حوار سوزان المحمود – الناس نيوز ::
افتتح في التاسع عشر من أغسطس/آب المعرض الفوتوغرافي الأول للمصور والشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر في صالة أسموس/هيلتون كونتمبرري للفنون المعاصرة في شيكاغو، بالولايات المتحدة الأمريكية، تحت عنوان “طقوس العبور، الشعر البصري للروح”، ويستمر المعرض حتى العشرين من أكتوبر/تشرين الأول، ويضم صوراً فوتوغرافية من مراحل مختلفة في قياسات كبيرة ومتوسطة الحجم، وكُتِبت قصائد للشاعر على جدران الصالة بأحرف الفينيل، إلى جانب الصور، من أجل التأكيد على العلاقة بين الفنون، والخروج من الحدود الموضوعة، نحو آفاق فنية إيحائية أكثر عمقاً، وترافق المعرض مع أمسية شعرية قرأ فيها الشاعر والمصور إسبر مختارات من شعره مترجمة إلى الإنجليزية، وسينقل المعرض بعد ختامه في صالة هيليون/آسموس كونتمبرري إلى صالة أخرى تابعة للغاليري نفسها في مجمع مورغان للفنون في شيكاغو.
وأسامة إسبر فنان وشاعر ومترجم سوري صدرت له عشرات الكتب المترجمة والمؤلفة، كان آخرها دواوينه الشعرية الثلاثة التي صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة تباعاً عن دار خطوط وظلال في الأردن، وهي “على طرقي البحرية” (2020)، “على ضفة نهر الأشياء” (2021) و”قال لي جسدي”(2022). كما صدرت له ترجمات عن أهم دور النشر العربية كدار روايات، منشورات الجمل، فصول، والمنظمة العربية للترجمة، وغيرها من الدور الأخرى. وتصدر له قريباً عن دار صفحة سابعة رواية “الغريم”، للكاتب الكندي إيان ريد الذي حقق حضوراً لافتاً في حقل الرواية وترجمت روايته إلى أكثر من أربعين لغة عالمية.
كما يعمل الفنان السوري أسامة إسبر محرراً مشاركاً في القسم العربي بمجلة “جدلية”، ومحرراً ومقدم برامج في “مجلة الوضع الصوتية/ستاتوس”، وهو من طاقم مؤسسة الدراسات العربية في واشنطن.
-“طقوس العبور” هو معرضك الفوتوغرافي الأول، متى وكيف بدأت علاقتك مع الصورة الفوتوغرافية ، وهل لذلك علاقة بسفرك لاميركا؟
نعم، وبعد أن حدثت معي قصة طريفة تتعلق بهذا السؤال وتجيب عنه نوعاً ما، وسأرويها لأن علاقتي مع التصوير الفوتوغرافي بدأت في وقت متأخر. كنت وقتها في شيكاغو، ودعاني الفنان الإيطالي ماركو نيريو روتيللي إلى المشاركة في مشروع فني في أحد أهم متاحف شيكاغو وهو الفيلد ميوزيوم، والمشروع عمل فني يعتمد فن الإضاءة والقراءات الشعرية بلغات مختلفة، ويستلهم الكوميديا الإلهية لدانتي، وقتها أراد منظمو العرض أن يكون للغة العربية حضورها في هذا المشروع بصوت شاعر عربي. وطُلب من كل شاعر مشارك قراءة الكوميديا الإلهية لدانتي واستلهام قصيدة منها، حين قرأت الكتاب كان جحيمنا السوري المؤسف مشتعلاً، وكان أنين الضحايا مسموعاً وشواهد القبور تعلو في كل مكان، فكتبت قصيدة عن هذه الأجواء، عن جحيم آخر عشناه كلنا كسوريين، بطريقة أو أخرى وعلى مستويات مختلفة وفي سياقات متباينة.
في تلك الفترة، وفي جلسة عشاء جمعتني مع الفنان الإيطالي، كنا نتحدث عن الشعر والفن وأريته بعض الصور وربما كانت هناك واحدة التقطتها أنا بالمصادفة فنظر إلي بكل جدية وقال: تمتلك عين المصور، يجب أن تمارس التصوير وتستكشف علاقته بالشعر.
بعد لقائي بروتيللي، دخلت إلى الميدان أهديت نفسي كاميرا وصرت ألتقط الصور، واكتشفت أن هذا يحررني من الداخل، وأن هناك سحراً كان مفقوداً في حياتي. وما شجعني أكثر هو أن صوري كانت تلقى إعجاب من يراها، وبدأت السير على هذا الطريق، والمعرض الحالي ثمرة لكل هذا.
