في 14 سبتمبر/أيلول 2021 بدأت جلسات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في مدينة نيويورك بحضور 100 زعيم عالمي، بينهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، ومعه عدد من القادة في العالم، وكذلك قادة في العالم العربي أمثال الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبد الله الثاني. ويعتبر هذا الاجتماع الذي يُعقد سنوياً في شهر سبتمبر/أيلول من أهم المحافل الدولية بالنسبة لقادة العالم، وهو فرصة نادرة لكي يخطبوا أمام المجتمع الدولي، ويشرحوا مواقف بلادهم في شتى الأمور الدولية والإقليمية.
الأتاسي في نيويورك
تحمل هذه الجلسة الرقم 76 للجمعية العمومية، التي لم يحضرها إلا رئيس سوري واحد منذ تأسيس الأمم المتحدة سنة 1945، وهو الدكتور نور الدين الأتاسي. كانت زيارة الرئيس الأتاسي فريدة من نوعها، حيث توجه إلى نيويورك لحضور جلسة طارئة للجمعية العمومية، عُقدت في 18 يونيو/حزيران 1967 بعد أيام معدودة من هزيمة العرب في حرب الأيام الستة، التي أدت كما هو معروف جيداً إلى احتلال الجولان السوري من قبل إسرائيل. قرار السفر إلى نيويورك جاء بإلحاح عدد من الدبلوماسيين السوريين القدامى في وزارة الخارجية السورية، الذين طلبوا من نور الدين الأتاسي الحضور، أو بالأصح، توسلوا إليه أن يذهب إلى الأمم المتحدة لشرح موقف سورية أمام المجتمع الدولي. وقد ضم الوفد السوري يومها عدداً من جهابذة السياسة في سورية، وجميعهم من مرحلة ما قبل البعث، ولكن البعثيين قاموا بالاحتفاظ بهم بسبب خبرتهم العالية وعلاقاتهم الدولية الواسعة.
يوم انقلاب البعث في 8 مارس/آذار 1963، جرت عملية تطهير ممنهجة لجميع الشخصيات السياسية الكبيرة العاملة في الدولة منذ أربعينيات القرن العشرين، باستثناء موظفي وزارة الخارجية. وحافظت دولة البعث على دبلوماسيين كبار من أمثال جورج طعمة (خريج جامعة بيروت الأمريكية)، وأديب الداوودي (سفير سورية في الهند في عهد الرئيس ناظم القدسي) وعبد الله الخاني (أمين عام الرئاسة السورية في عهد الرئيسين شكري القوتلي وهاشم الأتاسي)، إضافة للدكتور صباح قباني، المدير المؤسس للتلفزيون السوري سنة 1960. أمّا شقيقه نزار، فقد فضل الانفكاك عن وزارة الخارجية بعد وصول البعث إلى السلطة سنة 1963، وتفرغ لكتابة الشعر، كما فعل زميله السفير والشاعر عمر أبو ريشة.
اتصل هؤلاء السفراء بوزير الخارجية البعثي إبراهيم ماخوس وألحوا عليه الحضور فوراً إلى نيويورك، وأن يكون معه رئيس الدولة. كان النقاش بينهم وبين وزراء خارجية أوروبا والولايات المتحدة قد احتدم إلى درجة فظيعة، ما أدى إلى حصول نزيف في معدة ممثل سورية الدائم جورج طعمة. قرر الوزير ماخوس الاستجابة لمطلبهم وبالفعل، وصل إلى الولايات المتحدة برفقة نور الدين الأتاسي، الذي أعلن عن نية سورية تحرير الجولان بكل الطرق المتاحة، معلناً قرار دمشق الدخول في حرب الاستنزاف إلى جانب مصر ورئيسها جمال عبد الناصر (الذي لم يزر الأمم المتحدة إلا مرة واحدة في حياته عندما كان رئيساً لسورية ومصر سنة 1960). كانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يعتلي فيها رئيس سوري نصة الأمم المتحدة، فما هو سبب هذا الإهمال؟
شكري القوتلي والبدايات
عند تأسيس الأمم المتحدة سنة 1945 أدرك رئيس الجمهورية في حينها شكري القوتلي مدى أهميتها وأهمية أن تكون سورية ضمن الآباء المؤسسين لهذه المنظمة. وكان القوتلي قد فاوض رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل على حضور افتتاح الأمم المتحدة، خلال لقائهما في مصر في فبراير/شباط 1945. وقد رتّب هذا اللقاء من قبل ملك مصر فاروق الأول والعاهل السعودي عبد العزيز آل سعود، وكلاهما كان يدرك مدى أهمية الأمم المتحدة. وكان من المفترض أن يكون الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت حاضراً في زيارة القوتلي إلى القاهرة، ولكنه أجبر على العودة إلى واشنطن بسبب تدهور حالته الصحية، ليفارق الحياة بعد شهرين في 12 أبريل/نيسان 1945، أي قبل شهر واحد فقط من انطلاق أعمال الجمعية العامة في أيار 1945.
