زينب الحسيني – الناس نيوز :
يغيب صوت فيروز عن صباحات السوريين، فمنذ نحو أسبوعين لا موسيقى سوى موسيقى العرس الأسدي ، لا صوت يعلو فوق صوت الدبكة والطبل والزمر، سوريا الأسد التي ولدت قبل 50 عاماً، تحتفل بفوز أسدها الوريث بشار بولاية جديدة.
أسير في شوارع دمشق، لا أرى سوى صور الوريث بشار معلّقة على الجدران، وفي الساحات والشوارع، أضحك في سري، أتذكر صورة “الأخ الكبير” في رواية 1984 للكاتب الانكليزي جورج أورويل، ثم أزم شفتيّ خوفاً أن يراني أحد، ويعرف سبب ابتسامتي البلهاء وسط الشارع، أو ربما يأتي أحد الشبيحة ويسألني: “ليش عم تضحكي ولاك ” ؟.
وكأننا نعيش داخل هذه الرواية، صور “الأخ الكبير” منتشرة في كل مكان، كل شيء خارج سياق تفكير الحزب يعتبر جريمة فكر.
خلال هذه الجولة، سمعتُ أُغنية “مثل الشمس جبينك عالي”، أكثر من 20 مرة، رأيت صوراً للرئيس وأعلاماً ترفرف، وسيارات وطنية تحمل العروبة على ظهرها، وتسعى لتوحيد الأمة العربية، بينما يبحث أهل المدينة عن دور في طابور الخبز.
ورأيت أيضاً خلال جولتي، شخصيات أعرفها جيداً، ماسكة بالدبكة على الأول، إنهم من أكثر المستفيدين من نظام الحكم القائم في سوريا، فقد حوّلهم من أناس على قارعة الطريق إلى أعضاء في البرلمان والحكومة وطواقم عصابات الفساد .
تساءلتُ مراراً، لماذا تخرج كل هذه الجموع وتهتف لبشار الأسد؟ بينما معظمهم إن لم نقل جميعهم، لا يملكون ثمن وجبة طعام آدمية، تذكرتُ جملةً من الرواية يقول فيها أورويل: “اللغة الفاسدة تنتج فكراً فاسداً، والفكر الفاسد ينتج لغةً فاسدةً”، لذلك يقوم الحزب بصناعة لغة جديدة تسمى Newspeak للتحكم بفكر الشعب كما يريد”.
وأكثر ما آثار ضحكي، رؤية جارنا في حيّنا القديم، يحتفل في العرس الوطني، لم استغرب، كان يعمل كمساعد أول في الجيش، ويعلّق صورة لعائلة الأسد وسط صالة منزله تحسباً لأي طارئ أمني، وفي الوقت ذاته يشتم الرئيس والنظام والحكم والوضع والاقتصاد ويشتم العسكرية أيضاً.
رأيتُ أشخاصاً كانوا قبل ساعات يشتمون الرئيس أمامي، لكنهم نزلوا إلى الساحات بأسلحتهم، يطلقون الرصاص احتفالاً بفوز الأسد، ربما لأنهم من هواة إطلاق الرصاص، أياً تكن المناسبة.
حاولت خلال جولتي، أن انفصل عن الواقع، أن أتحوّل إلى شخص أطرش ضمن عرسهم ” الأسدي الوطني الكبير “، بدأت الذكريات تدفق الى مخيلتي، تذكرتُ زيارتي الأخيرة إلى بيروت، سألتُ صديقاً لبنانياً: “لماذا لا تعلّقون صور الرئيس في الطرقات”؟ أجابني: “حبيبتي أنت منّك بسوريا الأسد”.
قلت له معك حق ، لكنهم يحولونكم منذ عقود الى ” نصراللهيون ” اذا جاز التوصيف ، فماذا انتم فاعلون ؟ ثم عدت وتساءلتُ، من أطلق عليها اسم سوريا الأسد؟ ضحكت من نفسي، هل يمكن لسوري أن يسال هذا السؤال؟
ولأن معظم الشباب لا يقرؤون ولا يعرفون الكثير عن تاريخ سوريا السياسي قبل حكم الأسد، لن يصدق أحدهم أنه خلال ما يُـناهِز نصف قرنٍ بين (1922 – 1970)، تـمَّ تداول السُّلطةِ 28 مـرَّة، بينما اقـتـصرَ تـداولها على مرتين فقط خلال نصف القرن التالي في ظِلِّ حُكم عائلة الأسد (1971 – 2020)، يُوضِّح ذلك الاخـتلاف الجذري بين إدارة عائلة الأسد للبلاد وإدارة مَن سَـلَـفَهم.
لا أقول إن سوريا كانت بلد الديمقراطية المثالية ، لكن قراءة بسيطة للحياة السياسية قبل عائلة الأسد، تؤكد على حيوية تلك الفترة.
وعلى سبيل المِثال، قبل انقلاب حافظ عام 1970 تَولَّى ستةُ رؤساء السُّلطةَ أكثر مِن مَـرَّة، ممَّا يُدلِّل على تَسامح المناخ السياسي حينها، وهو الواقع الذي نسفته عائلة الديكتاتور الأسد كلياً ، وحوّلت سوريا إلى دولة أمنية من الطراز الأول.
