بدى بيان جامعة الدول العربية من الانقلاب على الدستور في تونس مخجلاً لمؤسسة إقليمية يفوق عمرها عمر الأمم المتحدة ذاتها، وكأن هذه المؤسسة الإقليمية العريقة لم تمر عليها رياح التحول أو التغيير وأصبحت مجرد مؤسسة لمتقاعدي وزارة الخارجية المصرية.
في علم البيولوجيا يقال دوماً “العضو الذي لا يستخدم يضمر” ويبدو ذلك صحيحا أيضا في علم السياسة، فالشخص الذي لا يقاتل من أجل صلاحياته داخل النظام السياسي يختفي دوماً وربما ينتهي تماماً، والمؤسسة أو الهيئة التي لا تلعب دوراً حيوياً في تنشيط النظام السياسي وتفعيله تضمر تدريجياً حتى يضمحل دورها نهائياً.
يبدو ذلك صحيحاً تماما بالنسبة لجامعة الدول العربية اليوم، تلك المؤسسة التي ربما نحن اليوم بأشد الحاجة لها، فما يجري بالمنطقة العربية ليس بالشيء الذي يحدث كل يوم، وليس من نوع الأحداث السياسية الصغرى، إنها إعادة ولادة نظام إقليمي جديد ووفاة النظام السياسي العربية التقليدي كما عرفناه على مدى عقود، والمؤسسة المناط بها أن تلعب دوراً في بناء وتقوية هذا النظام السياسي العربي الإقليمي غائبة تماماً بأحسن الظنون إذا لم نقل أنها لم يعد لها وجود عملياً.
بالتأكيد هناك أسباب عديدة يمكنها تفسير هذا الانهيار الكامل، وعلى رأسها أن الأنظمة السياسية العربية ذاتها الممثلة في هذه المنظمة الإقليمية ليس لها أي إيمان بدور هذه المؤسسة أو الحاجة لها.
ولذلك تبدو الحاجة إلى تغيير النظام السياسي العربي تغدو حاجة مصيرية وهي مسألة حياة أو موت إذا ما فكرنا في التحديات الإقليمية الرئيسية التي تواجه الإقليم العربي وأولها بكل تأكيد إعادة الأمن والاستقرار ونهاية خطر الإرهاب، وضمان الانتقال الديمقراطي السلمي في بلدان الربيع العربي أو الثورات العربية، وبناء نظام إقليمي عربي تعكس الطموحات الكبرى للمواطنين العربي بإيمانهم بانتمائهم العربي ورغبتهم في البحث لهم عن مكان بين الأمم اليوم.
يجب أن ندرك اليوم أن النظام العربي المطلوب تغييره، ليس هو «ميثاق جامعة الدول العربية وما انبثق عنه من معاهدات واتفاقات تحكم العلاقات العربية وفق ما ورد في نصوصها» كما أن «النظام العربي» لا يتعلق فقط بالعلاقات البينية العربية وإنما يشمل هيكل وبناء النظام السياسي الذي قام عليه نموذج الدولة القطرية أو الوطنية بحيث يشمل آلية صنع القرار في النظام والعلاقة بين المؤسسات الدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية وطبيعة عمل السياسة الداخلية بمجملها والخارجية أيضاً.
كان غياب جامعة الدول العربية عن لعب أي دور حتى ولو على المستوى التوجيهي العام لمراحل التحول الديمقراطي بعد ظهور المظاهرات الشعبية في بلدان الربيع العربي دور رئيسي على ما أعتقد في فشل عملية التحول، وخاصة إذا قارنا الدور الذي لعبه الاتحاد الأوروبي في عملية التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لقد كان دور الاتحاد الأوربي حاسماً في توجيه ومن ثم نجاح عملية التحول بشكل سملي ومدروس رغم اختلاطها بالعنف في الكثير من البلدان كما هي حال رومانيا على سبيل المثال.
جامعة الدول العربية لعبت دورا في طلب حماية المدنيين في ليبيا وبعد ذلك انكفأت تماما حتى لم تعد تكترث بإصدار أي بيانات ذات معنى سياسي فضلا عن غياب المبادرات لحل الأزمات المتراكبة في اليمن وليبيا وسورية والاحتلال الإسرائيلي وترك كل ذلك للأمم المتحدة والدول الإقليمية التي لديها مصالح ورغبات متناقضة .
وبرأيي أن موت الجامعة ذاتها تجلى في غياب المحاولة وقناعة قيادتها أنها لن تقوم بأي شيء جديد أو مفيد، وبالتالي لا جدوى من المحاولة، رغم أن المحاولات حتى ولو عبرت عن فشل إلا أنها دليل ما على الحيوية وهو على ما يبدو الشيء الذي تفتقده الجامعة العربية اليوم كلياً.
أرى اليوم ان مصير الجامعة العربية على المحك، ولا معنى لمؤسسة يعلق عليها العرب الكثير من الآمال لكنها تنوء تحت ثقل وعبء يفوق قدرتها على العمل، أعرف تماما المشاكل البنوية التي رافق تأسيس الجامعة منذ ولادتها، لكن من المخزي حقا بالنسبة لنا كعرب أن تكون الجامعة أقدم عمراً من الأمم المتحدة ذاتها ومن كل المؤسسات الإقليمية الأخرى كالاتحاد الأوروبي والإفريقي ومنظمة الأمريكيتين ولا تستطيع الخروج من أزمتها الهيكلية في إعاد بناء هياكلها وأسسها على معايير جديدة، إنها تعبير مطلق عن اليأس العربي والفشل في بناء نظامهم السياسي وترك الأمر للآخرين للقيام بذلك.
ما تفتقده الجامعة اليوم وقبل كل شيء قيادة ذات رؤية وإيمان بقدرة المؤسسة على التغيير، فانعدمت فيها المبادرة واكتفت بأن تكون تعبير سيء للفشل المجتمع للأنظمة السياسية العربية، ولذلك تباعدت الفجوة كليا بين المواطن العربي وبين حلمه في أن تلعب الجامعة أي دور مفيد فيما يتعلق بحل مشاكل الهجرة أو التنقل أو المواصلات أو تعزيز التجارة البينية وغيرها مما كان الدافع الأول لكل التنظيمات الإقليمية الموازية
للتطور والتحديث.
من الضروري اليوم الخروج من الإطار التوصيفي والتجريدي للدخول في عمق الأزمة البنيوية التي تعصف بالجامعة اليوم، ولعل الكلام النظري الكثير حول المشروع النهضوي العربي الذي سيطر على الخطاب العربي في التسعينيات من القرن الماضي محله اليوم في التفكير كيف يمكن للجامعة أن تتحول إلى محرك ديناميكي وحيوي لإيجاد آليات تعزز الإيمان بأن الفضاء العربي ما زال ممكنا.
رضوان زيادة