المهندس جوزيف جريج (استشاري هندسة مائية) – الناس نيوز :
تتحدث الأخبار كثيراً هذه الأيام عن خلاف مصري سوداني – إثيوبي حول سد النهضة الذي شيّدته إثيوبيا على نهر النيل الأزرق وهو من أهم فروع نهر النيل . وبعض الأخبار تفصّل بالموضوع وتقول إن الخلاف هو حول فترة تعبئة السد،وهذا صحيح عموماً.
لكن ماذا تعني ( فترة تعبئة السد) ولماذا تسبب الخلافات ؟
سنحاول توضيح هذه المسألة فقط وهذه غاية المقال.
السدود هي عبارة عن حواجز على المجاري المائية, وتؤدي لحجز المياه خلفها وتشكيل بحيرات بأعماق ومساحات حسب طبوغرافية الأرض ونوع وحجم السدود التي يمكن أن تكون إسمنتية أو ترابية أو مختلطة. وتختلف مهمة السدود من سدود لحجز المياه لمنع الفيضان أو لاستخدام المياه بالري أو الشرب أو توليد الكهرباء أو لأغراض السياحة.. إلخ أو لعدة مهام مجتمعة.
شيدت إثيوبيا سد النهضة بكلفة حوالي 5 مليارات دولار وأنجزت منه 75% منه, وهذا كاف لتباشر كما هو مقرر بالبدء قريباً بتعبئة البحيرة المتشكلة خلفه بحجم 74 مليار متر مكعب. وهي تريد أن تملأ البحيرة خلال 4 سنوات ( يكون السد قد انتهى) بينما تريد مصر أن يتم ذلك خلال 7-10 سنوات.
تشكل المحطة الكهرومائية جزءاً مهماً من السد ويتم بها توليد الكهرباء, ولكن كيف يتم ذلك؟
توجد عنفات توليد الكهرباء عند قاعدة السد وعندما يتم فتح بوابة العنفة من اتجاه المياه تندفع المياه من قعر البحيرة إلى العنفة بسرعة تزداد كلما ازداد عمق المياه بالبحيرة مما يؤدي لتحريك شفرات العنفة وتوليد الكهرباء .
وعند خروج المياه من العنفة تذهب إلى مجرى النهر وتتابع سيرها.
يلعب عمق المياه دوراً حاسماً بسرعة تحريك شفرات العنفة وبالتالي بكمية الكهرباء المتولدة. ولهذا السبب تبدو إثيوبيا متعجّلة لملء البحيرة بسرعة لأنها تريد البدء باستثمار السد لتوليد الكهرباء بأكبر قدر ممكن وبيعها واستعادة التكاليف بأقصى سرعة. وللعلم فإن سد النهضة هو أكبر سد لتوليد الكهرباء في أفريقيا, وللمقارنة ،فهو هو يُنتج كهرباء بمقدار 3 أضعاف السد العالي في مصر وضعفين ونصف سد أتاتورك في تركيا و7 أضعاف سد الفرات في سوريا.
يمكن أثناء ملء البحيرة إغلاق كل مخارج المياه من السد بما فيها بوابات العنفات ولكن ذلك يعني تجفيف النهر بعد السد. ولذلك يتم وضع برنامج تعبئة يتضمن فتح بوابات تفريغ السد الواقعة أسفله وكذلك بوابات العنفات لبعض الوقت, والسماح لجزء من المياه بالمرور من السد إلى مجرى النهر, وبذلك ترتفع المياه تدريجياً في البحيرة إلى أن تمتلئ تماماً.
تبلغ كمية المياه بنهر النيل 88 مليار متر مكعب، و وفقاً للاتفاقيات القديمة تبلغ حصة مصر منها 55.5 مليار وحصة السودان 18 مليار.
