ريما بالي – الناس نيوز ::
كتبت الشاعرة أماني غيث:
“نريد أن نعود إلى نصوصنا الأولى، نريد أن نكتب عن الحب ونستأنف الحياة، واللغة كلها تحت الأنقاض”.
(السابعة والنصف صباحاً، التاريخ 06/02/2023، مدريد)
صوت خافت اقتحم منامي، فتحت إحدى عينيّ، نظرت إلى الموبايل على الطاولة الصغيرة بجانبي لأعرف الوقت، صفحة الواتساب احتلت الشاشة، منظر غريب، كل مجموعات المحادثة تغلي، كلها تحمل نقطة خضراء حبلى بعدد هائل من الرسائل، خير إن شاء الله؟ نقرت على مجموعة العائلة ولمست لأعلى التعيين تسجيلاً صوتياً لأختي، سمعت صوتاً مرتجفاً يقول: “البيت تكسر كلو… ونحن بالطريق… بالسيارة قاعدين… شي ما بينوصف أبداً… شي ما بيتصدق”.
فتحت عيني الأخرى، هل هذا كابوس؟ هل هذا صوت أختي؟ خطفني دوار في لحظة سوريالية، اختنقت لبرهة، ثم قفزت من الفراش كأنني أقوم من تحت الأنقاض.
منذ تلك اللحظة، حدث الشرخ العميق في وجدان كل سوريٍ قام من تحت الأنقاض حياً، ولعل ذلك الشرخ الخطير، كان هو المحرك الأساسي للنشاط العجيب والعزيمة الجبارة والعطاء اللامتناهي واللامشروط الذي تفجر من قلوب وأيادي معظم الناجين من الكارثة، داخل الوطن وخارجه، من يقف على حافة الزلزال ومن يتفرج عليه مصوّرا، في سباق محموم مع الزمن للمساعدة في دعم من تضرر أكثر، من تجاوز الشرخ الذي أصابه حدود الوجدان فحطم المسكن ودفن الأحبة تحت الركام.
لماذا يعدّ كل سوريٍ اليوم خارجاً من تحت الأنقاض؟ لأننا كلنا، من مات منا ومن نجا، من انهار مبناه فوقه ومن بلغ الشارع قبل الانهيار، من عاين المأساة وجهاً لوجه وتأرجحت به المدينة المنكوبة ومن سمع بها عن بعد فزلزلت قلبه، كلنا، مررنا في لحظة بعينها، لحظة قصيرة للبعض، طويلة للبعض الأخر، كابوسية خرافية غرائبية، انتظرنا فيها السقف لينهار على رؤوسنا، والجدار ليميل على ظهورنا، والأرض لتنشق تحت أقدامنا، ليبتعلنا الركام… كلنا اختبرنا للحظة الموت تحت الركام.
تلك اللحظة الفارقة، عمدّتنا جميعاً في جرن غبارها ورمادها، فخرج من خرج وبقي من بقى. اجتاحتنا جميعاً دون تمييز، ودون استشارة أو سؤال، من قضى تحت وطأتها لم يكن قد قرر ذلك، أما نحن، فقد كنا قد قررنا في لمحة خاطفة أن ننجو مهما كلفنا الأمر، ونجونا، وفرحنا لنجاتنا، ومن أجل هذا القرار، من أجل هذا الفرح، نخجل اليوم من الموت الذي تركناه دوننا، نشعر بالذنب وسنشعر دائماً، وسنفعل ما بوسعنا للتكفير عن ذنبنا، الذي تجسد في لحظة خروجنا من تحت الأنقاض من دون أن ننظر خلفنا، هذه النظرة التي لم نلقها، شرخت أرواحنا، شرختها إلى الأبد.
“طفلة تخرج بمساعدة عناصر الإنقاذ من تحت الأنقاض، تبدو متحمسة للخروج ومستعجلة، يسألها المنقذ : في حدا عندك جوا؟ تجيب ببراءة : ايه عمو أخواتي، بس ميتين… وأمي…”
تلك كانت لحظة الخروج التي عاصرها كل سوري، وأحدثت الشرخ في قلبه. وكم يشبه هذا المشهد بنظرة أخرى، اللحظة التي وصل فيها السوريون المهاجرون إلى مهاجرهم، فسألوهم هناك، عما تركوا خلفهم هنا!
