بعد منتصف الليل بقليل، استيقظ الملك لويس السادس عشر على صوت دوي المدافع، ونداءات (هيا إلى حمل السلاح). سأل الملك مستشاره مذهولاً: هل هذا تمرد؟ فأجابه المستشار: لا يا سيدي، إنها ثورة.
وكانت ثورة بالفعل، دعيت في التاريخ بالثورة الفرنسية. تساءل الملك في معتقله، بعد سقوط باريس بأيدي الثوار: هل كان من الممكن تجنب الثورة؟ كانت الإجابة التي تلقاها صادمة: لقد جلبتها لنفسك.
إذا كانت الثورة خياراً، فهي خيار سيء. لا تترك وراءها سوى الخراب، وجثث الآلاف من الضحايا، لذلك كان الإصلاح هو الحل الأمثل، لكن لا ثورة قبل انسداد سبل الاصلاح. هذا ما يعرفه المفكرون والسياسيون من تجارب ثورية وما أكثرها، شملت العالم كله، فاقت خسائرها مكاسبها على المدى القصير. وإذا كانت قد حققت بعض العدالة مع التقدم، وربما بعض الرخاء على المدى الطويل، كان من الممكن تحقيق هذه المكاسب وأكثر من دون مآسي وأحزان وقطع رؤوس.
المحير من الذي اختار الثورة؟ طبعاً لم تكن خيار الملك، لكنه ألجأ الشعب إليها. ستودي الثورة بالعائلات الأرستقراطية ورجالات الدولة وسيدات البلاط ومفكرين وعلماء وقساوسة ورهبان إلى المقصلة. أفضل ما حدث هو الإطاحة بالعرش والملكية، وأسوأ ما حدث، هو ما تلاها، وكان عهد إرهاب وموت.
ليس من الوارد أن يتعرض الرئيس الوريث لهذا السؤال، إنه بحماية روسيا وإيران والجيش العقائدي والأجهزة الأمنية، وميليشيات لا عد لها، ولا حصر، رغم أنه سيتساءل، ويعرف أنه جلبها لنفسه، كان من الممكن تجنبها، لكنه دفع الشعب إليها، لم يدع له خياراً آخر سوى الثورة.
ولا ندري فيما إذا كان يوما ما سيُسأل هذه السؤال من محكمة البشر، لا محكمة الضمير، إذا حدث، فالجواب لن يكون سوى ذلك الهراء عن الإرهاب الذي اضطره لاستخدام البراميل المتفجرة والكيماوي، مع أن الأجهزة الأمنية أسهمت في صناعته، ففي الوقت الذي أخذت مدافع النظام تدك المناطق المنشقة، لم يكن هناك إرهاب ولا إرهابيين. وعندما أصبحت سورية ساحة حرب واعدة، جاء الجهاديون زرافات ووحداناً، وتذرعوا بعنف النظام، كي يتحولوا إلى مجرمين عتاة وإرهابيين متوحشين.
في يوم٣٠ مارس/آذار أعلن الرئيس الحرب على الشعب من مجلس الشعب، بحجة إحباط المؤامرة الكونية على سورية. حرب لم تكن مبررة ولا مقنعة. هذه الخطوة، كانت دعوة للشعب للدفاع عن نفسه، باستدراج المتظاهرين لحمل السلاح، ضمن خطة، كانت حسب مراقبين تهدف إلى جعل المتظاهرين إرهابيين لمجرد حملهم السلاح.
سجل الخطاب تحولاً اعتبر لغزاً. ففي الأيام التي سبقت، دأبت الصحافة التابعة لحزب الله في بيروت، إن لم يكن بوارد التضليل، فقد كانت تعتقد أن الرئيس سيقدم على خطوات إصلاحية، ويقود بنفسه حملة ضد الفساد، ويتصالح مع شعبه الذي هضمت حقوقه، مع اتخاذ إجراءات تردع الأجهزة الأمنية عن تجاوز صلاحياتها.
ما أقدم عليه، كان العكس تماماً، أفلت العنان للمخابرات، مع انتشار القناصة في مواجهة المظاهرات، يتصيدون المتظاهرون، وأطلق النهب استرضاءً لعصابات الشبيحة، التي افتعلت المجازر، ريثما تولى الجيش إدارة القضاء على الاحتجاجات السلمية والمسلحة معاً.
يمكن تفسير هذا الحل الذي اختاره مبكراً، بأنه ضربة وقائية صاعقة تدفع المتظاهرين من فرط شدتها إلى استعادة خنوعهم الآمن. ما يشكل تعويضاً لإحساسه بالصغار إزاء مظاهرات الشعب الناكر للجميل التي نادت بإسقاط النظام، وبددت صورة القطيع المطيع في المسيرات الرسمية.
كذلك لا يمكن فهم هذه الخطوة، من دون إيراد الجوانب الذاتية التي لعبت دورها، لو كانت العوامل الموضوعية وحدها، لما اتخذ هذا القرار، فالواقع لا يحيلنا إلى هذه الحرب الشعواء التي اسقطت كافة الاعتبارات الوطنية. أما العامل الذاتي، فيحتمل الغموض، ويعسر ضبطه، فالذات عامل متحول، قد تتعامل مع الأوهام والمخاوف، وتختزن العماء أكثر من الوضوح، وتعتمد المراوغة، ففي تعريتها تنكشف عن ضعف وخواء، تتستر عليهما القوة المفرطة في وحشيتها. فالهشاشة الذاتية تعطل القدرة على اتخاذ قرار صعب، يتطلب الحكمة. ما اضطر الرئيس الوريث إلى الاستنجاد بحكمة الأب والاتكاء عليها، ولقد قيل من دون مبالغة، إن الرئيس الأب ما زال يحكم البلد من القبر، ويتحكم بقرارات ابنه، هل هي عقدة الأب؟ ما زال تحت رقابته، يعمل حساباً لحسابه العسير، ما دفعه إلى ضبط إيقاع خطواته على خطوات الأب، فحاول أن يكون نسخة عنه، مجارياً ما قد يفعله، ففي إظهار البطش، عدم استسلام لطلبات المتظاهرين. هذا الضعف وتردد الأيام الأولى لا يُرضي الأب. الحل الأمثل، في انموذج مجزرة حماه، لكنه ستجاوزها إلى مجزرة تشمل سورية كلها، بهذا لن يكون الابن أقل بأسا من الأب.
حقق الوريث باستعمال القوة المفرطة، ما ميزه أيضاً عن الزعماء العرب المخضرمين في الحكم، لم يصمدوا إزاء شعوبهم، انهاروا بين هارب وقتيل ومعتقل. لن يكون مصيره كمصير حسني مبارك أو القذافي وبن علي، حتى لو اضطر إلى قتل وتهجير نصف شعبه، أو شعبه كله.
من جانب آخر، هناك مخزون متراكم من الردع العسكري والمخابراتي، في حالة تضخم مستمر، من دون استعمال مميت واسع النطاق، كذلك تكدس السلاح الخفيف والثقيل في المخازن دونما حاجة للاستخدام في حرب لن تحدث مع العدو الإسرائيلي، بينما هذه الاحتجاجات ولو كانت سلمية، ذريعة لحرب تستهلك فائض السلاح والقوة والقتل، أما النتيجة، فتلقين الشعب درسا دموياً، من شدة قسوته، يوفر على وريث النظام القادم من بعد الحالي، القيام بدرس مشابه، إلا بعد عدة عقود، ما زالت في الأفق البعيد.
فواز حداد