لو تم ملء بحيرة سد النهضة البالغ حجمها 74 مليار م3 خلال 4 سنوات وفق رغبة إثيوبيا سيعني ذلك أن كمية المياه المتدفقة في نهر النيل باتجاه السودان ومصر ستنخفض بمقدار ربع هذه الكمية أي 18.5 مليار م3 سنوياً. ولو افترضنا أن مصر والسودان ستتقاسمان هذا التخفيض بنسبة تنسجم مع حصة كل من البلدين من مياه النهر– وهذا منطقي – فستكون حصة مصر من التخفيض تقارب 14 م3 سنوياً. ومن المؤكد أن لهذا انعكاسات سلبية جداً على مصر.
لو أخذنا احتمال ملء بحيرة السد خلال 10 سنوات سيكون انخفاض الحصة السنوية لمصر والسودان هو 7.4 مليار م3 سنوياً, وتكون حصة مصر من التخفيض هي 5.5 مليار م3 سنوياً، وهي مقبولة جداً قياساً بتخفيض 14 مليار م3 في حالة إملاء السد خلال 4 سنوات فقط.!! و مما سبق يتضح سر
الغضب المصري من فكرة تعبئة السد على الطريقة الإثيوبية.
إن نقص الحصة المصرية من المياه المتدفقة في نهر النيل بمقدار 14 مليار م3 سنوياً سيؤدي إلى تقليص المساحات المروية وتخفيض الإنتاج الزراعي، وخسارة فرص عمل تقول مصر إنها ستبلغ مليون فرصة. كما سيؤدي هذا النقص إلى انخفاض منسوب المياه بالنهر مما يعني زيادة كبيرة بتكاليف سحب وضخ المياه لأغراض الري وباتجاه محطات تنقية المياه للشرب ولأغراض الاستخدامات الصناعية , كما سيؤدي نقص واردات المياه بالنهر لانخفاض منسوب بحيرة السد العالي وبالتالي انخفاض كمية الكهرباء المولّدة. وتقدّر خسارة مصر بمجال توليد الكهرباء بـ 300 مليون دولار. ولن يكون تأثر مجمل البيئة الطبيعية حول سرير النهر بمنأى عن الأثر السلبي لنقص الحصة السنوية.
قد تستطيع مصر والسودان تعويض النقص بمنسوب مياه النيل عن طريق طرح المياه من بحيرات السدود بكميات تعوض النقص جزئياً أو كلياً ولكن – وعلى سبيل المثال- لن تستطيع مصر فعل ذلك إلا بعد السد العالي. فيما لا يمكنها تعويض النقص بمياه النهر قبل السد, أي بين نقطة دخول النهر لأراضيها على الحدود مع السودان وبين السد العالي.
لابد من الذكر أن تعويض النقص من احتياطي المياه في بحيرة السد العالي ( بحيرة ناصر) له سلبيات كثيرة وأهمها هو المزيد من النقص بمنسوب مياه البحيرة نتيجة انخفاض الواردات المائية. وبالتالي انخفاض قدرة السد العالي على توليد الطاقة الكهربائية, وهنا تكمن المفارقة على الأقل بين الكهرباء الإثيوبية والمصرية. بحيث كلما تمت تعبئة سد النهضة بسرعة بهدف زيادة توليد الكهرباء ستنخفض المياه بالسد العالي ويقل توليد الكهرباء.
من المؤكد أن الكهرباء ليست المشكلة الوحيدة إذا تم تخفيض منسوب بحيرة ناصر. فهناك الكثير من الأثار السلبية التي لا يتسع المجال للحديث عنها هنا, كما لا يتسع المجال أيضاً لذكر بعض سلبيات سد النهضة على إثيوبيا نفسها, ولا يتسع لذكر بعض الإيجابيات على مصر والسودان. مع الإشارة أن تلك السلبيات والإيجابيات لا تغير شيئاً بمواقف الدول الثلاث.