” أب يلتقي بعد أيام بطفلته التي ضاعت منه أثناء الزلزال، عندما رأته، انفجرت ببكاء هستيري، عانقها، فتشبثت به وزاد بكاؤها، الأب يبكي ويقول لها : يا عمري يا بابا أنا ما تركتك، والله يا بابا ما تركتك”!
هل يريد أن يقنعها أم أن يقنع نفسه بأنه لم يتخلى عنها؟ هل يطلب غفرانها أم يتساءل كيف سيغفر لنفسه؟ يعاتبه بكاؤها كما يعاتبنا كلنا ونحن نسمعه من خلف الشاشات، ونجيبها كلنا: يا عمري أنت يا بلدي، والله أنا ما تركتك!
“أب مات أطفاله الأربعة تحت الحطام، يضجعهم أمامه ويلمس وجوههم قائلاً : خلوني أحطن جنب الصوبا، وجهم بوظ”.
لم يعطهم حياة دافئة، فليكن موتهم دافئاً على الأقل، نشعر كلنا مثله بالذنب والعجز، لم نستطع إنقاذ أحبتنا، وطننا، أحلامنا، لكننا مستمرون في الإنكار، لا نصدق موتهم، وننتظر معجزة تبث الدفء في وجوههم الباردة، علهم يفتحون أعينهم، ويبتسمون.
“طفلة وصل المنقذون إليها وهي ما تزال عالقة تحت الحجر، أثناء عملية إخراجها وأختها، قالت للمنقذ: عمو طالعني من هون الله يخليك، بصير خدامة عندك”!
قرار النجاة، بدأت تدفع ثمنه مسبقاً، تريد أن تنجو مهما كلف الأمر، ولأنها ستنجو تاركة عائلتها جثثاً مهشمة خلفها، ستذل نفسها، لتكفر عن ذنب نجاتها.
يتضرع السوريون إلى العالم، في كافة أرجاء المعمورة وبكل الوسائل المتاحة : “أنقذوا السوريين، أدخلوا المساعدات إلى سوريا، تبرعوا من أجل سوريا”، لا يخجلون من الاستجداء، ويبالغون في شكر من يمد يد العون، كأنهم كلهم تلك الصغيرة، وفي داخلهم يصرخون: عمو، طالعوا السوريين من هناك الله يخليكن، منصير خدامين عندكن!
ذل آخر بعد ذلنا الأول، وشرخ جديد بعد شرخنا القديم، أصبح عمره أسبوعين. غداً، سينسى العالم مآساتنا الجديدة كما تناسى القديمة، ستتوقف نشرات الأخبار عن تغطية أخبار زلزالنا الطبيعي كما توقفت عن ذكر أي شيء عن زلزالنا المفبرك، سنُترك تحت أنقاضنا أحياءً، ننوح وحدنا، كما قالت الرائعة ميسون شقير: “سوريا المتصدعة تنوح من تحت الردم، والردم نوّاح.” ولكن، ليس للأبد، ففي لحظة فارقة أخرى، ثمة من سيصنع القرار، قرار النجاة، سننجو مهما كلفنا الأمر، ولن نخجل من قرارنا، ولن نكون خدماً لأحد، بل أسياداً كما خلقنا وكما يليق بنا.
قرار نجاتنا، يصنعه هذا الجيل الجديد، الرائع، الرائع، الرائع. الجيل الذي طالما آمنت به وزادت هذه الكارثة إيماني رسوخاً. جيل جبار كهذا، يحمل كارثة كهذه على كتفيه العاريتين، سيصنع الفرق، سيصنع قرار النجاة، وسينفذه.
سيأتي اليوم الذي سيتوقف فيه النواح، فهذا الجيل الرائع، سيقول كفى، وسينقذ نفسه وينقذك يا وطني، يا وطني المتصدع، يا وطني الرائع يا وطني.
سنخرج حتماً من تحت الأنقاض.