– كيف أثر التصوير الفوتوغرافي في رؤيتك للأشياء، وكيف ترى العلاقة بين الصورة الفوتوغرافية والصورة اللغوية؟
لا شك في أن التصوير أثّر في رؤيتي للأشياء وعمّق اكتشافي لجماليات العالم المرئي، وكما تعلمين دائماً الجمال يتجلى في حياتنا وحولنا وليست له صورة ثابتة، والصورة الجميلة تنبثق فجأة وعلينا أن نلاحقها، بمعنى أن أطيافها تعبر أمام أعيننا وعلينا أن نعرف كيف نلتقطها.
صرت أرى في الأحجار وجوهاً وفي جذوع الأشجار تغضنات جبين أو جلداً بشريّاً، ورأيت كيف تخرج ورقة شجرة من نفسها ومن لونها نفسه حين تتشبع بالضوء وترتديه، وكيف أن الألوان تتبدل وكل ما يمر أمام العينين في تحول مستمر، ولفتت نظري انعكاسات الجسد البشري على الشواطئ الرملية المصقولة وكيف أن هذه الأجساد البشرية تعيش مسيرة الأشياء فتتحول إلى ظلال عابرة.
كانت تربيتي لغوية بالدرجة الأولى، إلى درجة أننا كنا دوماً حين نجتمع نردد الأشعار القديمة، ونغرق في ذاكرتنا وننسى الجمال المحيط بنا. وكما تعلمين إن الشعر العربي بتاريخه العريق وبإيقاعاته الفذة يسكننا، وموسيقى لغته تهدر في دمنا، ولكن الأنا الطاغية في شعرنا بحاجة إلى إزاحة وتفكيك لتحويلها إلى صوت تهمس الأصوات أو تتحدث به، صوت يعرف كيف يصغي ويكون طرفاً في الحوار. حولني التصوير من متحدث يقول الأشياء، ويضعها في قوالب لغوية مُصاغة، إلى مصغ إلى الأشياء، إلى موسيقى وكلمات الأشياء.
أما العلاقة بين الصورة الفوتوغرافية والصورة اللغوية فهي علاقة تنشأ من طبيعة نظرتنا إلى الأمر. بالنسبة لي الصورة الفوتوغرافية شيء والصورة اللغوية شيء آخر. حين نصور باللغة نصف، نصنع مشهداً، أو نرى بعين الكاميرا، كما هو سائد في السرد المعاصر، وفي الكثير من النصوص الشعرية حيث يصبح السياق البصري حاضناً للغة الشعرية أو متوحداً بها، لكن ما يصنع قصيدة ليس ما يصنع صورة فوتوغرافية، فلكل منهما قواعده الفنية، الصورة الفوتوغرافية نتاج العناق بين العين والعدسة، بين المعادلات الداخلية والآلة، أما الصورة اللغوية فهي نتاج فعل تخييليّ، رؤياويّ، تتوحد فيها قوى الجسد الداخلية وتتفاعل مع بعضها بعضاً. نستطيع أن نَعُدَّ الصورة الفوتوغرافية نصاً بصرياً يمتلك كل مقوماته، الآلة التي التقطتها، عدسة هذه الآلة، التقنيات المطلوبة والعين التي ترى بوساطة العدسة، هذه العين التي تكمن فيها القصة كلها. يمكن للصورة الفوتوغرافية أن توحي بصورة لغوية ولكن الصورة اللغوية تتحول إلى صورة بحسب تخيلنا لها، وكيف تتشكل إضاءتها في أذهاننا وما الذي تفعله فينا.
-الحضور الإنساني في صورك يمر كطيف وليس ككتلة مادية لها حضور قوي، هل تشذب سلطته وتعيده إلى حضوره الطبيعي داخل الطبيعة؟
هذا يتعلق بالتقاط الانعكاسات، وبميلي أحياناً إلى التجريد في التصوير الفوتوغرافي، هذه الانعكاسات التي وُلدتْ أمامي والتُقطت صورها، كانت في سياق انعكاسها أقرب إلى لوحات، وخُيل لي أن العدسة قد تصبح ريشة، وأن الكاميرا بوسعها أن ترسم، لا بالمعنى المادي بالطبع، بل بالتقاطها لهذه الأشكال العابرة في سياق يبدو كما لو أنه لوحات هاربة يجب أن توقعها الكاميرا في أشراكها.
