أنور عمران – الناس نيوز ::
من ثلاثين سنة، تحت شجرة التوت العالية، كعادتها كانت ميرفت تجلس القرفصاء، ومع بناتِ عمّها تلتقط الحبّات الحمراء وحبّات الدموع، وكنّا أنا وثلاثة من أبناء عمومتي ننظر من بعيدٍ ونلوِّح لها، لم ترَ الأيادي وهي تخفق مثل راياتٍ مكسورة في الهواء، لم ترَ غير التوتِ الذي فرَّ إلى شفتيها، هناك حيث يسكن الأحمرُ النهائيُّ بيتاً من طابقين: طابق الزيف، وطابق الحقيقة.
كل أبناء عمومتي كانوا يعشقون ميرفت، وربما كل رجال الأرض كذلك، وسَيّئُ الحظّ منّا، الذي لم تبتسم له ميرفت، أو حتى تعطيه التفاتةً حارقة، حاول أن يعشق واحدةً من قريباتها اللواتي يقاسمنها حبّات التوت، لكن ذلك كان بلا جدوى، فصورتُها كانت دائماً خلفيةً لكل الأحلام الحمراء، واسمها كان دائماً مُنتهى الصدى، وكأنها أصلُ النساء في الأرض، وكأن الأخرياتِ نسخٌ مزوّرةٌ عن دلالها.
شجرةُ التوتِ أعلى قليلاً مما نشتهي، وظلّها العريض وهو يمتدّ فوق البئر المجاور، يكشفُ الشمسَ قليلاً، على شكلِ دوائر صفراء وسحرية تتمايل مع الهواء الخفيف بين الأغصان، وكأنها عيون الآلهة، وتتشبّث بالقلوب، حتى يصير البئرُ أرحمَ من الحلم، ويصير الماءُ أغنيةً تدندنها الشياطين وهي تتلصصُ على التنانير، تنورة ميرفت، وتنانير بناتِ عمّها.
وميرفت تعبد إلهاً يختلف قليلاً مع إلهي حول شؤون إدارة المُلك، ولكننا، وعندما كنّا صغاراً، ونعيش، ونحبّ، ونبكي تحت شجرة التوت، لم يكن يعنينا أي الإلهين على حقّ، وإنما كنّا نميل للإله الذي يتساهل أكثر مع القُبل!!
…..
بعد عشرين سنة، قال قائلٌ: ” يجب أن نقتلعَ الطغيان”، فردّ الصدى: “يريدون أن يقتلعوا إلهنا”، ومع هذا الاختلاف القاتل بين العبارتين، وُلدتْ جيوشٌ وألويةٌ وأئمة، وكان يلزم الجيوش والأئمة كي يعيشوا أن نموت، فاندلعت الحرب، وبعد أن اندلعت الحرب بين أتباع الإلهين، ظلّت شجرة التوت وحيدةً من غيرنا، ومن غير ميرفت، فقد كانت الشجرة تقف تماماً -كقوّات الفصل- على الحدّ الفاصل بين حقولنا وحقولهم، دارت المعارك إذن، واعتدنا على صوت الرصاص، وتعلّم الأولاد -أولادنا وأولادهم – إطلاق الصواريخ المحمولة على الكتف، وصناعة المتفجرات المنزلية، واللهو مع الموت.
ابن عمي الذي كان أشدَّنا عشقاً لميرفت، صار خطيباً يُحرّض الآخرين على الموت في سبيل إله جماعتنا، أما أقرباء ميرفت من الرجال والنساء فقد حملوا البنادق، وصوّبوها إلى صدورنا، مات آلاف العشّاق من جماعتنا، مات آلاف العشّاق من جماعتها، وفي زحمة الموت، دفَنّا الإلهين معاً في مقبرة جماعيةٍ واحدةٍ من دون أن ننتبه!!
ربما انتهت الحرب الآن، وربما لم تنتهِ بعد، لكنني أعرف أن شجرة التوت الآن مريضةٌ، وتحنو على ظلّينِ طفلين، ظلّان يبحثان عن حباتِ التوت، ولكنهما لا يجدان إلا الدموع…
وأعرف أن ميرفت تجلس وحيدةً بلا عشّاق، في منزلٍ أكلتْ سقفه القذائف.
كان من الممكن أن تنتهي الحرب باكراً.
كان من الممكن ألا تبدأ الحرب أصلاً.
لو بقي رجال العالم ينظرون إلى ميرفت، ويبكون من وجع الحُبّ تحت شجرة التوت.
لو بقيت ميرفت حاكمةً على السور الفاصل بين الإلهين!!