كان روزفلت وتشرشل عائدان يومها من مؤتمر يالطا الذي عقد على سواحل البحر الأسود وجمعهم مع حليفهم ضد النازية جوزيف ستالين، حيث قام “الثلاثة الكبار” برسم شكل معالم العالم الجديد. وكان القوتلي قد دعا الزعماء الثلاثة لعقد اجتماعهم الشهير في دمشق بدلاً من يالطا، بعد أن اجتمعوا في العاصمة الإيرانية طهران نهاية عام 1943، ولكن ستالين أصر على أن يكون اللقاء في يالطا.
وقد تقرر في اجتماع القوتلي مع تشرشل أن تقدم سورية دعماً معنوياً ومادياً لصالح الحلفاء مقابل دعوتها إلى الأمم المتحدة، فوافق الرئيس السوري على ذلك ومن دون تردد. جاء الدعم المادي عن طريق معونة قدمت للجيش البريطاني من قبل تجار سورية لأجل شراء طائرات حربية حديثة، أما الدعم المعنوي فقد كان في إعلان الرئيس القوتلي الحرب ضد دول المحور، من تحت قبة البرلمان السوري في فبراير/شباط 1945. وكان هذا الإعلان سياسياً وليس عسكرياً، لأن سورية الواقعة تحت حكم الانتداب الفرنسي لم يكن لها جيش لتحارب به الألمان والإيطاليين واليابانيين، بعد تحطيم جيشها الصغير وحلّه إبان معركة ميسلون الشهيرة في 24 يوليو/تموز 1920. ولكن مجرد إعلان الحرب كان كافياً لنيل ثقة الحلفاء ودعمهم لعضوية سورية، حيث وعد القوتلي بأن تكون بلاده داعمة للديمقراطية والتحرر في العالم، شرط أن تنال استقلالها عن الانتداب الفرنسي.
فارس الخوري والأمم المتحدة
مقابل هذا الموقف، دعيت سورية لحضور المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في مايو/أيار 1945، المنعقد يومها في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية. وقد قرر القوتلي إرسال رئيس الحكومة فارس الخوري في هذه المهمة، وهو طليق اللسان باللغة الإنكليزية التي كان قد تعلمها خلال سنوات دراسته في جامعة بيروت الأمريكية، إضافة لكونه حجة بالقانون الدولي وسياسي محنك. وقد اختار الخوري صفوة شباب سورية لمرافقته، وكان جميع أعضاء الوفد المؤسس من خريجي جامعة بيروت الأمريكية، مثل السفير فريد زين الدين والدكتور ناظم القدسي (سفير سورية في واشنطن يومها) ومعهم البروفيسور قسطنطين زريق، أستاذ مادة التاريخ في تلك الجامعة الذي أصبح رئيساً لها في الخمسينيات. وقد نجح هؤلاء، بالتعاون مع مندوب الاتحاد السوفيتي في إجهاض مشروع قرار فرنسي قُدم إلى الجمعية العامة في فبراير/شباط 1946 لإطالة عمر الانتداب في سورية.