لا أقصر تصويري على هذه الأشكال ولعبة الانعكاسات، كما أنني لا أتدخل في تشكلها في سياقاتها الانعكاسية لكنني اخترت هذه الصور الطيفية أو التي تبدو فيها الأشكال كالأطياف لأنني اكتشفت أثناء عملية التصوير وجولاتي مع الكاميرا، أن لهذه الأشكال المنعكسة إيحاءات فنية كما لو أنها مرسومة رسماً، كما اكتشفت أن كل شيء يعبر بسرعة وأن صورة الجمال الهارب التي نلتقطها ستُمْحى بعد لحظة وسيحل شيء ما مكانها، ولهذا سميتُ معرضي طقوس العبور.
وفي النهاية الجسد ابن الطبيعة، رغم العقائد الكثيرة التي تشكل ثقافتنا وتتحدث عن تحولات وعوالم ماورائية، إلا أن ما يجري لأشياء الطبيعة، وبينها الجسد هو هذا التحول، أو لنسمه شعرياً، السفر الدائم بين العوالم.
-الطابع التأملي يبدو واضحاً في معظم صورك، كيف تصف علاقتك مع الضوء وتحولاته؟
يسحرني الضوء، هذه الريشة الماكرة التي ترسم وتمحو على هواها، وهذه التبدلات في الألوان والتي يبدو فيها الضوء تارة طاغياً وحاجباً وطوراً حيادياً وبارداً، وفي أحيان أخرى تتشربه الأشياء وتمتصه كما لو أن الماء يرتديه كي يخرج من زرقته، وترينه في كثير من الأحيان مختلطاً بخضرة المحيط أو بلونه الأرجواني، وحين تميل الشمس نحو الغروب ويكشف ضوؤها الشاطئ فيبدو لوحة مرسومة بريشته، ذلك أن الأشياء تثمل حين يغمرها الضوء، وكل غروب مختلف عن الآخر، ويحضر ألوانه معه، ولهذا لا تستطيعين التقاط الصورة نفسها للعب الضوء، فهو دائماً في تحول مستمر.
هذا الضوء يتوحد في ذاكرتي مع الضوء المتوسطي، ويقودني التصوير، على مستوى آخر إلى عالم الطفولة، وحين تسيرين على الشاطئ وتتأملين الماء والبشر العابرين أو الطيور وأجنحتها الكبيرة فيما الضوء يتوهج فيها، والأصداف حيث تشعرين كأن الضوء يلتصق بقشرتها المتبللة، تدور أفكار كثيرة في ذهنك، وتتذكرين طفولتك، وجميع اللحظات القادمة من الماضي، وكل هذا يولد بطريقة ما مع ولادة الصورة.
- ما الذي تعنيه لك الشواطئ، وهل اقترحت عليك عدسة الكاميرا علاقة جديدة معها؟
الشواطئ عوالم قائمة بذاتها، وحين تقومين بزيارتها بشكل منتظم، وتتجولين في أرجائها ومعك الكاميرا، تتحول المسألة إلى عملية اكتشاف. فمثلاً، قادني هذا إلى القراءة عن أنواع الأعشاب البحرية التي تُطرح على الشاطئ، وكيف تتشكل الصخور، وكيف تتكون الأمواج، ولفتت نظري طيور زمار الرمل، وهي طيور بحرية متوسطة الحجم وجميلة تتميز بمناقيرها الطويلة والحادة وبحركاتها المسرحية على الشاطئ. تنتظر انحسار الموجة ثم تتقدم في صفوف، وتأكل مما تحمله الموجة إليها وحين تعود موجة جديدة أو يرتفع المد، تهرب طيور زمار الرمل عائدة إلى الشاطئ في حركة مسرحية.
ثم تعود أدراجها من جديد حين ينحسر المد كما لو أنها تمارس صيدها بطريقة فنية ومسرحية مدهشة. يحدث أمامك شيء يستحق التصوير، لا بمعنى أنك تلتقطين صور طيور لأسباب علمية، بل لأن حركة الطيور نفسها موحية فنياً.
هذا المسير على الشاطئ مع الكاميرا فتح بصري على موضوعات جديدة ووسع من معرفتي ووظفتُ هذا شعرياً، بدءاً من ديواني الذي صدر في تلك المرحلة عن دار خطوط وظلال في 2021 بعنوان “على طرقي البحرية”.
ثمة معرفة بحرية بدأتُ بتعميقها، قاموس عالم غني متنوع.