وقبل عام 1970، كان مُتوسِّطُ وِلاية كلِّ رئيس لا يتعدَّى ثمانية عشر شهراً. بعد هذا العام، ولدت ” سوريا الأسد “، حيث عزَّزتْ عائلةُ الأسد سُلطـتَها من خلال القيام بـأمورٍ لم يَسبق لها مثيل في
تاريخ سوريا الحديث.
واعتقل حافظ الأسد زُملائه في مجلس قيادة الثورة، عبر انقلابٍ عسكريٍّ عام 1970 أَطلق عليه اسم “الحركة التَّـصحيحيَّة”، عاد الضحك مجدداً، عندما تذكرت مرّةً سألتُ فيها أستاذ القومية في الصف الثاني الثانوي: “شو يعني حركة تصحيحية أستاذ”؟ فأجاب: “سدي بوزك”.
وسط الأجواء الوطنية التي تملأ الشوارع احتفالاً بالتجديد لأسدهم ، وأيضاً احتفالات عالم فيسبوك الأزرق، وتصدّر اسمه عناوين الصحف، والخبر الأول في نشرات الأخبار، تذكرت رجلاً قرأت عنه، اسمه شكري القوتلي، الرجل الذي تنازل عن الحكم لأجل وحدة سوريا مع مصر.
والحديث عن شكري القوتلي يقودنا للحديث عن هاشم الأتاسي، ثاني رئيس للجمهورية السورية لولايتين، الأولى بين 21 ديسمبر 1936 و7 يوليو 1939 والثانية من ديسمبر 1949 وحتى 6 سبتمبر 1955.
وعندما انتهت مدة رئاسته، كتب بكل طيب خاطر في خطابه: “ببالغ السرور أسلّم مقاليد الرئاسة لرجل عُرف بصدق عزيمته، وعظيم إخلاصه لوطنه، وحرصه على مصلحة بلاده، صاحب الفخامة الرئيس شكري القوتلي، وأسال الله القادر على كل شيء، أن يمده بمعونته، حتى يحقق أفضل الأماني المعقودة على رئاسته الجديدة”.
كانت سوريا في تلك الحقبة، بلداً ديمقراطياً يملك حكومة منتخبة يقودها الرئيس شكري القوتلي، ومن أوائل البلدان التي شهدت مناخاً كبيراً من الحريات بعد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي عام 1946،
وأدى ذلك المناخ لبروز أحزاب وتيارات كثيرة، منها الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي، إلى أن جاءت الوحدة بين سوريا ومصر، ومهّدت الخلافات خلال فترة الوحدة، لتحوّل سوريا إلى دولة أمنية، ثم جاء انقلاب حافظ الأسد في العام 1970، وقضى على هذا المناخ السياسي بالكامل.
وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل 11 يناير 1958، هبطت طائرة عسكرية تحمل 12 ضابطاً سورياً من المجلس العسكري في مطار القاهرة، يحملون معهم مذكرة بإعلان الوحدة الشاملة مع مصر والانضمام لحكم جمال عبد الناصر، وهي الوحدة التي أعلنت لاحقاً في فبراير شباط من نفس العام.
وتنازل الرئيس شكري القوتلي طوعياً عن رئاسة الجمهورية العربية المتحدة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كرّمه بلقب “المواطن العربي الأول” وقال: إنه “الوجه العربي المشرق لسوريا”. ورغم أن الوحدة لم تحقق تطلعات القوتلي إلا أنه عندما تنازل عن الحكم لأجل مستقبل بلده، كان رمزاً للقائد العظيم الذي لم تنتج سوريا مثله بعدها.
وقال فيه الكاتب والصحفي المصري مصطفى أمين: شكري القوتلي الرجل الذي لم يقم بانقلاب ليجلس على الكرسي، ولم يسعَ لنشر اسمه في عناوين الصفحات الأولى، ولا تذكره محطات الإذاعة في نشراتها، كان رئيس جمهورية سوريا، ضحى بمقعد الرئاسي في سبيل الوحدة، كنت تراه في اجتماعات الوحدة متعجلاً لها متلهفاً إليها، كان هذا يعني أنه سيصبح عند تحقيقها بلا منصب ولا نفوذ ولا رئاسة، يفعل ذلك بروح المؤمن بالرسالة، والسعيد بوضع حجر في بناء حلم عظيم.
وفي يوم 30 يونيو حزيران 1967، توفي شكري القوتلي في بيروت عن عمر ناهز 75 عاماً، أثر تعرضه لذبحة قلبية عند سماعه نبأ سقوط هضبة الجولان في يد إسرائيل. وأُعيد جثمانه إلى دمشق مجللاً بالعلم السوري، فهل سنشهد ولادة شخصية وطنية جماهيرية مثل شكري القوتلي لا يهمها الاحتفاظ بالكرسي بقدر اهتمامها بمستقبل البلاد، ربما أصبح الأمر أكثر صعوبة في زمن الأعراس الأسدية والخطابات المجبولة بالذل والدم .