د . منير شحود – الناس نيوز ::
اللوحات التشكيلية واللوحة الرئيسة – للفنان السوري بسيم الريس
كانت تتردد نكتة في سوريا حول بعض المهن النبيلة التي تم امتهانها والحطّ من قيمتها في العقود الأخيرة، كمهنة التعليم، فحين يسأل سائل أحدهم عن مهنته، فيجيب الآخر بأنه معلم أو مدرس، يُطرق السائل خجلاً ويقول معزياً: “شو عليه.. الشغل مش عيب”! ذلك كنوع من التضامن مع المعلم لما آلت إليه مهنته، مقارنة بأساليب عيش مستحدثة تعتمد على الفهلوية في الحصول على المال بأية طريقة، كالنصب والاحتيال والتهريب والسرقة.
لم يكن المعلم قديساً بالطبع، هو ابن مجتمعه الذكوري الأبوي، لكن مهنته كانت تلزمه بأن يبدو كذلك، فيتم التغاضي عن سلطته المستبدة لقاء نشر العلم والمعرفة، حتى لو بالغ في معاقبة طلابه واستخدم ما ورثه من أساليب تربوية قاسية كالعصا والترهيب، فمثل هذه المقايضة كانت مقبولة وابنة عصرها.
لكن، لو تطور المجتمع بصورة طبيعية وتدريجية، كانت رهبة المدرس ستتحول إلى ضرب من الاحترام، فالرهبة لم تنفصل عن الإعجاب بشخصية المعلم والإحساس بهيبتها.
أما وقد سادت القبضة الأمنية، فقد صرنا جميعنا صغاراً مذعورين ومحدودي الخيارات أمام سطوتها، وصارت عصا المدرس هي الرحمة بذاتها مقابل ما يمكن أن يحدث لنا لو خرجنا عن عصا طاعة السلطة الجديدة، أفراداً أو جماعات.
لقد وجدت القبضة الأمنية ضالتها في الموروث الاجتماعي، فقامت بانتقاء الجانب العنفي من هذا الموروث، كركيزة لسلطتها، وتصعيده إلى مرتبة جديدة لا رحمة فيها، فعممت الطاعة ومأسستها، من دون أن تترك للمجتمع أية فسحة لإدارة شؤونه بطريقة لا تخلو من الرحمة، وإن فعلت، كما في بعض الجوانب الاجتماعية والدينية، فتبقى هي المرجعية النهائية التي توجه الوعي بصورة مباشرة (القمع) أو غير مباشرة (الخوف).
ومع الوقت، تحول الخوف الطبيعي إلى رهاب مرضي لا فكاك منه إلا بالهروب خارج إطار صلاحيات السلطة، أي الهجرة أو العزلة، ولو أن المرء لا بد وأن يحمل معه آثار دماره الروحي ويتمه ورهابه، حتى لو سافر إلى الفضاء الخارجي.
ولاحترام المعلم علاقة بالتراتبية الاجتماعية الضرورية لضبط تصرفات الأفراد، وبغيابها، لصالح سلطة قاهرة صارت تحكم المجتمع كقوة خارجية، مُسخ المجتمع إلى مجرد قطيع يوحده الخوف وهو يهيم باحثاً عن الأمان بلا جدوى، وتدمرت علاقاته إلى درجة لم يعد قادراً بعدها على احتضان القيم الاجتماعية التي راكمها مع الزمن، على علاتها.
والمعلم، بما يفترض أن يحمله من قيم تربوية تنويرية، يصبح عاجزاً ومقيّداً ويفقد دوره لصالح هذه المساواة القهرية، ويتحول، بيد السلطة ومناهجها المؤدلجة، إلى أداة لتدمير القيم التي يفترض أن يحميها ويدافع عنها ويطورها.
كما أن غياب القانون، الذي هو السلطة الوحيدة التي يمكن أن تنشر الطمأنينة والسلام في المجتمع، حوَّل الناس إلى مجرد رعايا يخافون بعضهم بعضاً على الرغم من اجتماعهم سوية، فالمساواة في هذه الحالة هي مساواة في الخوف، ولا يُستثنى المدرس والطالب من هذه العلاقة، فلا يعود للقيم الاجتماعية أي دور في تنظيم العلاقة بين المعلم وطلابه، والتي أساسها الاحترام والرعاية والعطاء اللامحدود.
ويصل الإذلال إلى أقصى مداه حين يقع المدرس تحت رحمة ضغط الحاجة المادية، حيث كل الأساليب التي يمكن أن يلجأ إليها لا تفعل سوى الحطّ من كرامته وقيمة مهنته، وفي مناخ يسوده نمط حياة لا يتعدى تأمين الاحتياجات الغريزية الضرورية.
وفقد المعلم ما بقي له من احترام حين سُرق اسمه، واستخدم لوصف علاقة العبودية الجديدة، فكل سيد في أي موقع أو رتبة هو معلم، ولا يسود سيد من دون عبد، وقد انقسم المجتمع إلى أسياد وعبيد، وتكفل الإعلام الرسمي بالتمويه على هذه العلاقة من خلال أكاذيب بلغت عنان السماء.
في هذه الظروف يكون البحث عن الخلاص فردياً وحسب، لصعوبة الانتظام الجماعي أو لتكرر فشل محاولاته.
ولكن، ماذا لو أصر المعلم على المحافظة على شرف مهنته؟ في هذه الحالة سيتحول إلى شخصية قيمية لا مكان لها في عالم المحسوبيات والقيم المزيفة، وسيضطر لاختيار تكيَّته/ زاويته ليحشر نفسه فيها بعيداً عن أنظار الشامتين، فحيث تسود شريعة الغاب والقوة والفظاظة لا مكان لقيم تربوية أو إنسانية أن تنمو وتزدهر.
مثل هؤلاء المعلمين هم من يحملون بقايا القيم ويحنون عليها حتى لا تموت، كما يفعل آخرون في مجالات أخرى، بهدف الحفاظ على روح المجتمع من الضياع والانسحاق تحت ضغط السلطة الشمولية، فيلجؤون إلى أسلوب حياة متسامٍ يشبه استعذاب الموت بما يحمله من راحة للروح وسكون للنفس.
أتذكر راحة البال التي غمرتني بإحساس جميل ومريح حين عرفت بصدور قرار فصلي من التعليم الجامعي عام 2006، فشعرت كأن حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدري، وكم عاتبت نفسي على تحملي لكل هذا الحيف سنوات عديدة، ولهذا التفاني المبالغ فيه لدرجة الاحتراق، وكيف لم أجرؤ على اتخاذ مثل هذا القرار بإرادتي من قبل.
على الأقل، كنت تجنبت تلك اللحظات المريرة والكريهة، حين كان يأتي عبد يعمل لحساب سيده ليضع نهاية سبطانة بندقيته في بطني، ويلكزني بها بالتزامن مع تهديداته المتكررة: “بدك تنجحو”! أو أن يخطفني عناصر مرافقة أحد “المسؤولين” من أمام بيتي لأحلّ ضيفاً على معلمهم الذي يحاول فرض إرادته عليّ عبثاً.