أبو ظبي – الناس نيوز ::
قبل سنوات، دأبتُ على أخذ أولادي لدروس السباحة مرتين في الأسبوع، وكان تطوّر الأولاد مستمراً، لكن في بعض الأحيان كانوا يواجهون مصاعب كبيرة في إتقان بعض الحركات. ولمّا كانت تبدو عليّ مظاهر القلق والاستغراب، كان المدرب يقول لي: “لا تقلق، ستجدهم يتقنونها فجأة”، لم أفهم ماذا يقصد، فلم يكن يتحدّث عن الإتقان من خلال كثرة التكرار والمحاولات، كان يتكلم عن شيء مختلف. مرّت حوالي خمس سنوات قبل أن أدرك السر، كيف يمكن للمرء أن يتقن مهارة معينة “فجأة”.
مؤخراً، قرّرتُ أن أعرف أكثر عن موضوعٍ لطالما شعرت بأنه يحتوي الكثير من الأسرار، ليس له علاقة بالابتكار أو عالم الأعمال كما جرت العادة، بل هو أهمها جميعاً، إنه موضوع “النوم”.
حتى أفهم أكثر عن موضوع النوم، قرأت وبحثت كثيراً وسجّلت في دورة للبروفيسور في جامعة كاليفورنيا بيركلي، أحد أهم الباحثين في موضوع النوم ولديه أكثر من 100 بحث منشور في هذا المجال، وهو مؤلف كتاب “لماذا ننام”، أحد أشهر الكتب وأكثرها مبيعاً، ماثيو ووكر.
هالَني في هذه الدورة أنه على الرغم من التقدّم العلمي العظيم ومحاولات البشر استكشاف أقاصي الفضاء، نجدهم يقفون عاجزين عن فهم سلوك الدماغ بشكل كامل في أثناء النوم. فجأة وأنت نائم في أعمق مراحل النوم تقرر أكثر من مائة ألف خلية في الدماغ أن تستفيق وتنهض سوية لمدة من الزمن، ثم تخبو وتهدأ، ثم تستفيق، ثم تهدأ، تُكرر الحركة فيما يشبه الموجات المتناسقة. لا يعرف العلماء حتى هذه اللحظة سبب هذا السلوك العجيب.
هناك مرحلتان من النوم:
الأولى تسمّى نوم حركة العين السريعة :(Rapid Eye Movement REM): تتجلى في هذه المرحلة الرؤى والأحلام، وتُصاب فيها العضلات بالشلل المؤقت. والعجيب أن بعض أجزاء الدماغ تعمل في هذه المرحلة بفعالية أكبر بـ 30% منها في أثناء الصحو.
أما الثانية فهي نوم حركة العين غير السريعة (Non-REM or NREM): تحتوي على مرحلة من النوم الخفيف ومرحلة متوسطة ومرحلة ثالثة هي مرحلة النوم العميق، والتي يصعب أن يستفيق الإنسان منها إذا حاولنا إفاقته.
تعالوا أخبركم عن شيء من عجائب وفوائد نوم الـ (REM):
يعمل هذا النوع من النوم تماماً كالمُعالج النفسي لنا. يقوم الدماغ في أثناء النوم بمراجعة المشاعر السلبية والتجارب السيئة التي مررنا بها خلال النهار ويشذّبها ويخفف من حدتها، فنستيقظ عادة ونحن بحالة أفضل. تخيّل أنك في كل ليلة تذهب إلى معالج نفسي محترف وأنت لا تدري.
تعمل خلايا الدماغ على مراجعة المعلومات التي جمعناها والأمور التي تعلمناها وتحاول ربطها بالمعلومات والمعارف السابقة المخزنة لدينا. لذا، عندما نستيقظ في اليوم التالي، تكون لدينا نسخة محدثة من المعلومات المرتبة والمترابطة. ونتيجة لذلك، فإن هذه النسخة المحدثة من المعلومات تساعدنا في إيجاد حلول إبداعية لمشكلات لم نتمكن من حلها في اليوم السابق. فالنوم في الليل يعمل كمدرّس خاص محترف مخلص لنا، وكذلك لأبنائنا، يساعدنا في فهم وربط ما تعلمناه كل اليوم.
أما نوم الـ (NREM) فله فوائد كثيرة اختصرتها في ثلاث:
تعمل أمواج الدماغ في أثناء النوم وكأنها أداة لنقل الملفات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة الدائمة في الدماغ، أي أن النوم يساعد في حفظ ما تعلمناه. النوم العميق هو “زر الحفظ” لمستند تعبنا في إعداده طوال اليوم.
في المراحل العميقة من النوم ينتقل الجهاز العصبي إلى مرحلة عميقة من السكون تساعد في خفض ضغط الدم وخفض نبضات القلب. يدخل القلب والجهاز العصبي في حالة استرخاء، وكم نحتاج إلى هذا الاسترخاء.
خلال المراحل العميقة للنمو يعاد شحن نظام المناعة لدينا، كما تعاد تهيئة الترسانة الدفاعية لهذا الجهاز. يقولون: النوم العميق هو أفضل نظام دفاعي ضد الأمراض يمكن أن تتمناه.
