د. محمد حبش – الناس نيوز ::
هي أشهر قواعد الإسلام في دعم رسالة العقل إلى الغاية واحترام الحرية الفكرية، وتقدير البحث العلمي، وقد أسهمت في التاريخ بدعم الفقه الإسلامي والفكر والفلسفة إلى حد بعيد، حيث بات الجميع يشعرون باحترام الشريعة لما يفكرون به أو يكتبونه، وفي هذا السياق ظهرت التيارات العقلانية في الإسلام المعتزلة وإخوان الصفا والفلاسفة والدهريون، وعلى الرغم من التناقض الواضح لما يكتبونه مع عقيدة السلف، فقد ظل السياق العام للمجتمع يتقبل وجود هؤلاء المختلفين، وظلت أفكارهم وأشعارهم يرويها الشعب بمتعة وغبطة، على الرغم من النزق والعصبية التي تسببها للمتعصبين ورجال الدين.
وفي العصر العباسي اشتهرت منصة الخلفاء التي كانت تعقد للمناظرات، ولعل من أشهر الروايات في الخيال الشعبي منصة أبي جعفر المنصور التي كان يبسطها للحوار الفكري، وذات مرة دعا أبا حنيفة لحوار رسمي يحضره الخليفة والناس لمواجهة الدهريين من الفلاسفة الذين ينكرون الخالق، وحين بدأت المناظرة تخلف أبو حنيفة ساعات، واشتد قلق الناس والخليفة من فشل المناظرة، ولكنه حضر في النهاية بعد تأخر ساعات، وحين حضر برر تأخره بأنه كان في الضفة الأخرى لدجلة ولم يجد مركباً يعبر به، ثم فجأة رأى خشباً ومسامير وسارية يضرب بعضها ببعض فتجمعت الخشب والمسامير وصنعت له سفينة صغيرة عبر منها إلى الشاطئ، وحين قال ذلك غمز خصومه من استهباله وقالوا للخليفة إن صاحبك مجنون وليس أهلاً للحوار، ولا بد أن أبا حنيفة انتظر قليلاً حتى تتالى الغمز والهمز واللمز ثم فاجأهم بقوله: إذا كان من يصدق صناعة قارب صغير بدون صانع مجنوناً، فأين تضعون أولئك الذين يصدقون خلق السموات والأرض بدون خالق؟
لا يهمني في الواقع سند الرواية وربما لم تحصل أصلاً، ولكن ما يهمني هو أن الخيال الشعبي تقبل ذلك بنشوة ورواها على المنابر وباتت أشهر قصص البرهان والحجة على الملحدين، ويمكنك قراءتها في عشرات الكتب الأدبية، وبجولة بسيطة على غوغل ستجدها في عشرات الكتب المطبوعة.
القصة مفحمة وملهمة، ولكن السؤال الأهم فيها هو أين ذهب هؤلاء الدهريون بعد أن انتهت المناظرة؟ وماذا فعل الخليفة بهؤلاء الملاحدة بعد أن قامت عليهم الحجة الدامغة بما نطقت به ألسنتهم وشهدت أيديهم؟
لا شك أن ربعنا الذين يتصدون اليوم للخطاب الديني سيحكمون تلقائياً بأن الخليفة أقام عليهم الحجة المطلقة، فمن آمن منهم عصم نفسه وماله، ومن كفر فقد ألقيت عليه الأغلال وذهب إلى السجون لعيناً مرذولاً، وضرب على رأسه بالدرة التي ضرب بها عمر بن الخطاب المتشكك صبيغ بن عسل حتى يخرج منه الخبث الذي أودعه فيه الشيطان! .
