د. غادة بوشحيط – الناس نيوز ::
لا يوجد ما هو أسرع من البرق غير تضاعف المعارف على ما يبدو. هذه الحالة المعرفية المستجدة وغير المسبوقة في حياة البشرية لا تبدو مطلقة الإيجابية، فهي تطرح الكثير من الإشكاليات على رأسها مواكبة الأطر التشريعية للتطورات التكنولوجية والسهولة التي ينتشر بها الاستخدام بين البشر، كما تستدعي تأملاً في أشكال هذا الاستخدام، بعيداً عن الصور الذهنية النمطية، كما يبدو أنها غير كافية لتتجاوز البشرية الكثير من الظواهر النفسية والاجتماعية المتوارثة، والتي تتعدى تراكم التجارب التنويرية حتى.
يذكر السوسيولوجي الفرنسي دانييل كوهين في كتابه “هومو نوميريكوس: الحضارة الرقمية القادمة” الصادر عن دار “ألبين ميشل”، شهر أغسطس/آب الماضي، أن أهم التحولات التي يعيشها العالم بالاعتماد على التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي تستهدف السيطرة على الجوانب اللاواعية من العقل البشري، بل يذهب حتى التأكيد بأن الثورة الصناعية كثورة معرفية حولت الإنسان إلى آلة، أما الثورة المعرفية التي نعيش فصولها اليوم فهي تسعى إلى تحويل الآلة إلى إنسان.
لسنا نقيس بعد مدى صحة نبوءات كوهين، ولكن الإفرازات الكثيرة لذيوع استخدام التكنولوجيات الحديثة في حياتنا أمر واقع، ولعل إشكاليات “التحرش الإلكتروني” و”التنمر الإلكتروني” التي أضحت من أولويات السياسات العامة في الكثير من البلدان أحد هذه الأوجه الأوضح، هي التي تؤكد التقارير الأممية أن أكثر ضحاياها من الإناث راشدات كن أم مراهقات. ولكن يبدو أن الواقع أعقد بكثير.
ذلك على الأقل ما تحاول الكاتبة الصحفية الفرنسية ماري-آدلين جيرار إقناع قارئها به. فبعد كتاب أول عد من بين الأكثر مبيعاً خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ها هي تعود بكتاب آخر جعلت فيه من “الحروب النسائية الباردة” موضوعاً رئيساً، بعد أن خصصت كتابها الأول: “المرأة المثالية خرقاء” للسخرية فيه برفقة توأمها آن-صوفي من القيم المجتمعية الموروثة، والتي ما تزال وسائل الإعلام الكبرى في بلادها وكل أوروبا وخارجها تفرضها على النساء، كالمظهر المثالي، سيرة الحياة المثالية وباقي الوصفات التي تدعي سوق النساء نحو الكمال.
في كتابها الأخير “ندات: لا يوجد أفظع من النساء فيما بينهن”، تنطلق جيرار من العبارة التي كثيراً ما تتردد بين الرجال حين الحديث عن النساء، في إشارة إلى الشراسة التي تتسم بها العلاقات بين بنات الجندر الواحد. توظف جيرار تجربتها الخاصة كابنة للطبقة المتوسطة القادمة من مدن الجنوب الفرنسي، والتي حققت نتائج مذهلة في كارييرها بالنسبة لامرأة في ظروفها، حتى أنها ترأست تحرير إحدى أهم البرامج الثقافية في تلفزيون بلادها الرسمي: “هذا المساء أو لا” (ce soir ou jamais) لمناقشة مسألة التنافس بين النسوة في الفضاء العام وحتى الخاص، منطلقة من قصص وتجارب شخصية واجتماعية، وتجارب روتها نساء حققت معهن ماري- آدلين جيرار لرسم صورة أوضح للظاهرة.
لا شك أن العلاقات في مجتمعات النساء موضوع مستهلك وسبق أن تناوله الباحثون بالتحليل والتفسير في سياقات تاريخية تطورية، وحتى في سياق المستجدات من الظواهر، ولكن جيرار تفاجئ القارئ بنوادر وقصص ترويها أحياناً نسويات عن تجارب خاصة كن الطرف السيء فيها. تحكي سخرية صحفيات فرنسيات ملتزمات فكرياً من نجاح كتابها الأول، أو العراقيل التي نصبتها رئيسة تحرير لها في إحدى المجلات الفرنسية المحلية، لدفعها لتطليق ميدان الإعلام تماماً. قبل أن تنتقل للتفصيل في متلازمة “سندريلا” التي تعيشها الكثير من النسوة الناجحات، والتي كثيراً ما يتم إقناعهن بأن ما وصلن له مجرد ضربة حظ، ولا يد للإصرار والعزيمة فيه، تعرج على أهمية السن في العلاقة بين النساء، والحقد الذي تضمره النسوة على من هن بسن أصغر، تحكي تجارب عن العلاقات الملتبسة والمؤسسة في آن بين الأمهات وبناتهن، قبل أن تتوقف عند نتائج دراسة قامت بها إحدى المؤسسات المختصة (demos) البريطانية والتي كشفت تقاريرها أن تحليل شخصيات المتنمرين على الإناث على وسائل التواصل الاجتماعي كما التهديدات بالقتل والاغتصاب يصدر بنسبة كبيرة من نسوة أخريات، واللاتي قد يتخفين خلف بروفايلات مزيفة حتى تسهل مهمتهن.
نتائج تقارير مؤسسة “demos” ليست بالجديدة، ولكن نتائجها قد تبدو مثيرة إلا بالنسبة ل ماري آدلين جيرار التي تجده أمراً طبيعياً ومعقولاً، تفسره بليل الأبوية الطويل، والذي ما يزال مغروساً في اللاوعي الفردي والجمعي الغربي وغير الغربي، فهذه الندية الشرسة وغير المبررة تأتي لخدمة الرجال في المنزلة الأولى ضمن الفضاء الاجتماعي عموماً، تجد جذورها في المراحل الزمنية الأبكر التي كان وجود إناث أخريات حول الرجل الواحد يعد تهديداً مباشراً للأنثى التي يعيلها، والتي ستفقد بكل تأكيد مصدر عيشها، كما نسلها الذي سيضمن لها مستقبلها. لا تتوقف جيرار، إذ ستجعل فصلاً خاصاً بمفهوم “الأختوتية” الذي اقترحته النسويات الأوائل مستلهمات تجارب “الأخويات” الجامعية الأمريكية، من أجل منافسة نسائية أكثر وعياً، وإيجابية، ولنسوية أكثر فعالية.
لا تكف الأبحاث والدراسات تكشف عن مدى رسوخ تجارب الأجداد وامتدادها في الحمض النووي للسلالات البشرية، وبالتالي في اليومي، والكثير من ممارساتنا اليومية لا تخرج عن هذا الإطار، وتحقيقات ماري-آدلين جيرار تأكيد آخر لها، لكن السؤال الطريف الواجب طرحه: هل ستحمل الآلات التي ستتحول إلى بشر (والتي يبشر بها كوهين) في حضارتنا القادمة معتقدات أصولها البشرية الاجتماعية؟ وهل ستتصرف بندية فيما بينها؟