أسباب مختلفة للتعذر
لم يحضر الرئيس القوتلي جلسة الجمعية العمومية في سبتمبر/أيلول 1947 بسبب قضية فلسطين وانشغاله مع الملك فاروق بوضع اللمسات الأخيرة على جيش الإنقاذ، الذي دخل ميدان القتال الفلسطيني بعد أيام قليلة من تبني الجمعية العامة القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما عربية والثانية عبرية. وفي جلسة سبتمبر/أيلول 1948، كانت الحرب الفلسطينية في أوجها ولم يتمكن القوتلي من مغادرة دمشق نظراً لخطورة الأوضاع الأمنية. أمّا عن جلسة 1949، فكان القوتلي خارج الحكم يومها، يعيش في منفاه المصري بعد الإطاحة بحكمه على يد حسني الزعيم يوم 29 مارس/آذار 1949.
كان من المتوقع من حسني الزعيم حضور جلسة 2 سبتمبر/أيلول 1949، نظراً لقربه من الغرب، ولكن انقلاباً عسكرياً أطاح به وأودى بحياته في 14 أغسطس/آب 1949. وكان من الاستحالة على خلفه الرئيس هاشم الأتاسي السفر إلى نيويورك سنة 1949، نظراً لانشغاله في ترتيب البيت الداخلي بعد القضاء على حكم العسكر، وكانت الطبقة السياسية في سورية منشغلة في وضع دستور جديد للبلاد، مما أبقى الأتاسي في قصره. وقد تعذر سفره مجدداً في أيلول 1950 بسبب تمادي العسكر في أطماعهم وظهور أديب الشيشكلي على مسرح السياسة في سورية.
وتكرر التعذر بالنسبة لأديب الشيشكلي، الذي كان أيضاً قريباً من الغرب، ولكنه تولّى الحكم رمسياً في 11 يوليو/تموز 1953 وتم الإطاحة به في 25 فبراير/شباط 1954، أي أنه لم يكن في السلطة عند انعقاد جلسة الجمعية العامة في سبتمبر/أيلول 1954. عاد الأتاسي إلى الحكم يومها ولم يسافر خارج سورية بسبب تقدمه في السن، لأنه تجاوز عتبة الثمانين من عمره. وعند انتخاب شكري القوتلي مجدداً وعودته إلى الحكم سنة 1955 كانت علاقة سورية قد تدهورت مع الغرب بسبب قربه من مصر والرئيس جمال عبد الناصر. اتخذت سورية يومها موقفاً معادياً للولايات المتحدة ما أدى إلى طرد السفير الأمريكي من دمشق سنة 1957 واستحالة سفر القوتلي إلى نيويورك. وفي سنة 1956 كانت حرب السويس، فقرر القوتلي السفر إلى موسكو بدلاً من نيويورك، لحشد دعم سوفيتي لصالح مصر. وفي سبتمبر/أيلول 1958، كانت رئاسة سورية قد ذهبت للرئيس عبد الناصر، الذي زار نيويورك سنة 1960.
وفي عهد الانفصال (1961-1963)، لم يتمكن للرئيس ناظم القدسي من السفر إلى الولايات المتحدة، التي كان قد بدأ حياته الوظيفة سفيراً فيها عام 1944. فقد جاء إلى الحكم في نهاية ديسمبر/كانون الأول 1962، أي بعد اجتماع الجمعية العمومية بشهرين، وغادر السلطة إلى السجن في 8 مارس/آذار 1963. ثم جاء قادة البعث إلى السلطة وكانوا منشغلين بحروبهم الداخلية، ولم يفكر أمين الحافظ بالسفر أبعد من مصر، خوفاً على منصبه في دمشق. وبعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة سنة 1970 قال إن له موقف عقائدي من السفر إلى الولايات المتحدة، مضيفاً أنه لن يزورها قبل حل الصراع العربي الإسرائيلي واستعادة الأراضي المحتلة سنة 1967. وكان أمامه فرصة ذهبية للترويج لموقفه خلال عملية السلام مع إسرائيل، التي بدأت سنة 1991، ولكنه رفض مجدداً سفر، تاركاً المهمة لوزير خارجيته فاروق الشرع الذي ظل يمثل سورية في نيويورك حتى تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية عام 2005، لتذهب المهمة من بعده إلى وليد المعلم، الذي توفي في نهاية العام الماضي.
أمير سعادة