د . أمير سعادة – الناس نيوز ::
صدر مؤخراً قرار عن الحكومة الأسترالية بحظر “حزب الله” اللبناني بصفته “منظمة إرهابية.” القرار شمل الحزب بشقيه السياسي والعسكري وكل مؤسساته ، في ابتعاد واضح عن موقف الاتحاد الأوروبي، الذي لا يعتبر أن المكتب السياسي للحزب متورط بالإرهاب.
وقد عبر عن ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته إلى بيروت بعد تفجير المرفأ في خريف العام 2020، عندما لم يمانع الاجتماع مع مسؤولين من الحزب في قصر الصنوبر.
حيث يعتبر الأوربيون أن موقفهم نابع عن “براغماتية سياسية”، بحيث إنه يسمح للتفاوض مع الحزب بالشأن السياسي، بهدف تحقيق اختراق ولو بسيط، مع تجاهل كامل وغض بصر عن نشاطه العسكري، المرتبط عضوياً بأمينه العام حسن نصر الله.

يخطئ الأوروبيون كثيراً إذ كانوا فعلاً يرون اختلافاً بين الشق السياسي والشق العسكري لحزب الله، وهذا ناتج عن سوء تقدير وعدم فهم آلية العمل داخل الحزب.
في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل موظفون كثر يعملون على الملفات العربية، ومعظم العاملين في الشأن اللبناني هم صغار في السن، في مطلع العشرينيات، تخرجوا حديثاً من جامعاتهم ولا خبرة لهم في الحياة أو في هذا البلد المشرقي البعيد.
فإن معظمهم لم يزوروا لبنان في حياتهم، بل قرؤوا عنه في الدراسات والتقارير المعدة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وهم لا يتكلمون إلا القليل من اللغة العربية، تمكنهم من دراسة أدبيات الحزب وماضيه.
المسؤولون الكبار في الاتحاد الأوروبي لا يضيعون وقتهم في ملف ثانوي مثل الملف اللبناني، بل يكون عملهم في ملفات أخطر وأكثر تعقيداً، مثل روسيا وأوكرانيا، أو ملف إيران النووي.

وبذلك تبقى الملفات العربية في يد شباب يافعين، لا ذاكرة سياسية لهم، وإن أرادوا مثلاً معرفة ما حدث مع المارينز في بيروت سنة 1983، فهم يلجؤون إلى “غوغل” أو “ويكيبيديا”.
يندرج هذا الجهل على العاملين بالملف السوري أيضاً، وفي الملف العراقي. وهذا ما يفسر التحليل السطحي للاتحاد الأوروبي، بأن مقتدى الصدر هو “المعتدل بين الشيعة”، وفالح الفياض وصحبه هم “المتشددون”.
هذا التحليل، الذي يصل إلى طاولة صناع القرار في الاتحاد الأوروبي يومياً، ويتم مناقشته على أعلى المستويات، هو ناتج عن مزيج رهيب بين الكسل والجهل. الكسل لعدم رغبة الباحثين الشباب ببذل مجهود كبير في تحضير دراساتهم، وجهلهم المطلق بماضي المجتمع الشيعي في العراق.

فهم يأخذون الأمور كما صُدّرت لهم عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أو كما يقال في الغرب: At face value. الصدر أراد فعلاً أن يظهر نفسه على أنه معتدل عابر لكل الطوائف، وقد أطلق مواقفاً رنانة بهذا الاتجاه، كان أبرزها دعوة بشار الأسد ، حليف إيران، للتنحي سنة 2017.
هؤلاء الباحثين الشباب ارتكزوا على هذا الموقف المعلن في تحليلاتهم، ولم ينتبهوا أن الصدر ذاته كان أول المهنئين لبشار الأسد بعد الانتخابات الأخيرة سنة 2021.
وقد فعلوا ذات الشيء عندما زار الصدر مدينة جدة قبل خمس سنوات، للقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. كان ذلك في أوج الصراع السعودي – الإيراني، وفي ظلّ حرب اليمن المستمرة منذ مارس/آذار 2015. واعتبروا أن لقاءه مع ولي العهد هو خير دليل على أنه “انشق” عن المحور الإيراني، وكتبوا ذلك في تقاريرهم.

ولكنهم لم ينتبهوا إلى أن الصدر ذاته زار إيران في سبتمبر/أيلول 2019، لحضور ذكرى عاشوراء، وجلس إلى جانب المرشد على خامنئي وقائد فيلق القدس قاسم سليماني. ولو كان منشقاً، كما زعموا، لما حظي الصدر بكذا استقبال أو هكذا مجلس.
واليوم، نفس المحللين الشباب يقولون إن نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة هي “تراجع لنفوذ إيران” في العراق، متناسين أن الصدر ذاته، حليف إيران، فاز بثلاثة وسبعين مقعداً من مقاعد السلطة التشريعية، وأن نوري المالكي، حليف إيران الآخر، نال 33 مقعداً، وهو أعلى من حصته في انتخابات عام 2018 (التي كانت 25 مقعد).
قد يختلف الصدر اليوم مع المالكي والفياض وهادي العامري، ليس على مبدأ الإسلام السياسي ولا على القرب من إيران، بل على تقاسم النفوذ فيما بينهم، فقط لا غير. هو خلاف داخل البيت الشيعي، وليس انقلاباً شيعياً على إيران، كما يقولون.
بالعودة إلى لبنان وللحديث عن الفارق بين موقف أستراليا الأخير وموقف الاتحاد الأوروبي. تأخر الأستراليون باتخاذ موقفهم، بعد استنزاف كل فرص الحوار مع “حزب الله”، وكان قرارهم مبني على دراسة معمقة للواقع اللبناني، بعيداً عن الأحلام الوردية وكل ما يُقال في الإعلام.
أمّا في بروكسل فالأوروبيون ما يزالون يعيشون في وهم، وهم قدرتهم على إصلاح ما أفسده الدهر في لبنان، والتأثير على مستقبل هذا البلد عبر الانتخابات النيابية المقبلة، التي حضّرت نتائجها سلفاً، وهي ستكون لصالح “حزب الله” بالمطلق.
لا يمكن للرئيس ماكرون، حتى لو جنّد كل قوة المجتمع الأهلي في لبنان، مع رموز ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول، أن يقلب الموازين داخل البرلمان اللبناني، أو أن يحقق أي اختراق داخلي ضد “حزب الله”.
هو ينسى، أو يتناسى، أن “حزب الله” يملك جيشاً جراراً قادراً على احتلال لبنان، لو لم تكن نتائج الانتخابات لصالحه، وبيده مال وذخيرة لا يملكها أي فريق آخر من اللبنانيين.

وكل التقارير التي وضعت على طاولة ماكرون، عن تعطش لبنان إلى الديمقراطية، هي كلام فارغ، لا يختلف عن التقارير التي كانت تصل إلى البيت الأبيض قبل غزو العراق سنة 2003.
تبين في العراق أن ولاء شيعة المعارضة العراقية كان لإيران، وليس للديمقراطية أو للولايات المتحدة التي أمدتهم بالسلاح والمال.
واليوم على الأوروبيين أن يدركوا هذا الأمر ويقرروا: فإما أن يحاربوا “حزب الله” بنفس السلاح (وهو غير ممكن حالياً لعدة أسباب)، أو أن يحترموا أنفسهم كما فعلت أستراليا، ويبتعدوا عن الساحة اللبنانية، لعدم قدرتهم على تقديم شيء للشعب اللبناني.