[jnews_post_author]
في مثل هذا اليوم وقبل أربع وسبعين سنة، أُعدم النائب سلمان المرشد شنقاً في ساحة المرجة بدمشق يوم 16 كانون الأول 1946. ولعله أحد أكثر الشخصيات المعاصرة المثيرة للجدل في تاريخ سوريا الحديث، لكونه مرتبطا بقضية النبوة التي أثيرت ضده ولاحقته حتى الممات. ولكن في قصة المرشد الكثير من المغالطات التاريخية، ابتداءً باسمه (فهو سلمان وليس سليمان) وصولاً إلى سبب إعدامه، سنحاول المرور عليها سريعاً في هذا المقال.
في مذكراته يقول أحمد السيّاف، أحد رجال الزعيم ابراهيم هنانو، إنه عندما التقى بالمرشد لأول مرة قال له: “أهذا أنت سلمان؟” ثم يضيف: “ورحت أشرح له الشكل الذي تخيلته، وقد تمنطق بالجناجر والقناديل كفارس من فرسان الكهوف، وإذ به شاب وسيم الطلة، أنيق الهندام.” كان هذا يوم تعيين السياف مديراً للريجي، فقال له المرشد: “إننا تحت أمرك، وعلى استعداد لتنفيذ طلباتك، ولا أريد إلا شيئاً واحد وهو أن تفرض إرادتك على موظفيك كي يعاملوا العلوي المعاملة نفسها التي يعاملون بها السني والمسيحي.”
كان هذا هو خلاصة مشروع سلمان المرشد، تقوية الطائفة العلوية من الداخل وخلق زعامة لنفسه بين فقرائها تضاهي زعامة العائلات الإقطاعية الكبرى، من آل كنج والعباس وإسماعيل. عرفه الناس لأول مرة سنة 1923، عندما قيل إنه أصيب بالوحي (وعلى حسب التقارير الفرنسية كان ذلك نتيجة صرع أدى إلى غيابه عن الوعي). كبرت شعبيته بين الفقراء، وصار له مريدون كثر، جنوا مالاً وفيراً له ولنفسهم بطرق ملتوية وغير قانونية، من إتاوات وغرامات وضرائب حماية. وقد أشيع بين أبناء الجبل يومها أنه قادر على صنع المعجزات، كإخراج كمية من المياه من إصبعه الصغرى مثلاً أو شفاء المرضى ومساعدة المحتاجين. لا نعلم إن كان هذا الكلام من صنعه أو من مخيّلة أتباعه البسطاء والأميين. ولكن كثرة تداوله أدى إلى اعتقال الرجل من قبل سلطة الانتداب الفرنسي ونفيه إلى مدينة الرقة على ضفاف الفرات. لم ينفع ذلك باحتواء ظاهرة “المرشد” بل على العكس تماماً، تضاعفت شعبيته حتى وصل عدد أتباعة في منتصف الثلاثينيات إلى ما يقارب أربعين ألف رجل، أدخلوه المجلس النيابي بشكل ديمقراطي وشرعي سنة 1936، وكان ذلك في عهد الكتلة الوطنية.
لم يجاهر المرشد بأي مشروع انفصالي داخل المجلس، بل أقسم اليمين على حماية وحدة الأراضي السورية واحترام سيادة الدولة على منطقة جبال العلويين، التي أعيد ضمها إلى الجمهورية السورية بموجب اتفاقية موقعة في باريس بين الرئيس هاشم الأتاسي ورئيس وزراء فرنسا ليون بلوم. كان المرشد نائباً مسالماً ومنضبطاً، كما تشير محاضر المجلس النيابي. ولكنه سرعان مع تراجع عن هذا العهد بعد سقوط حكم الكتلة سنة 1939 وإعادة سلخ الجبلين، العلوي والدرزي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. هنا بدأ المرشد بحركته الانفصالية الشهيرة، التي سعت إلى تكريس زعامته بين العلويين. ولكن قنواته ظلّت مفتوحة مع الجميع، مع الحركة الوطنية من جهة ومع الفرنسيين من جهة أخرى، مما يشير إلى أن الزعامة كانت هدفه الحقيقي، سواء تحققت تحت حكم الانتداب أو في ظل جمهورية سورية موحدة ومستقلة.
ومن المعروف جيداً أن الحكومة الوطنية أمرت باعتقاله بعد خروج الفرنسيين بأشهر قليلة، بتهمة إثارة الشغب وحمل السلاح غير المرخص في وجه الدولة. هنا دار جدل كبير بين رجالات الحكم بدمشق، فرئيس الحكومة سعد الله الجابري أراد إعدامه في جبال العلويين، ليكون عبرة لكل من يفكر بالانفصال عن الدولة. وقد أيده بذلك محافظ المنطقة عادل العظمة. أما الرئيس شكري القوتلي فقد فضل التفاوض معه والتوصل إلى حل يرضي للطرفين، يحترم سيادة الدولة و وحدة الأراضي السورية مع تكريس زعامة المرشد في قرى العلويين وجبالهم.
سلمان المرشد لم يَدّعِ يوماً أنه نبي، ولم يشبّه نفسه لا بل المسيح أو بمحمّد، بل كان يقول إنه مجرد “إمام العلويين” و“مصدر نور” و“وحي” في بلادهم. ولكن قضية النبوة استخدمت ضده بشدة من قبل العائلات الإقطاعية العلوية، للنيل من سمعته أمام الناس وإعطاء الدولة الذريعة الكافية لاعتقاله. المرشد لم يحاكم بتهمة النبوة والهرطقة، بل لأنه قتل زوجته “أم فاتح” خلال محاصرة منزله. أي أنه أعدم بسبب القتل وليس النبوة أو العصيان. أمر الإعدام لم يصدر عن رئيس الجمهورية بل كان موقعاً من قبل وزير الداخلية صبري العسلي ورئيس الحكومة الجديد جميل مردم بك. والرواية الشعبية تقول إنه توسل لدى مردم بك وارتمى على أقدامه طالباً العفو ولكن الأخير قال له: “معلش، المرة الجاي.” هذه القصة من محض الخيال لأن مردم بك لم يكن موجوداً في ساحة المرجة لحظة تنفيذ حكم الإعدام.
ومن الملفت أن القوتلي وبعد تنفيذ حكم الإعدام قرر “تعويض” الطائفة العلوية عن خسارتها، وخلق “بطل بديل” لها في الذاكرة الجمعية السورية. ومن هنا جاءت فكرة “تعويم” الشيخ صالح العلي، الذي كان ومنذ انتهاء ثورته ضد الفرنسيين، لم يُدعَ إلى أي مناسبة وطنية ولم يحمل وساماً ولا كُتب اسمه في الكتب المدرسية. استدعاه الرئيس القوتلي إلى دمشق في العيد الثاني للجلاء وقام بتقليده وسام الاستحقاق السوري. وقد أراد القوتلي بذلك إرضاء الطائفة العلوية أولاً وخلق بطل ثانٍ للأقليات، يضاهي سلطان باشا الأطرش زعيم الدروز، الذي لم يكن يوماً على وفاق مع القوتلي وحكومة دمشق بسبب قربه من الهاشميين ومن الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، عدو القوتلي وصديق الدروز وحليفهم في ثورة عام 1925.
أمير سعادة