا يأتي الرد من قبل من يعتقدون بأن الفنان هو الذي يختار أدواته وهو من يحدد طريقة استخدامه لهذه الأدوات، والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه في ذلك، مستندين إلى أمرين مفصليين: أولاً أنه حتى إن كانت الصورة ترمز لسيدة بعينها، إلا أن الغاية من هذا الرمز هي مجردة، وهي هنا أداء هيئة الائتلاف التي من حق أي سورية وسوري أن يكونوا راضين أو غير راضين عنه ( مرة أخرى تأكيد ان كلامنا هنا لا يستهدف السيدة التي تم تداول أسمها ، في كلامنا نقصد أداء الشأن العام وليس شخصنة الأمور ) .
الأمر الثاني أن السيدة موضوع الحديث هي شخصية عامة، اختارت طوعاً أن تدخل مجال العمل العام، وأن مصادفة اختيارها من الفنان هي بالذات، أو أنه اختار تفصيلاً شخصياً محدداً يتعلق بها كوسيلة لإيصال فكرته لا يعني بالضرورة إساءةً شخصيةً لها، بدليل أنه عندما يتم التعرض لأداء بعض رموز التيار الإسلامي فإنه يتم تصويرهم بصور نمطية ليست دائماً صحيحة أو محببة، فهم غالباً ذووا ذقون طويلة و كروش نابذة … و و … فما الفرق أن يتم التركيز على تفصيل جسدي معين عند رجل أو امرأة، أو أن يكون التركيز على تفصيل جسدي آخر عند غيرهم؟
نأتي لناحية التنمر والتي تستند غالباً لفكرة أن الرسام ذكر والسيدة في الصورة أنثى، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: وهل يكون الانتقاد مقبولاً فقط في حالة المثلية الجندرية؟ أي أن للرسام الرجل أن يستخدم في مواضيعه رجال فقط حتى لا يكون متنمراً؟ أو أنه لا يمكن سوى لامرأة أن تقدم على انتقاد امرأة أخرى؟ ولو فعلها رجل ففي الأمر تنمر؟ .
أما بالنسبة لمرهفي الحس والذين هم ضد أن يكون الانتقاد خادشاً أو متعلقاً بتفاصيل جسدية لمن هو/هي في موضع الانتقاد، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو، وهل كان الجنوح لاستخدام ألفاظ وعبارات ورسوم قد يراها البعض مسيئة مبرراً ولا غبار عليه عندما يكون باتجاه معين دون غيره؟ ضد بعض رموز النظام مثلاً؟ أو أمهاتهم؟ أو زوجاتهم؟
ماذا عن أسماء أنثوية معروفة في صف النظام يتم التعرض لها يومياً بكثير من التفاصيل التي تتجاوز كثيراً التفاصيل التي جاءت في رسوم الفنان علي فرزات؟
الأمر الهام الآخر هو أن ما ينطبق على الشخصية العامة في مجال العمل السياسي ينطبق أيضاً على الفنان، الذي يصيح تلقائياً شخصيةً عامة قابلة للنقد وليست ذات حصانة، خصوصاً عندما يكون الفنان قامة كبيرة مثل الفنان علي فرزات، وأن العمل الفني الذي لا يتعرض لنقد ولا يشكل حالة خلافية بامتياز، كالتي حصلت مع رسوم الفنان علي فرزات هو عمل يفتقد الحياة.
السوريون الذين وقفوا ضد أشكال التسلط والوصاية على فكرهم أسقطوا كل المحاذير، ولن يكون انتقاد أي كان وارداً في حساباتهم بعد مارس/آذار 2011.