ثمة من يقول من العلماء إن الحياة بدأت هناك في قاع ذلك المحيط. ما يوحي به البحر أيضاً مرتبط بقصص السياسة والهجرة والهرب الملحمي والموت غرقاً والقراصنة الجدد من مهربي البشر، ومخيمات حجز اللاجئين الهاربين عبر حدود السجون الجغرافية ومستكشفي العوالم الجديدة وواضعي خرائطها، دوماً تقودني الشواطئ ليس فقط إلى ورودها البصرية التي تفتح أفقاً جديداً للعين، بل إلى واقعها السياسي وتاريخها.
-كيف ترى علاقة كل من الصورة الفوتوغرافية والصورة اللغوية الشعرية بالزمن؟
الصورة الفوتوغرافية الورقية تهترئ وتتلف رغم جهود الحفاظ عليها، أما الصورة اللغوية الشعرية التي أبدعها شعراؤنا الكبار فقد عبرت الزمن إلينا، وثمة أشياء تعبر عبر الذاكرة وتُدون ويحافظ عليها.
بالنسبة للصور الفوتوغرافية، صُنع الأرشيف والأشخاص يحتفظون بذكرياتهم، غير أن ما أريد قوله هنا هو أن الصورة الفوتوغرافية الإبداعية أو الصورة اللغوية الإبداعية كما تتجلى في العمل الأدبي، لا يمحوهما الزمن كما يمحو الأشياء، إنهما اختراق عمودي للزمن، خروج من المقبرة الأفقية التي تُساق فيها الأشياء إلى حتفها وارتحال عمودي نعود إليه دائماً أو نتمسك به كأنه صارية أو كأنه العمود الوحيد فوق ماء الزمن المستنقعي والذي كلما ازداد تمسكنا به نجونا من الغرق.
وإذا عدنا إلى الشعر، لا تزال تعيش فينا أصوات شعرائنا الكبار الذين اخترقوا الزمن وغباره. من لا يردد بيتاً لأبي نواس، أبي تمام، أو أبي العلاء المعري. إن حياة الإنسان صراع، لهذا سميتُ معرضي طقوس العبور، صراع مع سطوة العبور وطغيانها، محاولة للحفاظ على الجمال العابر للصورة.
اليوم كنت أنظر إلى صورة عائلية قديمة جداً متآكلة الأطراف، وقلت كم الصورة هشة كحياتنا، ولا تصمد في وجه الزمن، الزمن الذي من ملامحه التشقق والاصفرار والتقشر والتبدد كغبار في الريح، وكل ما يوحي بالتفكك والتآكل. حتى الصورة اللغوية تحتاج إلى وطن من الورق كي تعيش فيه، كل الأشياء بحاجة إلى وطن، لكنها أوطان عابرة ويكافح الإنسان كي يطيل حياتها ويعاود اكتشافها كي تظل الذاكرة الإبداعية حية.
انظري إلى الذين اكتشفوا ألواح ملحمة جلجامش، فقد أنقذوا بهذا صوت حضارة كاملة من الموت. في غبار هذا الزمن العابر نتمسك بالصورتين، نحاول أن نعبر متكئين عليهما إلى عالم أفضل، أو فسحة وجود أجمل، وهنا تكمن أهمية الفن.
قال لي أبي مرة كل شيء يموت ولا يبقى إلا الحبر على الورق، وكنا نتحدث وقتها عن أيهما أهم الصورة الفوتوغرافية أم القصيدة. أصر هو على الحبر، على ما يخطه الإنسان بيده والذي حوفظ عليه أو أعيد اكتشافه على مر العصور غير أن ما يمنح حياة لكل هذا هو العين التي تقرأ، العين التي تشاهد، العين البشرية التي حيّرت داروين وشككتهُ بنظرية التطور والتي تديم من عمر الأشياء.
في معرضي تجاور بين الصورة والقصيدة، فقد طلبوا مني في الصالة قصائد تتعلق بكل صورة، ومع كل صورة كُتبت قصيدة على جدران الصالة باستخدام أحرف الفينيل التي ألصقت على الجدران، وكان الهدف هو أن يدخل المشاهد ويقرأ القصيدة ويشاهد الصورة، ويرى إنْ كان يمكن أن يجد علاقة بين الاثنتين، وفي الحقيقة كان هذا الجمع موفقاً، كانت الصورة الفوتوغرافية تتجاور مع الصورة اللغوية كما تتجسد في القصيدة، ما خلق أفقاً بصرياً في الصالة يتقاطع فيه الشعر مع الصور الفوتوغرافية بصرياً، أما من ناحية الموضوع فالمسألة تتعلق بالإيحاء والتلقي وكل شخص تُثار في ذهنه مشاعر أو انطباعات مختلفة حين يشاهد صورة، أو يقرأ قصيدة.