ولكن الواقع أن الخلفاء لم يفعلوا ذلك، وأن الغالب والمغلوب في المناظرة كانا في مكان واحد من الاحترام والتقدير، وأن هؤلاء الفلاسفة الدهريين استأذنوا الخليفة وانصرفوا من المناظرة ليكتبوا كتباً جديدة، وليعلموا أفكارهم من جديد، ولا تزال كتبهم التي كتبوها ونشروها في الناس معروفة ومشهورة ومنها كتب ابن الراوندي والرازي الفيلسوف وشعر أبي العلاء وغيره كثير يروى بكل وجه، ولم تقم حفلات إحراق كتب الفلاسفة أو زجهم في السجون إلا في سياق سياسي، وهو مهرجان بائس كان يتكرر وفق رغبة المستبد، ولم يسلم منه فكر متنور ولا فكر مطموس، والعناء الذي كابده أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وابن تيمية وابن القيم من المستبد لا يختلف عما لقيه ابن سينا وابن رشد وابن المقفع وغيلان الدمشقي ولسان الدين ابن الخطيب.
ولم تمض بعد المناظرة إلا سنين قليلة حتى كان المأمون يؤسس بيت الحكمة ليترجم كتب الفلسفة، حيث كان يصرف للمترجم ثمن الكتاب ذهباً، ومن المؤكد أنها لم تكن كتب فقه وحديث وأصول، ولا كتب التفسير والسنن، بل كانت كتب الفلسفة اليونانية والسريانية والحبشية والرومية، وكانت طافحة بعقيدة قدم العالم وعقلنة النبوة ونقد النص الديني، وكان ذلك يتم في أزهى عصور الإسلام نضارة وحيوية.
لقد أمكن تماماً أن يعيش المتناقضان من مؤمنين وملحدين في سياق حضارة واحدة، ويكون لكل منهما مساحته وأفقه، ولا ينبغي أن نهتم بهذا الدلع الذي يطالب به العلمانيون حين ينتظرون شكر الناس وثناءهم على ما يقدمونه من فكر، على الرغم من أنهم يهزون قناعاتهم ويسفهون تقاليدهم، بل إن كل ما جرى من اضطهاد كان في الواقع سياقاً واحداً متصلاً لا يخرج عن سنة التاريخ.
وهذا الموقف سبق إليه عدد من أشهر الأئمة في الإسلام ومنهم الإمامان الجليلان الجاحظ والعنبري، حين صرحا بوضوح أن المجتهد مأجور عند الله إن صدق في بحثه ونظره، سواء وصل بنظره واجتهاده إلى التوحيد أو وصل إلى أي اعتقاد أو دين آخر، ومدار الاحترام هنا هو اجتهاده وسعيه وليس مطابقة اختياره لاختيار الفقهاء.
الفكر ليس ذنباً ولا خطيئة مهما كانت النتائج التي انتهى إليها، بل هو اجتهاد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وهذا هو جوهر القاعدة النبوية الذهبية للمخطئ أجر وللمصيب أجران، وهذه القاعدة الذهبية التي نص عليها النبي الكريم هي من أبلغ قواعد العقل وأكثرها شجاعة وجرأة ولكننا كالعادة نلقي عليها سياقاً ثقيلاً من الشروط تخرج بها عن روحها ومعناها فتبلغ في النهاية أن من اجتهد وفق شروطنا ووصل إلى النتائج التي حددناها له فهو المجتهد المأجور المشكور، وأما أولئك الذين استخدموا عقولهم بحرية ومسؤولية فهم مطموسو البصيرة ولا ينفع معهم إلا الدعاء بالويل والثبور جزاء ما خربوا من العقول وسودوا من الأفكار.
لا أقول بأن الجميع على صواب، فلا يقول بصواب المتناقضات إلا مجنون، ولكنني أقول إن الجميع على حق، إذا كانوا يستخدمون عقولهم بإخلاص مهما كانت النتائج التي انتهوا إليها.
متى نتعلم أن حق الناس أن يفكروا، وأننا لا نمثل محور الحقيقة في الأرض، بل نحن أمة بين الأمم، وأننا لسنا أبناء الله وأحباءه، بل نحن بشر ممن خلق، وأن أعلم رجل في الدنيا وأحكم رجل في الوجود: ليس عليهم بحفيظ، وليس عليهم بوكيل، وليس عليهم بمسيطر .