هناك تجربة عالمية تتم مرتين سنوياً حول تأثير عدد ساعات النوم، ويشارك فيها مليار و600 مليون شخص في 70 دولة، وذلك في الوقت الذي يتم فيه الانتقال من التوقيت الصيفي إلى الشتوي والعكس. وجَدَتْ الدراسات أننا عندما نخسر ساعة من نومنا بسبب الانتقال من التوقيت الشتوي إلى الصيفي فإن عدد إصابات النوبات القلبية يرتفع بنسبة 24% في اليوم التالي للتغيير. وعندما ننتقل إلى التوقيت الشتوي، أي نكسب ساعة نوم إضافية، فإن عدد الإصابات بالنوبات القلبية يقل بنسبة 20%. ووجدت الدراسات أن لهذه الساعة التي نكسبها أو نخسرها تأثيراً على عدد الحوادث وعدد حالات الانتحار بل حتى على مزاج القضاة الفدراليين في أميركا. إياك أن تذهب إلى القاضي في اليوم التالي لبدء التوقيت الصيفي.
أجرت مجموعة من العلماء دراسة علمية مثيرة للاهتمام، إذ قاموا بإعطاء ثلاثة مجموعات من البالغين معلومات جديدة تحتاج إلى تذكّر وربط بعضها مع بعض. فجعلوا المشاركين ضمن المجموعة الأولى ينامون بشكل طبيعي طيلة السبعة أيام، أما المشاركون في المجموعة الثانية فأعطوهم مادة منبهة مثل القهوة في الليلة الأولى، وأعطوا المشاركين في المجموعة الثالثة المادة المنبهة في الليلة الثالثة فقط، ثم قاموا في اليوم السابع بقياس مقدار ما تعلمته كل مجموعة، فكانت النتائج صادمة؛ إذ وجدوا أن مشاركي المجموعة التي تناولت المادة المنبهة في الليلة الأولى وتلك التي تناولتها في الليلة الثالثة قد فقدوا من 30% إلى 50% مما تعلموه مقارنة بمشاركي المجموعة التي نامت نوماً طبيعياً. والعجيب أيضاً في الدراسة أنهم وجدوا أن حفظ المعلومات التي نأخذها وربطها قد يستغرق أياماً، فعدم النوم جيداً حتى في الليلة الثالثة كان له أثر كبير في الحفاظ على ما اكتسبناه.
دلّت الأبحاث العلمية على أن النوم العميق بعد التمرين يصقل المهارات الرياضية التي تعلمناها وينمّيها بنسبة تصل من 20 إلى 30%. أيعقل هذا؟ كأن لديك مدرّباً خاصاً في أثناء النوم، تستيقظ وقد أتقنتَ بعض الحركات، هذا هو الجواب الذي عرفتُه بعد سنوات حول إتقان الأولاد لحركات السباحة.
كم ساعة نوم نحتاج يومياً؟ يحتاج الشخص البالغ من 7 إلى 9 ساعات، ويُشير المركز الأميركي لمكافحة الأمراض إلى أن عدد ساعات النوم يجب ألا يقل عن 7 ساعات. يقول رئيس قسم طب النوم في كلية الطب بجامعة نورث وسترن، البروفيسور فيليس زي: “إن الحصول على ساعات النوم السبع الموصى بها أمر مهم لوظيفة التمثيل الغذائي وتنظيم الوزن وصحة الدماغ. ويرتبط عدم كفاية وجودة النوم بآثار صحية سيئة على المدى القصير والبعيد، ويزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري ومشاكل الذاكرة”.
لا تنعكس آثار قلة النوم على الفرد فقط، بل تؤثر على المجتمع والدولة بأكملها. فقد وجدَتْ إحدى الدراسات الأميركية أن الموظف الذي لا ينام جيداً يكلّف شركته حوالي 2,516 دولاراً من الخسائر سنوياً، حتى وإن كان ملتزماً بمواعيد الدوام. وفي أميركا وحدها، بلغت الخسائر التقديرية السنوية بسبب قلة النوم حوالي 411 مليار دولار. بل إن هناك 1.2 مليون حادث مرور سنوياً في أميركا بسبب قلة النوم.
قبل أيام، أعلنت السعودية عن غرامة جديدة قيمتها 1,000 ريال (266.61 دولاراً) لمن يقوم بنشر الغسيل على الشُّرفات، ولعل الإعلان دفعني لاختيار هذا العنوان، ولست أدعو حقيقة إلى تغريم من يفرّط في النوم، بل أدعو شركات التأمين والمؤسسات والجهات المعنية إلى مكافأة من يأخذ القدر الكافي من النوم ليلاً، تماماً كما تتم أحياناً مكافأة من يمارس الرياضة، لما في ذلك من أثر عظيم على صحة الفرد والعائلة والمجتمع.
لعل مقالي البسيط هذا يصنع منكم “سفراء للنوم” هذه المرة، وليس “سفراء للابتكار” كما كنت أحاول دائماً. لعلنا نبدأ بإخبار من حولنا عن أهمية النوم وفوائده، ولعلنا نبدأ بالحرص أكثر على أخذ القدر الكافي من النوم وبالجودة المطلوبة.
الوسوم : الإبدا