-عندما تتحدث عن الوطن تبدو صور ذاكرتك لغوية أكثر منها صورية ، كيف تراه بعد هذه السنوات؟
يسافر الإنسان ووطنه في داخله، الأهل والأصدقاء وجمال الطبيعة وعوالم الطفولة، وكل هذا يتحول إلى صور توحي وتشير في الداخل، ومفهوم الوطن مفهوم معقد، وفي جذره اللغوي ما يوحي بمعناه، غير أننا لا نستطيع أن نقول إن الوطن هو هذه الذكريات، أو ما يقوله معناه اللغوي في القاموس أو في اللغة السياسية السائدة التي تحول الوطن إلى كهف أو سجن أو ثكنة، أحياناً حين يكتب المرء عن ظروف أو أوضاع معينة تفور لغة الغضب وتتقد نار العواطف، وما يأتي بعد ذلك شحنات لغوية متفجرة.
نحن بحاجة إلى وطن لجميع السوريين بمختلف مشاربهم وقومياتهم وأديانهم وعقائدهم وانتماءاتهم ولغاتهم، وطن لا يكون فيه مفهوم الهوية ضيقاً، أو مفروضاً كأيديولوجيا أحادية خانقة، وطن لا فرق فيه بين مواطن أو آخر، وطن نسمع فيه لغات كثيرة إلى جانب اللغة العربية دون أن تكون هناك شبهات تحتاج إلى جيوش لمحاربتها.
هذه صورة الوطن التي أحلم بأن تعلق على أحلامنا، والتي ألتقطها دوماً في ذهني. سوريا التي أحلم بها هي هذا التنوع اللغوي والحضاري والقومي والديني والتعددية السياسية المدهشة التي لا يمكن لصوت واحد أو توجه واحد أن يخنقها فالروح السورية روح ضاربة في التاريخ وجمالها يكمن في تعدديتها، ولهذا تحتاج إلى رؤيا سياسية تتجسد في دولة تعبر عن هذا التعدد والتنوع. تأتي أحياناً اللغة بحسب الطريقة أو بحسب الإيحاء الذي دفع في هذا الاتجاه.
– وانت تعرض صورك وقصائدك في صالة هيلتون أسموس كونتمبرري للفنون المعاصرة لأول مرة ، كيف تلقى الجمهور الأمريكي أعمالك؟
أشعرُ بسعادة غامرة أن أعمالي ، في معرضي هذا ، لاقت إعجاب من شاهدها والفضل في ذلك يعود لغاليري هيلتون/أسموس كونتمبرري التي أتاحت لي الفرصة لأن أرى أعمالي معلقة على جدران صالتها العريقة وبقياسات مختلفة.
امتناني كبير لمديرة الصالة الفنانة والشاعرة أريكا هيلتون التي اعتقدت أنها اكتشفت مصوراً فوتوغرافياً حين قدمتني. وبالنسبة لي أعدّ هذا نقلة نوعية خاصةً في أمريكا، وأنا مدرك لأهمية هذه الخطوة الأولى غير أن الصمود في عالم الفن ليس سهلاً ويحتاج إلى عمل دؤوب متواصل.
وفي النهاية، إن من يحكم على الصور هو المشاهد، فهي له في النهاية، وكل شخص ينظر إليها بطريقته، غير أنه يمكنني القول إنني أشعر بسعادة غامرة بسبب الانطباعات الأولى والإقبال الذي لاقاه المعرض وآراء الحضور وكان بينهم فنانون تشكيليون ومصورون فوتوغرافيون وأكاديميون، وأود أن أذكر موقفاً طريفاً حدث معي أثناء افتتاح المعرض. جاءت إليّ امرأة تتوهج جمالاً وقالت أريد أن أقول لك شيئاً قبل أن أغادر، فقلت تفضلي:
قالت: وأنا أشاهد صورك تمنيت لو أنني قادرة على أن أدخل إليها وأعيش فيها، فلقد شعرت بطمأنينة وبأنني في عالم مريح وأنا أتأملها.
كان ما قالته المرأة ثروة بالنسبة لي، وأشعرني بقيمة العمل الفني، وما يمكن أن يولّده لدى المشاهد، وأن العمل الفني الإبداعي قادر على التأثير في المشاهد وجعله يشعر بأنه ليس وحيداً في هذا السديم.