ليس الهدف هنا الاصطفاف إلى جانب جهة محددة, بل المقصود من المقال حصراً هو شرح الخلفية الفنية للخلاف على فترة تعبئة السد دون التطرق لجوانب أخرى خلافية, أو لفوائد السد لأثيوبيا وما إلى ذلك. فمن الطبيعي أن تبني أثيوبيا سداً ولكن من الطبيعي أيضاً أن تطلب مصر والسودان أن تكون
أضرار السد الإثيوبي بالحدود الدنيا.
قريباً سيجتمع الفنيون من البلدان الثلاث ويناقشون الاحتمالات المختلفة لفترة إملاء السد, وجوانب أخرى تتعلق بتشغيله. ولاشك أن وجود مرجعية دولية لحل هذا النوع من الخلافات سيكون أمراً جيداً.
لقد أقرّت الأمم المتحدة عام 1997 اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية (Convention on the Law of Non-Navigational Uses of International Watercourses)) وهي اتفاقية إطارية تضع أسس ونواظم للعلاقة بين الدول التي تعبرها الأنهار الدولية أو ” الدول المتشاطئة” ،مثل بناء السدود أو أي منشآت أخرى. ويذكر هنا أن النيل ينبع من عدة دول أفريقية أهمها أثيوبيا ومنها يتجه للسودان ثم إلى مصر, وهي دولة مصب النهر على البحر المتوسط.
إن الاتفاقية المشار لها تطلب مراعاة مسألة عدد السكان الذين يعتمدون على المجرى المائي في كل دولة واحتياجاتهم من المياه, ومدى وجود مياه بديلة لمياه المجاري المائية المتنازع عليها. وتشير الاتفاقية كذلك لمراعاة الحقوق المكتسبة تاريخياً, ووجود فعاليات كالزراعة في الدول المتشاطئة.
فليس من المنطقي أن تبني دولة منشأة تؤدي لضرر فادح بزراعة قائمة منذ عشرات السنين في دولة أخرى على المجرى المائي.
كذلك تشير الاتفاقية لضرورة قيام كل دولة بالاستخدام الأمثل لمياه المجرى الدولي، كما تلفت النظر للعديد من النقاط التي لن نذكرها هنا. و من المؤكد أن المفاوضات بين اللجان الفنية ستأخذ بالاعتبار كل ما نصت عليه بنود الاتفاقية.
أخيراً … يمكن من باب المقارنة ذكر حجوم بحيرات بعض السدود وكميات الكهرباء التي تنتجها لتوضيح أن حجوم البحيرات ليست هي العنصر الحاسم بتحديد كميات الكهرباء المنتجة … بل ارتفاع المياه بالبحيرات وهو ماتمت الإشارة له سابقاً.
سد النهضة في إثيوبيا: حجم بحيرته 74 مليار م3 ويولّد كهرباء بمقدار 6000 ميغا وات
السد العالي في مصر: حجم بحيرته 162 مليار م3 ويولّد كهرباء بمقدار 2100 ميغا وات
سد أتاتورك في تركيا: حجم بحيرته 48 مليار م3 ويولّد كهرباء بمقدار 2400 ميغا وات
سد هوفر في أمريكا: حجم بحيرته 35 مليار م3 ويولّد كهرباء بمقدار 2100 ميغا وات
سد الفرات في سوريا: حجم بحيرته 14 مليار م3 ويولّد كهرباء بمقدار 800 ميغا وات.
وخارج سياق المقال والهدف منه, و بعد ذكر المقارنات السابقة، قد يكون من المفيد التأكيد على أن أهمية السد تنبع من طبيعة المهام التي نُفّذ من أجلها. فكمية الكهرباء ليست معياراً وحيداً, وربما كان سد الفرات – على سبيل المثال – وهو أصغر السدود المذكورة يقدم خدمات بمجال الري ومياه الشرب تفوق كثيراً مايمكن أن يقدمه سد النهضة لإثيوبيا بكافة المجالات ماعدا إنتاج الطاقة.